المُفاضَلة بين السَّيء والأسوأ: هل يتحوّل جنوب سورية إلى إقليم إداري مُستَقِل؟

الجنوب السوري

عاد، من جديد، الحديثُ عن ترتيباتٍ سيشهدها الجنوب السوري في المرحلة المقبلة، قد تُفضي لتحوّله إلى إدارة لامركزية، مع بقاء تبعيتها السياسية لدمشق. وقد يكون هذا الحل، بالإضافة لكونه محاولة لتسكين الصراع الجيوسياسي على جنوب سورية، مدخلاً لتطبيق هذا النموذج في بقية أنحاء سورية، بوصفه آليةً مقبولةً للحل السياسي الواقعي والقابل للنجاح، والقادر في نفس الوقت على تفكيك تعقيدات وتشعُّبات الأزمة التي تشابك فيها المحلي بالإقليمي والدولي.

فكرة قديمة جديدة

فرضت التطورات التي عاشتها مناطق جنوب سورية الثلاث، درعا والسويداء والقنيطرة، تحوُّل ملف الجنوب إلى وضع خاص ومستقل ينطوي على خصوصية مميزة عن مجاله السوري، باستثناء مناطق شرق وشمال سورية، إذ رغم الارتباط العضوي بالمركز السوري، وقربه من العاصمة المركزية دمشق، إلا أن الجنوب تحوّل إلى مسألة إقليمية جراء التأثيرات التي يصدّرها إلى العمق الإقليمي، وإمكانية توظيف جغرافيته في الصراعات الجيوسياسية المحتدمة في المنطقة. 

اقرأ أيضاً: لا تسويات كُبرى في الأفُق: ما الذي ينتظر العالم في 2023؟

وبعد أكثر من أربع سنوات من سيطرة القوات السورية على جنوب البلاد (2018)، وصل جميع الأطراف إلى قناعة راسخة بأن المنطقة تحوّلت إلى أداة بيد إيران للضغط على الأردن ودول الخليج، من خلال تصدير المخدرات والسلاح، وأن استمرار هذه المعادلة ستكون له عواقب سلبية على أمن واستقرار المنطقة، فضلاً عن ترسيخ الوجود الإيراني وتحويله إلى أمر واقع يستحيل تغييره.

ومسألة إيجاد وضع خاص لجنوب سورية مطروحة منذ سنوات طويلة، إذ سبق أن شُكِّلَت مجالس مدنية، بعد خروج المنطقة عن سيطرة نظام الرئيس بشار الأسد، في درعا والقنيطرة والسويداء، لكن لم تجد الفكرة حينها تأييداً إقليمياً ودولياً، بالإضافة إلى رفض شرائح سكانية كبيرة هذه الفكرة باعتبارها قد تعني حالة انفصالية لا وجود دواعي مهمة لها، على اعتبار أن الأزمة السورية ستنتهي إما بعد سقوط النظام، الذي كانت جميع المؤشرات حينها تُرجِّح سقوطه، وإما بعد توافق روسيا والولايات المتحدة الأمريكية على حل سياسي في سورية بدا أنه ممكن في مراحل معينة.

غير أن الفكرة جرى إعادة طرحها، بحسب مصادر عربية، من قبل ملك الأردن عبدالله الثاني في زيارته الأخيرة لواشنطن في مايو الماضي، وذلك بعد إدراكه أن جنوب سورية يتحول إلى منطقة نفوذ إيرانية للتأثير في الأمن الأردني، بعد تراجع الدور الروسي نتيجة الانشغال بالحرب الأوكرانية، واستطاع الحصول على دعم أمريكي للمشروع، واُستُدعيَ على هذا الأساس بعض قادة الفصائل السابقين والحاليين إلى الأردن، ووُضعوا في صورة التفاهمات الحاصلة، وجرى إبلاغهم أن المشروع مدعوم من واشنطن والأردن ومصر والسعودية. وثمة احتمالات أن يكون الأردن قد ناقش الفكرة مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي زار عمَّان في بداية نوفمبر الماضي.

