عام على «تعليق» الحريري.. قراءة في الأخطاء والخطايا و«حسن النية»!

ياسين شبلي

عام مضى على القرار التاريخي للرئيس سعد الحريري، بتعليق عمله وعمل تياره السياسي في لبنان، الذي فاجأ وصدم الكثيرين يومها من أنصار وخصوم، محبين ومبغضين. الأنصار والمحبون أحسوا بالحزن والخسارة ، الخصوم تهيبوا الموقف لعدم تعودهم هكذا ممارسة، المبغضون – صِغَارهم وكِبَارهم – فرحوا ولو في سرهم، وإعتبروها فرصة لتسلق سلم الزعامة على آلام وإحباط الناس.

اليوم بعد مرور عام على التعليق يبدو لي بأن المناقشة قد تكون أكثر هدوءا وموضوعية، لمسيرة سياسية شخصية وعامة كانت عاصفة في كل مراحلها حافلة بالنجاحات والإخفاقات

 اليوم بعد مرور عام على التعليق، يبدو لي بأن المناقشة قد تكون أكثر هدوءا وموضوعية، لمسيرة سياسية شخصية وعامة، كانت عاصفة في كل مراحلها، حافلة بالنجاحات والإخفاقات، بالأفراح والأتراح، بالتعب والدم والدموع، مسيرة بدأت بصورة دراماتيكية يوم 14 شباط 2005 بدمعة وطن على رجل إستثنائي في تاريخ لبنان، ودمعة إبن على والده الشهيد المظلوم والمقتول غدراً وغيلة، وعُلِّقت أيضاً بصورة دراماتيكية يوم 24 كانون الثاني 2022، بدمعة على الوطن هذه المرة وعلى حلم الرجل – الوالد، من عين رجل دولة حاول على مدى 17 عاماً من العمل، بالصلابة حيناً عندما إقتضت الحاجة، وباللين وتدوير الزوايا أحياناً أخرى كثيرة  درءاً للمخاطر عن الوطن والناس، تعرض خلالها للكثير من الضغط والترهيب السياسي والعسكري والأمني، وحتى الإعلامي من الخصوم والأعداء، وللتنمر والإبتزاز السياسي والمالي من بعض المقربين والحلفاء، الأقربين منهم والأبعدين، حتى فاض كأسه ونفد صبره، فأستودع الله على طريقة والده الراحل  هذا البلد الحبيب لبنان.. ومشى. 

تعرض خلالها للكثير من الضغط والترهيب السياسي والعسكري والأمني وحتى الإعلامي من الخصوم والأعداء وللتنمر والإبتزاز السياسي والمالي من بعض المقربين والحلفاء الأقربين منهم والأبعدين

لسنا بحاجة لإستعراض مراحل وممارسات السنوات ال 17 الماضية مجدداً، فقد أشبعناها سابقاً درساً وتمحيصاً ونقداً،  سواء من ناحية تأثيرها على المستوى الوطني العام، أو تأثيرها على دور سعد الحريري ومكانته السياسية والشخصية، وسط أنصاره وبيئته السياسية والطائفية، ولكن يمكن إختصارها بما إنتهت إليه بمشهد سعد الحريري  وهو يلقي خطاب تعليق العمل السياسي منذ عام، حيث خرج “جريحاً” محمَّلاً بأخطاء وخطايا، حصلت سواء على مستوى الطائفة أو على مستوى الوطن، ساهم بالتأكيد في البعض منها، عن سوء تقدير وليس عن سوء نية، ظناً منه أنه بذلك يحمي البلد ويجنبه الأسوأ، لكنه بالتأكيد لم يكن المسؤول الوحيد عنها ولا عن مآلاتها، والدليل بأن الوضع اليوم على المستويين السني الداخلي والوطني العام بعد غياب سنة كاملة، هو أسوأ بكثير مما كان عليه قبل عام، وهنا بيت القصيد . 

كان غياب الرئيس الحريري عن الساحة السياسية اللبنانية بمثابة “ضربة معلم”، وضعت الجميع من خصوم وحلفاء وشركاء “مضاربين” أمام مسؤولياتهم داخل الطائفة والوطن.

خرج “جريحاً” محمَّلاً بأخطاء وخطايا حصلت سواء على مستوى الطائفة أو على مستوى الوطن

