كتاب «العصبيات وآفاتها» لمصطفى حجازي..التوقيت «الشتوي والصيفي» خير دليل!

العصبيات

كتاب “العصبيات و آفاتها-هدر الأوطان واستلاب الانسان” (٢٠١٩) للباحث مصطفى حجازي امتدادٌ لمؤلّفيه السابقَين المعنونَين “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور” (١٩٧٦) و”سيكولوجية الانسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية” (٢٠٠٦) واستكمال لهما في سبيل عرضٍ لتحليل أعمق يظهر السبب الأساس الذي يقف وراء تعثّر التغيير و إخفاقه، ويتسبب في ضعف بناء الديمقراطية في الدول العربية عموماً، ومنها اللبنانية.

قدّم مصطفى حجازي، أستاذ جامعي و باحث وأكاديمي، مقاربة حديثة لممارسة السلطة السياسية الاستبدادية، من خلال طرح تسلسل أسهم في توضيح الأواليات التي تستخدمها هذه السلطة، بهدف الحفاظ على بقائها واستمراريتها وتماسكها. واعتبر أنها تعمد إلى إرساء التخلّف و تتبنّاه بديلاً عن التقدم، من أجل قهر الانسان ودفعه إلى مستنقع الأصولية التي تقوّي بدورها العصبية. بمعنى آخر، تحاصر السلطة شعبها بأذرعة التخلف، المتمثّلة في الفكر الأصولي والعصبيات والاستبداد وتسعى إلى خنقه. وبحسب الكاتب، “لا تعترف هذه الثلاثية بكيان وطني جامع يتجاوزها، بل هي تلتهمه فتجعله هو هي. كما لا يهمها تحرير الانسان وبناء اقتداره، بل تهتم باستتباعه وولائه لها”. أتت هذه الثلاثية لتعمل على تصفية الانسان العربي عبر ما سمّاه حجازي باللاوعي الثقافي الجمعي الذي يتحكّم في “سيستام” السلطة السياسية و يحدّد علاقاتها، ويجذّر أكثر فأكثر التخلف الاجتماعي، الذي اعتبره ملازماً لانحدار الحضارة العربية الاسلامية وانحطاطها.

حجازي: الخطاب العصبي نتيجة طبيعية للأصولية التي تعدّ ترجمة للتعصب الذي يتغذّى من الحرب المقدّسة

ومن هذا المنطلق، ومن خلال ما طرحه الكاتب، يمكن القول أن السلطة السياسية تبرّر استبدادها بحجة أنها تريد حماية نفسها من الأصولية، التي اوجدتها هي بنفسها بفعل ما “أنجزته” من الحرمان، في صفوف مواطنيها و تهميشهم. بمعنى آخر، تموّه نفاقها في لعب دور الضحية!..

بما أن “العصبيات وآفاتها-هدر الأوطان و استلاب الانسان” يتناول حال الدول العربية، فإنه ينطبق على الواقع اللبناني، الذي أضحى يشكّل نموذجاً واضحاً عمّا ورد في المؤلّف نظراً لما يعانيه من تخلّف اجتماعي، تسبّبت به سلطة سياسية لم تكتفِ فقط في ارساء الحرمان، إنما تعمّدت من وراء ذلك دفع اللبناني “المحروم”، إلى التعصّب المذهبي لأن ذلك يخدم مصالح أربابها.

وتأتي مقاربة الواقع اللبناني من منظور ما عرضه حجازي لتسهم في تشريحه، أي هذا الواقع، وصولاً إلى تشخيصه.

وقبل التوسّع في هذه المقاربة، يجب الإشارة إلى أن استبداد السلطة، لا يتعلق فقط بحرمان شعبها من حقه في الحريات العامة، وضعف الديمقراطية فحسب، و إنما أيضاً من حقوقه المشروعة في التعليم و الطبابة وتوفير مستلزمات العيش. و من هذا المنطلق، تصنَّف السلطة السياسية في لبنان بالاستبدادية و ليس الديمقراطية!….

