هل يصلح «القضاء» الاوروبي ما أفسده «القَدَر» اللبناني؟!

المحكمة الدولية الخاصة بلبنان

تذكرني زيارات الوفود القضائية الأوروبية إلى بيروت، للتحقيق في أعمال جرمية تتصل بتبييض الأموال وغيرها من النشاطات المشبوهة، التي قد يكون قام بها بعض المصارف أو الأفراد اللبنانيين على الأراضي الأوروبية ، ذكرتني بالمَثَل المصري الظريف الذي يقول “جاي تبيع المَيَة بحارة السقايين “، للدلالة على عقم بعض الأفعال و”سذاجة” البعض في محاولته إختراق ساحة “تنافس وصراع “، محصنة ومضبوطة بقوانين خاصة موازية، تختلف عن قوانين المنافسة والصراع المتفق عليها.، وإن كانت ” تلعب ” شكلياً تحت سقف هذه القوانين. 

فحكاية لبنان مع القضاء الأجنبي، أقله في السنين الأخيرة حكاية طويلة، بدأت بعد زلزال 14 شباط 2005 الذي يُتم قريباً عامه ال17، عندما طالبت المعارضة يومها بالتحقيق الدولي في الجريمة، لما تعرفه من غياب أي تحقيق شفاف ومهني في لبنان، في جرائم سياسية سابقة – وما أكثرها – بقيت كلها طي التعتيم، وبعد أن لمست بأن هناك نية بتمرير هذه الجريمة الجديدة على خطورتها، كسابقاتها من الجرائم بحيث يقفل التحقيق على لا شيء، وتعود الحياة إلى طبيعتها بعد يوم أو يومين.

في 14 شباط 2005 إنقلب السحر على الساحر، عندما قالت الجماهير كلمتها فكان أن واكبها حراك سياسي داخلي معارض ومتين في لحظة إقليمية ودولية مواتية أفرزت واقعاً جديداً في لبنان

هذه النية وهذا السلوك الذي إعتمدته السلطة كما في كل ما حدث قبلها من جرائم، لطالما كان هو دائماً المؤشر الأول، إلى المرتكب الحقيقي المجهول – المعروف، لجرائم الإغتيال السياسي في لبنان أو لنقل معظمها، خاصة إبان الحرب الأهلية اللبنانية وتطوراتها، في ظل الصراع العربي والدولي الذي كان سائداً يومها . في 14 شباط 2005، إنقلب السحر على الساحر، عندما قالت الجماهير كلمتها، فكان أن واكبها حراك سياسي داخلي معارض ومتين، في لحظة إقليمية ودولية مواتية، أفرزت واقعاً جديداً في لبنان، تمثَّل بثورة الأرز وتبنيها مطلب التحقيق الدولي بجريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فكان أن بدأت المعركة بين فريق مؤيد بإسم الحقيقة، وبهدف نيل الحرية والسيادة والإستقلال، وآخر معارض بإسم عدم المس ب”السيادة” والخوف من التسييس، وهو العذر الرسمي المعلن، بينما الحقيقة كانت عدم الرغبة في كشف المستور، على طريقة “كاد المريب أن يقول خذوني”.

 كانت المعركة قاسية، كلفت الكثير من الدماء والأرواح، التي أزُهقت جراء الإغتيالات المتتالية بهدف الترهيب، كما كلفت الكثير من الجهد السياسي إقليمياً ودولياً، ما أدخل لبنان  في دوامة من الصراع لم يخرج منها حتى يومنا هذا، وهو ما يؤكد – وبِغَضْ النظر عن النتائج – صحة خيار اللجوء إلى التحقيق الدولي، فالمحكمة الدولية ، لأن  الطرف المعني بالإغتيال – وهو بالمناسبة ليس شخصاً أو حزباً، بقدر ما هو محور كامل مسؤول بالتكافل والتضامن عن ما  حدث – أُضطر لكشف نفسه عبر إستماتته في الدفاع عن مواقعه ومواقفه، بكل الوسائل المشروعة منها وغير المشروعة، وهو ما أودى بلبنان إلى الوضع الذي يكابده اليوم، والمصير المجهول الذي ينتظره جراء هذه الأزمات التي يعانيها.

إقرأ أيضاً:   بري «يُنكّل» بالنواب المعتصمين والجلسات..وفاسدو السلطة «مرتعبون» من «العين» الدولية!

هذه الأوضاع هي نفسها، التي عادت وفرضت الحديث عن تحقيق أوروبي في لبنان، ومجيء فرق تحقيق من ثلاث دول أوروبية، للتحقيق في نشاطات مشبوهة من تبييض أموال وغيرها، وهو ما يجعلنا نتساءل عن مدى قبول البعض – خاصة حزب الله – بما هو معروف عنه من “تحسس” لأي تدخل غربي في شؤون البلد، خاصة ما يتعلق منها بالمعلومات التي قد تقود بشكل أو بآخر، إلى فتح ملفات قد لا يكون  يرغب بفتحها، لما تشكله من باب قد يوصل إلى أبواب أخرى مغلقة على أسرار، قد تجر إلى تعقيدات هو بغنى عنها.

الأوروبيون إنما جاءوا إلى لبنان تلبية لنداء مصالحهم وليس همهم الإصلاح اللهم  إلا إذا تضاربت مصالحهم مع مصالح “العصابة” في السلطة

 وكما حزب الله كذلك غيره من أطراف المنظومة الحاكمة – وقد يكون لأسباب مختلفة – التي قد ترى في هذا  التحقيق الأوروبي باباً، قد يحمل لها ريحاً إن لم يقتلعها، فهو على الأقل يسبب لها إزعاجاً وتهديداً أقله بالعقوبات، مع ما تحمله مثل هذه العقوبات، من إحتمال بداية تهديد للمستقبل السياسي لها. من هنا يصبح السؤال مشروعاً، عن مدى مصلحة المنظومة الحاكمة في لبنان،  بجناحيها الرسمي و”الموازي”.

بالسماح لفرق التحقيق الأوروبي بالنجاح في مهمتها، مع معرفتنا التامة بأن الأوروبيين إنما جاءوا إلى لبنان، تلبية لنداء مصالحهم بالدرجة الأولى، وليس همهم الإصلاح في لبنان أو محاسبة الفساد والفاسدين، اللهم  إلا إذا تضاربت مصالحهم مع مصالح “العصابة” في السلطة، هنا فقط يمكن أن نحلم ونتأمل، بأن يصلح القضاء الأوروبي ما أفسده “القدر” اللبناني، غير ذلك سيكون الأوروبيون كمن يبيع الماء في حارة السقايين، وتكون حركتهم جعجعة من غير طحين، وبدلاً من محاربة تبييض الأموال يكونوا بذلك، قد ساهموا بإعادة “تبييض” هذه العصابة السوداء الحاكمة وهذا هو الأرجح. 

السابق
«توب 10».. لانتخاب رئيس للجمهورية!
التالي
هزتان ارضيتان في حمص تصيبان لبنان «المهزوز» أمنياً ومالياً وسياسياً!