في السّلم المدنيّة

الدولة الوطنية

لا إمكان لاِستتباب الدّيمقراطيّة، ولنجاح التّنميّة، ولمِنْعَة الدّولة الوطنيّة من غير سِلْمٍ مدنيّة تتهيّأ بها شروطُ الاستقرار السّياسيّ والاجتماعيّ، وتتفتّق بها طاقاتُ البناء والإنتاج.

السِّلْمُ داخل الاجتماع السّياسيّ (الدّولة) نظيرُ السِّلم بين الدّولة وجوارِها في الضّرورة والقيمة والنّتائج، بل هي داخل الدّولة أشدُّ حيويّـةً منها بين الدّول، لأنّه على قيامها واستتبابها يتوقّف وجودُ الدّولة واستقرارُها واستمرارُها، فيما قد لا يكون انعدامُها بين دولةٍ وأخرى، أو أخريات، سبباً يهدّد وجود أيٍّ منها؛ إذْ ما أكثر الدّول التي لا تنعم بسلامٍ في جوارها الإقليميّ من غير أن يتهدّدها ذلك بالزّوال، ولكنّا لا نَعْرِف دولةً فَقدتْ سِلْمَها المدنيّة، وانفجرت صراعاتُها الأهليّة الدّاخليّة، وظلّت مستقرّةً أو قادرة على الاستمرار. في كلّ حال، لا يعنينا من المضاهاة بين السِّلْميْن (الدّاخليّة والخارجيّة) عقْدُ مقارنات بينهما، أو وضْعُهما في ميزان المفاضلة، بمقدار ما يعْنينا أن نُشدِّد على حيويّة هذه السِّلْم المدنيّة بالنّسبة إلى أيّ اجتماعٍ سياسيّ: وجوداً وانتظاماً وبقاءً.

اقرأ أيضاً: بيير بورديو: حوار حول وسائل الإعلام، والصحفيون وعلم الاجتماع

ولا نعني بالسّلم المدنيّة تلك الحالةَ من استتباب الأمن الاجتماعيّ في مجتمعٍ وطنيّ مّا، وإنْ كان من سمات تلك السّلم رسوخُ الأمن الاجتماعيّ؛ ذلك أنّ الأمن الاجتماعيّ حالةٌ تفرضُها الدّولة وسلطانُها السّياسيّ والأمنيّ، فيما السّلمُ المدنيّة حالةٌ اجتماعيّة قبل أن تكون سياسيّة، بل حالةٌ أعمقُ بكثير لأنّ مبْناها على عقدٍ اجتماعيّ أو على توافقٍ وطنيّ عامّ، هو عينُه الذي يقوم عليه كيانُ الدّولة. وإلى ذلك فإنّ مجتمعاً مّا قد يتمتّع بقدرٍ كبيرٍ من الأمن الاجتماعيّ من غير أن تنشأ فيه – أو تستقرّ- حالٌ من السّلم المدنيّة. وهكذا فيما لا إمكان لتصوُّر سلمٍ مدنيّة، في مجتمعٍ مّا، من غير أمنٍ اجتماعيّ تفرضه سلطةُ الدّولة وقوانينُها، تستطيع دولةٌ أن توفّر لرعاياها حاجتهم من الأمن الاجتماعيّ من غير أن يكون في ذلك ما يُسْتَدَلّ به على سيادة السّلم المدنيّة فيها.

يرُدّ هذا التّمييز بينهما إلى الاختلاف بين الدّيناميّة الدّافعة لكلٍّ منهما. مبْنى الأمن الاجتماعيّ، في أيّ مجتمعٍ، إنّما هو على الوازع؛ أعني على قوّةٍ من خارج المجتمع هي قوّة السّلطان السّياسيّ للدّولة، هذه التي لا سبيل لديها إلى حفظ الاستقرار وإِنْفاذ سلطة القانون في المجتمع، إلاّ بكفّ الأخطار التي تتهدّد الأمن الاجتماعيّ بالانتقاض. ما من أحدٍ غير الدّولة يملك أن يصون الأمن؛ أكان أمناً قوميّاً (= خارجيّاً) أو أمناً اجتماعيّاً. نعم، يَسَع المجتمع أن يشاركها حمْلَ أعباء هذه المسؤوليّة بقدرٍ من الفعاليّةِ كبيرٍ، ولو من طريق الإسناد والمساعدة. غير أنّ سلطة الدّولة وحدها المخوَّلةُ بالقيام بذلك؛ ليس فقط لأنّ حفظ الأمن الاجتماعيّ يقع ضمن مشمولات عملها ووَلايتها، وترتِّـبُه عليها القوانينُ القائمة، بل لأنّها وحدها التي تحْتاز الأدواتِ الكفيلةَ بتحقيق هدف صوْن الأمن الاجتماعيّ و- استطراداً – الأمن القوميّ، لأنّها وحدها تحتكر وسائل العنف المشروع.