تقصّدت طائفية السلطة السياسية في لبنان رمي مواطنها في بؤرة من التخلف الاجتماعي فحرمته أبسط حقوقه من مأكل و ضمان صحي و طباب

تقصّدت طائفية السلطة السياسية في لبنان، رمي مواطنها في بؤرة من التخلف الاجتماعي، فحرمته أبسط حقوقه من مأكل و ضمان صحي و طبابة .. كما وقفت رادعاً أمام حصوله على أدنى مستوى العيش الكريم. لقد اقتصّت من مواطنيّته بعد أن تمادت في قهره اجتماعياً واقتصادياً ومهنياً وتربوياً…. و عزّزت بذلك استبدادها.

إقرأ ايضاً: بالفيديو: تصفية حسابات داخل «حركة أمل» جنوباً..خطف شقيق رئيس بلدية المجادل على خلفية مالية!

وأدّى التخلّف الاجتماعي إلى خلق “اللبناني المقهور”، نتيجة ما كابده من حرمان و ما يزال من جراء سلطة، تمادت في نهب ثروات الدولة وإفلاس مؤسساتها. وجد هذا “المقهور” في طائفته منقذاً له، فلجأ إلى مؤسساتها التي “تغذّت” على حساب مؤسسات الدولة، ليحصل على حقوقه المشروعة. و كانت النتيجة البديهية أن يتبدّى الخطاب العصبي، شيئاً فشيئاً، و يتواتر، وتنتشر عدواه في كل مرة تزداد الأزمات.

أما فيما يتعلق بالخطاب العصبي، فاعتبره حجازي نتيجة طبيعية للأصولية، التي تعدّ ترجمة للتعصب الذي يتغذّى من الحرب المقدّسة. كما رأى أن السعي إلى المقدّس يبرّر كل أشكال العنف التي يطلَق عليها “جهاداً”. وهنا، تأتي “الذات الارهابية” وليدة التعصب. و لا تشعر هذه الذات بالذنب بعد ارتكابها الجرائم، بل تتفنّن في القتل، وخصوصاً بعد ما سمّاه حجازي بالانشطار بين “النحن” التي تمثل السمو و “الأنتم” المتمثلة في “الدنس”.

هذا ما نلاحظه، تحديداً، في المجتمع اللبناني مع ما يجري من “تأثيم” الآخر، الذي أشار إليه الكاتب، واعتبره أساساً ليس فقط لوجود الاستبداد الفكري والسياسي، و إنما أيضاً التجريم الفكري و السياسي.

وما جرى مؤخراً من انقسام اللبنانيين”طائفياً” حول العمل بالتوقيت الصيفي، يعكس بشكل جليّ ما اقترفته السلطة السياسية، من فتنة خطيرة وخفيّة بين صفوفهم . و تبدّى ذلك من خلال “سرعة” انقسامٍ بين “الصيفي” و “الشتوي” عكست عملية الاستلاب التي قادتها هذه السلطة. و ما صرف اللبنانيين لوعيهم عن القضايا المعيشية المحقّة، و تلهّيهم عن المطالبة بمستوى معيشي لائق، سوى خطوة أولى لتجذّر التعصب الطائفي الذي يعيد احياء التفكير الأصولي. و لذلك تأتي طائفية التوقيت و الساعة لتجسّد مثالاً عمّا تناوله مصطفى حجازي في كتابه.

ما جرى مؤخراً من انقسام اللبنانيين”طائفياً” حول العمل بالتوقيت الصيفي يعكس بشكل جليّ ما اقترفته السلطة السياسية من فتنة خطيرة وخفيّة بين صفوفهم

لقد غذّت السلطة السياسية في لبنان بطائفيتها التعصبّ المذهبي، لأنها رأت فيه أداة “واعدة” للحفاظ على استمراريتها، و لم يكن الحرمان الذي نشرته من جرّاء فسادها سوى “ملاذاً” !…

خلاصة ، لم يقدّم مصطفى حجازي في كتابه “العصبيات وآفاتها- هدر الأوطان و استلاب الانسان” تحليلاً لواقع معين فحسب، إنما حمل بين فصوله ثورة لوعيّ دفعه إلى “اليقظة”، بعد أن فقد بوصلته، إن جاز التعبير، في إداركه لهذا الواقع.
أخيراً ، لا يمكن أن يأتي التغيير “سطحياً”. بمعنى آخر، لا يمكن حصوله من خلال المطالبة بتغيير النظام أو اسقاطه، ما لم تتمّ “يقظة” الوعي نفسه.

السابق
ليف أكدت لبري وجوب الاتفاق مع صندوق النقد على حل سريعاً
التالي
حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: أَخْرِسوا الزامور