تقوم فكرة “المشروع” على إجبار الميليشيات الإيرانية، وكذلك السورية المرتبطة بها، على مغادرة الجنوب السوري مسافة 55 كيلومتراً شمالاً (حتى بلدة كناكر بريف دمشق)، بالتوازي مع تنظيف المنطقة من داعش والجهات غير المنضبطة وسحب السلاح من السكان المدنيين، وانكفاء قوات النظام السوري وسحب أجهزتها الأمنية، والاكتفاء بوجود عناصر الشرطة المدنية، مع ترك المجال للمجالس المحلية لتولي المهام الأمنية، ويبقى معبر نصيب تحت إدارة الحكومة المركزية، على أن تُوزَّع الإيرادات بين الطرفين.

دوافع تحويل الجنوب إلى إدارة مدنية

  انطلقت فكرة تحويل الجنوب السوري إلى إدارة محلية من محركات داخلية بالدرجة الأولى، وتبدو مدفوعة بأسباب أمنية واقتصادية وثقافية عدة، أهمها الآتي:

  • فشل حكومة دمشق في إدارة الجنوب منذ عودة سيطرتها عليه، حيث لا توجد خارطة طريق واضحة لحل أزمة الجنوب، ولم تؤد التسويات إلى نتائج عملية، وبدلاً من ذلك تشتعل في الجنوب حربُ الجميع ضد الجميع في فوضى قاتلة تستنزف جميع الأطراف.
  • ضعف الموارد المالية ووصول الأوضاع إلى عتبة انهيار المؤسسات، مع تصاعُد الهجرة من المنطقة، وخاصة ضمن فئة الشباب، وعجز الدولة عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات والدعم لمنطقة يقوم اقتصادها على الزراعة بدرجة أساسية.
  • شعور قطاعات واسعة من سكان الجنوب السوري بأنّ استمرار الصيغة المركزية التي تمنح لدمشق سلطات مطلقة، من شأنه التأثير في الهوية القومية والدينية لهم، وذلك في ظل منح إيران الضوء الأخضر للعبث بهوية المكونات السورية، وبعد مشاهدتهم كيف تحوّلت دمشق ومراكزها الدينية والتاريخية للسيطرة الإيرانية.

هل توافق دمشق؟

يصعب تصوُّر إمكانية تطبيق الفكرة دون موافقة الرئيس بشار الأسد، إذ لا توجد رغبة لدى أي طرف إقليمي، أو حتى دولي، بتطبيق الفكرة بالقوّة، بل ثمّة مؤشرات على قبول الأسد بهذا الطرح وإيفاده أحد ضباطه لنقاشه في عمان وباريس، ضمن شروط معينة، أما الأسباب التي قد تجعل الرئيس السوري يوافق على هذا الطرح فتتمثل بالآتي:

  • قناعة دمشق بصعوبة السيطرة المطلقة على جنوب سورية، ويبدو من التحركات الجارية في درعا والسويداء، أن المنطقة تتحرك باتجاه أنماط جديدة من الصراع ضد النظام في المرحلة المقبلة، مثل إعلان العصيان السياسي، ولن يستطيع النظام لاعتبارات عديدة إعادة تجربة قمع هذه التحركات دون دفع أثمان عسكرية وسياسية.
  • خوف النظام من تبعات قانون “محاربة الكبتاجون” الذي وقَّعه الرئيس الأميركي نهاية ديسمبر الماضي، والذي قد تكون له تداعيات اقتصادية وسياسية على النظام السوري، في وقت يجري الحديث، في أوساط عربية، بأن الأسد ليس طرفاً في تجارة الكبتاجون، بقدر ما هي تجارة تديرها إيران وحزب الله، ولا يستطيع الأسد منعهما بالنظر لسيطرتهما المتحققة في جنوب سورية، واختراقهما للأجهزة الأمنية.
  • قد يكون تطبيق فكرة تحويل الجنوب إلى إدارة مدنية عربوناً للعلاقة مع دول الخليج العربي، إذ من الممكن، وبحكم الواقعية، أن تتنازل دول الخليج عن اشتراطات عديدة للتطبيع مع الأسد، لكن من الصعب أن تتنازل عن أمنها واستقراراها، والذي بات جنوب سورية يشكل بوابته وورقة بيد إيران للضغط على الخليج وأمنه.

