وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: التهديد بالفوضى جهد العاجز

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

هدد أمين عام حزب الله حس نصر الله، بأن ردّه على “تخطيط الأمريكي وجماعته في لبنان بالفوضى”، هو “أن تنتظروا الفوضى في كل المنطقة”، وأنه حين “تمتد مؤامراتكم إلى اليد التي تؤلمنا وهي ناسنا سنمد أيدينا وسلاحنا إلى اليد التي تؤلمكم وهي ربيبتكم إسرائيل”، فمن “يريد أن يدفع لبنان إلى الفوضى أو الانهيار عليه أن يتوقع منا ما لا يخطر في بال أو وهم”.

هذا التهديد يوحي بجهوزية الحزب في شن حرب شاملة في المنطقة بأسرها.. ولكن!

هذا التهديد يوحي بجهوزية الحزب في شن حرب شاملة في المنطقة بأسرها، والاستعداد لإشعال الجبهة ضد “إسرائيل ربيبة الأمريكيين” كرد وانتقام لما “يخطط له الأمريكيون في منطقتنا”.  لكن هذا التهديد، هو في حقيقته استراتيجية خطاب تعودناها من الحزب تقوم على أمرين:

أولها: تعميم وترويج صورة موازية متخيّلة للواقع لا للتبصّر في هذه الواقع، وإنما لصرف الأنظار عنه واصطناع أسباب وهمية للأزمة المعيشية والاقتصادية من خارج سياقها.  فضلاً عن المسعى لتبرئة حزب الله نفسه من لوثة الفساد ومن كون سياساته وأدائه ورهاناته، هي جميعها السبب الرئيسي في وصول اللبنانيين إلى أسوأ وضع متخيّل، ووصول لبنان إلى أخطر مرحلة من وجوده.  يريد نصر الله أن يصور ما حصل في لبنان بأنه تبعات حرب وصراع بين معسكري خير وشر، لا ثمار إخفاق داخلي ونتاج قرارات وسياسات خاطئة، بأننا ضحيّة مؤامرة وحصار وتجويع، لا ضحية تدمير ممنهج للدولة والسيادة والقضاء حصلت من الداخل وبرعاية تامة منه.    

ثانيها: إرسال رسائل سياسية، لكن لا بلغة الاستجداء أو طلب التعاطف، وإنما بأسلوب التهديد والوعيد المشفّرين اللذين يختزنان مضامين ومطالب سياسية. وهو أسلوب تتعامل معه كل دول القرار المعنية بالشأن اللبناني، إما بالاستخفاف والتندر، وإما بالتجاهل التام والمطلق، لمعرفتهم المسبقة بعدم جدّية وواقعية هذه التهديدات.

لعلنا بحاجة هنا إلى الإجابة على سؤالين: ماذا يعني هذا التهديد، أي لماذا أطلق نصر الله تهديداته الأخيرة بهذه الصورة العنيفة والمتهورة؟ وما هي الرسائل وراء هذه التهديدات؟

شن الحرب على إسرائيل في الوضع الراهن، سيكون فعلاً انتحارياً خالصاً، لا يقدم عليه إلا مجنون أو مستخف بأرواح العباد

  الكل يعرف أن الحرب مع إسرائيل ليست للتسلية أو مسألة عزّة وكرامة، بل مسألة أرواح ودمار وحسابات دقيقة ومصير وطن وشعب. وقد علّمتنا التجربة أن الحرب مع إسرائيل تؤلمها لكنها بالمقابل تدمرنا، وأن أيّة حرب مقبلة للحزب منفرداً ضد إسرائيل، ستكون بمثابة الضربة القاصمة للبنان وأهله، ولن  يعوض ذلك الشعارات والاحتفالات الصاخبة والادعاءات المضخمة التي يمارسها الحزب إثر كل حرب.  ما يعني أن شن الحرب على إسرائيل في الوضع الراهن، سيكون فعلاً انتحارياً خالصاً، لا يقدم عليه إلا مجنون أو مستخف بأرواح العباد.

لا ننسى هنا، أن التعافي المادي من آثار حرب 2006 المشؤومة لم يتوقف حتى الآن، رغم وجود تمويل عربي له.  فكيف إذا شن الحزب حرباً لوحده على إسرائيل وهو في حالة عزلة كاملة عن محيطه العربي والعالم، وفي وضعية مشبوهة بتجارة المخدرات وتهمة الإرهاب. فهذا ليس سوى هدية مجانية لإسرائيل في تدمير لبنان، وتهجير الشيعة من قراهم وتشريدهم خارج بيوتهم، بتجاهل عربي ودعم دولي.  