فعلى مستوى الطائفة السنية، التي أُتهم الرئيس الحريري بأنه أخرجها من “المعادلة الوطنية”، لم يبرز من صفوفها في العام الماضي، من يتقدم ليعيدها إلى هذه المعادلة، ويتصدى للمشاكل التي كان يستسهل وضعها على أكتاف الرئيس الحريري، خاصة من أولئك الذين لم يكفوا منذ سنين عن المزايدة والمماحكة، سوى قلة من الأشخاص الذين كان همهم – ولا يزال – وراثة الحريري سياسياً بأي شكل من الأشكال، وذلك عبر تشويه مسيرته بالمزايدة والمبالغة في تحميله مسؤولية الإنهيار، دون الأخذ بعين الإعتبار الظروف الموضوعية وموازين القوى الداخلية والإقليمية، التي لطالما كانت تلعب دورها في المعادلة السياسية والوطنية، فكان أن تقدموا بترشيحاتهم للإنتخابات النيابية – وهذا حقهم على أية حال – ، فلم يحصدوا سوى الخيبة والخذلان، من جراء المقاطعة الشعبية من ناحية، وجراء بروز عامل جديد على الساحة، تمثَّل بثورة 17 تشرين والتغيير الذي أحدثته – ولو نسبياً – في الساحة السياسية، ومن فاز منهم خاصة في طرابلس، إنما كان بفضل عدم ترشح الرئيس نجيب ميقاتي.

كان غياب الرئيس الحريري عن الساحة السياسية اللبنانية بمثابة “ضربة معلم”، وضعت الجميع من خصوم وحلفاء وشركاء “مضاربين” أمام مسؤولياتهم داخل الطائفة والوطن

فكان أن ثَبُت بعد عام من التعليق، بأن سعد الحريري لا يزال هو الأقوى داخل الطائفة السنية، وبأنه الغائب – الحاضر دائماً في وجدان البلد والناس، وبأن الرجل لم يكن يوماً فاشلاً أو متهاوناً أو مهمِلاً لمسؤولياته، والدليل بأنه في الفترة الأولى من توليه المسؤولية، وذلك قبل 2008 عندما كانت الظروف الإقليمية والدولية مواتية، حقق الرجل نجاحات – مع رفاقه طبعاً – وكان صلباً في مواجهته مع الطرف الآخر، رغم كل التهديدات والإغتيالات والحروب والتفجيرات التي شُنت عليه وعلى البلد، فكان أن نجح بتحقيق أهداف ثورة الأرز، المتمثلة بخروج القوات السورية من لبنان بعد 30 عام من الوصاية، وإسقاط النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك ورموزه الأمنية والقضائية، والسعي الدؤوب والمضني مع دول العالم أجمع، لإقامة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، للتحقيق في جريمة إغتيال الرئيس الشهيد، فضلاً عن المصاعب والأخطار الداخلية التي واجهها بعزم وتصميم في سبيل تحقيقها، فلم تثنه الإغتيالات ولم تردعه التهديدات عن هدفه في سبيل معرفة الحقيقة، ليكون بذلك الإبن البار بأبيه  مهما غلت التضحيات.

كان صادقاً في تعاملاته ومسؤولاً في ممارساته بحيث بذل جهداً من ناحيته بدرجة مئة بالمئة ولم يقصِّر لكنه لم يكن ليضمن النتائج بنفس النسبة

 بعد العام  2008 ، تغيرت الظروف الدولية وبالتالي الإقليمية، فتغيرت المعادلة الداخلية مع دخول التيار الوطني الحر إلى السلطة، وإنسحاب وليد جنبلاط من قوى 14 آذار، وتراجع القوات اللبنانية إلى الساحة المسيحية، لمواجهة خصمها القادم الجديد إلى السلطة، فلم يعد هناك من مجال إلا لمحاولة تدوير الزوايا، ومحاولة تخفيف الخسائر عن البلد والناس، خاض الرجل المغامرة لعدة مرات رغم النكسات والنَكْث بالوعود والعهود، كان صادقاً في تعاملاته ومسؤولاً في ممارساته، بحيث بذل جهداً من ناحيته بدرجة مئة بالمئة ولم يقصِّر، لكنه لم يكن ليضمن النتائج بنفس النسبة، لأن هناك أطرافا أخرى لم يكونوا على نفس النسبة من الصدق في التعامل والمسؤولية في الممارسة، والقدرة على بذل الجهود اللازمة لتحقيق الإنجازات للبلد والناس.

 اليوم وعلى أبواب ذكرى تعليق عمله السياسي، يعود البعض من المتسلقين الطامحين للوراثة عبر تبعيتهم للغير، للتصويب عليه و”نعيه” سياسياً مرة أخرى، في محاولة منهم لتكبير حجمهم، الذي ما كان ليكون له وجود، ولن يكون لولا سعد الحريري، كذلك أيضاً بعد المتصدرين الموسميين وهم من “عظام الرقبة” طالبي الزعامة عن بعد وعبر البحار، في محاولة جديدة ستكون بلا شك فاشلة لأنها بلا أفق، فالزعامة لا تكتسب فقط بالمال والإعلام و” الهوبرة ” السياسية.   