أمّا السِّلمُ المدنيّة فدافعيَّتُها ذاتيّة، داخليّة لا خارجيّة. إنّ وراءها واعِـزٌ، من كلِّ أعضاء الجماعة الاجتماعيّة، مصروفٌ إلى كفِّ التّعادي – أو العدوان المتبادَل – واجتراحِ قواعدَ يُحْتَكَم إليها لتنظيم العلاقات البيْنيّة، أو لِفضِّ المنازعات التي قد تنشأ في مجرى تلك العلاقات. وإن نحن عُدْنا إلى نظريّة العقد الاجتماعيّ، عند فلاسفتها الذين حلّلوا سياقات تكوُّن الدّولة (هوبس، لوك، سپينوزا…)، سنُلْفي أنّ هدف صيانة السِّلم المدنيّة من الانتقاض كان في جملةِ أهمِّ العوامل والأسباب التي كانت وراء إرادة بناء الدّولة للخروج من حالة الفوضى والعدوان المتبادَل، ولحفظ قوانين الطّبيعة – وعلى رأسها قانون البقاء أو قانون حفظ النّوع الإنسانيّ – من الانتهاك، من طريق إعادة تصنيعها في شكلٍ جديدٍ من القـوانين المدنيّة. وأيّاً تكن درجة مصدوقيّة فكرة العقد الاجتماعيّ، أو نسبة ما تتمتّع به من حُجِّيّـةٍ وواقعيّة، فإنّ السِّلْم المدنيّة للدّولة بمثابة عِلّتها الغائيّة التي تكون بها الدّولةُ مطلباً في عيون مواطنيها؛ إذْ بها (= السّلم المدنيّة) يكون المجتمع مجتمعاً لا قطيعاً بشريّاً، وبها تتمتّع الدّولة بأعظم رأسمالٍ لها: الاستقرار.

ولقد يقال إنّ فكرة السِّلْم المدنيّة هذه تصطدم بفكرةٍ أخرى نقيضٍ – تُشدِّد عليها علومُ الاجتماع وعلمُ الاجتماع السّياسيّ خاصّةً – مفادُها أنّ الصّراع قانونٌ من قوانين الاجتماع الإنسانيّ، وأنّه يفرض نفسه لأنّ مبْناهُ على تنازُع المصالح الماديّة (وهو، عينُه، ما تعبّر عنها فلسفةُ ماركس باسم الصّراع الطّبقيّ). والحقّ أنّه ما من تناقض بين القول إنّ الصّراع قانونٌ اجتماعيّ تَحْمل عليه المصالح وتُفضي إليه، والقول إنّ السِّلم المدنيّة ضروريّة لكي يحفظ المجتمع استقرارَه؛ وبيانُ ذلك أنّ السِّلْم هذه لا تنهي الصّراع أو تُخْمِدُه أو تمنعه من الإفصاح الطّبيعيّ عن نفسه، وإنّما تنظِّمه وتضع له القواعدَ والضّوابط التي تضمن استمراره كصراعٍ سلميّ و، بالتّالي، تمنعه من التّعبير عن نفسه في شكلٍ انفجاريّ يستعصي على الاحتواء. أليست هذه، أيضاً، وظيفة النّظام الدّيمقراطيّ في المجتمعات الحديثة؟

السابق
مونديال الوحدة العربية في قطر
التالي
«هسيتريا» الدولار تصيب الجنوبيين..«السوبرماركات» اغلقت ابوابها والصرافون «يختفون»!