تهديد نصرالله يفقد أية جدية، ويعكس مأزقاً عميقاً للحزب

حين نعلم، أن نصر الله قطع وعداً للأمريكيين وغيرهم بأن مواجهة الحزب مع إسرائيل لن تكون إلا في حال الدفاع عن النفس، فإن تهديده يفقد أية جدية، وأنه يعكس مأزقاً عميقاً للحزب. هذا تجلى في عجز الحزب بل فشله وتناقضاته في التعامل مع أزمة لبنان الإقتصادية التي خنقت جمهوره، ولم يكن لديه شيئاً يقدمه لهم سوى شعارات نضالية فارغة ومقترحات اقتصادية ساذجة.

  أما المأزق الحقيقي فيتمثل في عجز الحزب عن تكرار سيناريو رئاسة ميشال عون والإتيان بمرشحه سليمان فرنجية. وهو مأزق ليس سببه الخارج العربي والدولي فحسب، بل وجود قوى داخلية ومزاج لبناني عام حتى لدى من كانوا حلفاء للحزب، بعدم السماح له في إدارة اللعبة السياسية بمفرده وفرض أجندته. هذا العجز رافقه إصرار دوليّ أيضاً بعدم القبول بمرشح الحزب، وبعدم اهتمام دولي بطرح حلول ومخارج للأزمة اللبنانية. إضافة إلى غياب أية مبادرة اقتصادية لانتشال لبنان من كارثته المالية، لأن الجميع يدرك أن انتشال لبنان الآن من مأزقه الاقتصادي، هو انتشال للحزب نفسه من ورطة كبيرة كان هو سببها، ولا  يعرف كيف يديرها أو يتخلص منها. 

هذا الوضع أفقد حزب الله قوته التفاوضية وضيّق هامش مناورته. فخصومه في الداخل لن يسارعوا إلى مراضاته خوفاً على اقتصاد لبنان ومؤسساته، أي لم يعد لديهم شيئاً يخافون عليه ليساوموه أو يفاوضوه أو يسلموا له مثلما فعلوا في انتخاب ميشال عون رئيساً، بعدما انهار كل شيء تقريباً في لبنان.  وأما الخارج، فلم يعد لدى أحد رغبة أو شهية في التورط بالشأن الداخلي اللبناني، سوى عزل أية ارتدادات داخلية تحدث داخل لبنان باتجاه الخارج. أي ترك لبنان لمصير الموت البطيء، الذي تسببت به تراكمات وانتهاكات خطيرة على مر الزمن، لكن كانت تحكمات حزب الله التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري، بمثابة الضربة القاتلة للبنان.  بالتالي فإن التهديد بالفوضى لا يعتبر رفعاً لسقف حزب الله التفاوضي، نتيجة عدم وجود شيء في لبنان يفاوضونه عليه، وإنما هو في العمق نداء استغاثة من الحزب للعالم، بالدعوة إلى المبادرة والتفاوض، لا التعامل بمزيد من الحصار عليه وبالإعراض عن اتخاذ أية مبادرة إنقاذية.

  التهديد يعبر عن ذهنية وثقافة ترى الفوضى والحروب خيارات سهلة ومريحة، وأن تداولها يعوض على اللبنانيين أوجاعهم وخسارتهم

رغم لامبالاة صناع القرار في العالم بهذا التهديد، لكنه تهديد يعبر عن ذهنية وثقافة ترى الفوضى والحروب خيارات سهلة ومريحة، وأن تداولها يعوّض على اللبنانيين أوجاعهم وخسارتهم. كأن ما في اللبنانيين لا يكفيهم من يأس وإحباط، وكأن الفوضى وما تفجره من ضغائن وجرائم وانهيارات بالجملة هي طريق الحل، وكأن الحروب وما تخلفه من دمار وقتل وتشريد تعبد الطريق نحو مستقبل زاهر، وكأن الموت والانتحار هو البديل الأمثل عن راهن اللبنانيين.

هل هذا أفضل ما عند الحزب أن يقدمه للبنانيين في وضعهم الراهن؟ هل الحرب هي البديل المفضل عنده من الاعتراف بالخطأ وتقديم تنازلات متبادلة ليسلم لبنان؟ وهل التهديد بالفوضى مظهر اقتدار وقوة وسمة قيادة حكيمة أم هو جهد العاجز؟   

السابق
قرار للمركزي متعلق بالإجراءات الإستثنائية للسحوبات النقدية
التالي
التمديد لإبراهيم بين «الفذلكة» القانونية و«التهلكة» السياسية!