سعد الحريري لم يكن يُشكِّل أي عائق أمام أي محاولة للإنقاذ أو التقدم وأن المشكلة هي في مكان آخر يعرفه الجميع والدليل هذا الجمود القاتل الذي يتعرض له البلد

 وكما على المستوى السني، كذلك على المستوى الوطني العام، حيث ثَبُتَ أيضاً بما لا يدع مجالاً للشك، بأن سعد الحريري لم يكن يُشكِّل أي عائق أمام أي محاولة للإنقاذ أو التقدم، وأن المشكلة هي في مكان آخر يعرفه الجميع، والدليل هذا الجمود القاتل، وهذا الموت البطيء الذي يتعرض له البلد، حيث الفراغ على كل المستويات فالدولة بلا رأس ، والجسد منهك ودخل مرحلة الإنهيار التام وحتى التحلل، بينما الطبقة السياسية لا زالت تمارس هوايتها في التعطيل والتحاصص وكأن شيئاً لم يكن، ضاربة عرض الحائط بكل ما حدث ويحدث منذ ثورة 17 تشرين 2019، التي لم يستجب أحد لمطالبها، إلا سعد الحريري عبر إستقالته أولاً في بدايتها، وإعتذاره ثانية بعد تكليفه، على أساس المبادرة الفرنسية بعد تفجير مرفأ بيروت، وعقب إقتناعه بعد معاناة وجهود 9 أشهر ذاق فيها “الأمرين” على المستوى السياسي والشخصي، من قِبَل ” بارونات ” العهد البائد، وإقتناعه بإستحالة الإصلاح والتغيير بوجود هذه العقلية في السلطة، ومن ثم إنسحابه وتعليق عمله وعمل تياره السياسي منذ عام.

تعليق سعد الحريري عمله السياسي كان له دور كبير في إفساح المجال لقوى التغيير لتعبِّر عن نفسها وتحصد ما حصدته في الإنتخابات النيابية الأخيرة

 هنا لا بد من الإشارة بأن تعليق سعد الحريري عمله السياسي، كان له دور كبير في إفساح المجال لقوى التغيير لتعبِّر عن نفسها، وتحصد ما حصدته في الإنتخابات النيابية الأخيرة، هنا أيضاً يمكن القول بأن ممارسات هذه القوى من داخل السلطة لم تكن على المستوى المطلوب – أقله حتى الآن – ولا نقول ذلك لنسجل عليها موقفاً، فهم في النهاية كأفراد ومنظمات “جداد ع الكار” وما ” صرلن بالقصر من مبارح العصر “، ولكن لنقول بأن روما من فوق هي غير روما من تحت، وبأن الكثير الكثير مما ألقي على كاهل سعد الحريري وحده سواء سنياً أو وطنياً، لم يكن في محله فالتنظير سهل جداً، لكن الممارسة السياسية وسط غابة من “الديناصورات” السياسية، والثعالب المدعمة بكل أسباب القوة والشراسة وقلة الأخلاق ، ليس بالأمر اليسير. يبقى أن ننتظر عودة سعد الحريري يوم 14 شباط إلى بيروت في ذكرى الشهيد الكبير – ولا نظنه إلا فاعلاً في هذا اليوم – ليُبنى على الشيء مقتضاه، فهل يستمر بتعليق عمله السياسي في ظل الإنسداد الحالي، أم يعود كما وعد أنصاره ومحبيه ليتابع المسيرة من حيث توقفت، أم تكون السنة الثانية من التعليق مكرسة لإعادة ترتيب بيت تيار “المستقبل” الداخلي، بعد كل التطورات الماضية حتى يكون جاهزاً ومواكباً لعودة رئيسه متى إقتضت الظروف؟

سنة ثانية غياب قد تكون مكلفة إذا لم يكن هناك من تحرك أقله على جبهة التيار الداخلية وعلى المستوى الشعبي الوطني وليس فقط المذهبي

 أسئلة كثيرة تنتظر أجوبة واضحة وسريعة، وإذا كانت فرصة تعليق العمل السياسي العام ضرورية ومطلوبة في وقتها، فإن سنة ثانية غياب قد تكون مكلفة، إذا لم يكن هناك من تحرك أقله على جبهة التيار الداخلية، وعلى المستوى الشعبي الوطني وليس فقط المذهبي، عبر العودة إلى جذور التيار الوطنية العابرة للطوائف، فالجمود في السياسة إن طال، قد يخلِّف فراغاً والطبيعة لا تحب الفراغ كما هو معروف، وإذا كان الوقت غير مواتياً وغير ذا منفعة – وهو كذلك – للعمل مع ومن داخل السلطة، فلا بأس من العمل وسط الناس ولو بالتدرج، من منطلق المعارضة والحشد لمحاولة الضغط والدفاع عن مصالح الناس، بحيث تشعر بأنها غير متروكة، وحتى لا يُترك لبعض الأطراف فرصة إستقطابها في غير وجهة المصلحة الوطنية اللبنانية، فأي الطرق سيختارسعد الحريري؟ إن غداً لناظره قريب ، فلننتظر.          

السابق
تمجيد العنف «إقصاء» العدالة…
التالي
البيطار يتحدّى «التمييزية».. «جنوبية» ينشر تبليغ دياب والمشنوق وزعيتر «لصقا»