لكن من غير المحتمل أن يخّص الأسد جنوب سورية بهذا التغيير، مهما تكن الاعتبارات، لأن من شأن ذلك تهديد استقرار النظام، والغالب أن الأسد سيحاول إيجاد تكييف معين لهذا الأمر، ربما عبر تطوير قانون الإدارة المحلية، بحيث يُصار إلى توسيع صلاحية المجالس المحلية في جميع أنحاء سورية، والاتجاه نحو “العوصمة”، أي تركيز السلطة في عاصمة كل إقليم، أو المدينة الأساسية فيه، على أن يجري التنسيق مع المركز في دمشق التي ستبقى بيدها السلطات السياسية والدفاعية والاقتصادية. 

لكن ما الذي سيدفع الأسد لمثل هذا الحل بعد أن رفضه سابقاً، حتى بعد أن طرحته روسيا في مرحلة من مراحل التسوية؟، يمكن القول إن ثمّة أموراً أثَّرت في رؤية الأسد بهذا الخصوص، وهي:

  1. إدراكه استحالة العودة إلى الصيغة القديمة في الحكم؛ فقد تغيَّرت الوقائع بشكل كبير، كما أنه جُرِّب على مدار السنوات السابقة، وكانت النتائج كارثية أوصلت سورية إلى حد المجاعة والفوضى، وبالتالي فإن المنطق يستدعي البحث عن صيغ جديدة للخروج من هذا المأزق.
  2. المفاضلة بين خيارين سيئين؛ إما تقسيم سورية أو التحوّل إلى اللامركزية، إذ لا توجد آمال واقعية بإمكانية استعادة السيطرة على مناطق شرق وشمال وجنوب سورية دون حصول تغيرات معينة، وهنا يصبح خيار الإدارات المدنية أفضل من استمرار الأوضاع الراهنة.
  3. قد يكون أحد شروط الفاعلين الدوليين والإقليميين بأن رفع العقوبات على النظام والمساهمة في الإعمار لا بد أن يسبقه التحوّل إلى اللامركزية؛ فالصيغة الحالية غير مناسبة، بسبب الفساد الكبير الذي ينخر المؤسسات، وسيطرة إيران على المدخلات والمخرجات الاقتصادية؛ فمن سيُقدِّم الدعم كي تستفيد منه إيران؟

الاستنتاجات

إن التحوّل إلى صيغة الإدارات المدنية بات يلوح بوصفه الحل المنطقي والواقعي للأزمة السورية، وقد يكون مخرجاً للنظام السوري للتخلص من التبعية لإيران وحزب الله، بعد تغلغلهما في الأجهزة والمؤسسات السورية لدرجة بات من الصعب على النظام التخلص منهما. كما سيؤمن هذا الحل السلام والاستقرار للبلاد، وإبعاد احتمالات الحرب ما دامت الميليشيات الإيرانية تعبث بجنوب سورية في مسعى لتشكيل ورقة ضغط على دول المنطقة.

وثمّة أساس يمكن الاستناد عليه لإجراء هذا التحوّل يتمثل في قانون الإدارة المحلية، وسيتطلب الأمر إجراء بعض التعديلات عبر توسيع صلاحيات المجالس المحلية، وبالطبع مع وجود قناعة لدى صانع القرار السياسي السوري بأن هذا أفضل الخيارات الممكنة.

السابق
نواب يعتصمون داخل المجلس ويرفضون الخروج: سننام في المجلس!
التالي
من هو المرشح الممنوع من دخول مجلس النواب؟