الطريق إلى رئاسة الجمهورية (13): ميشال عون «جنرال» قاد لبنان إلى جهنم.. «مرتين»!

ميشال عون
أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

في 31 تشرين أول الماضي ، إنتهت ولاية ميشال عون الرئاسية ، هذه الولاية التي يُفترَض أنه ينهي بها حياته السياسية – أقله بسبب عامل السن – والتي كانت أقرب إلى “خريف الجنرال”، الذي قاد مسيرة عسكرية وسياسية حافلة بالأحداث، كما أودت بلبنان بإعترافه هو إلى “جهنم” بالمعنى السياسي، وإلى ما هو أشبه بالخريف حيث تساقطت فيه أوراق هذا البلد كدولة طبيعية، ليتحول إلى دولة فاشلة بكل ما للكلمة من معنى.

ميشال عون هو الرئيس 13 للجمهورية اللبنانية، والخامس بعد إتفاق الطائف، والجنرال الوحيد الذي تمرد على الشرعية الدستورية، فلم يأتِ مباشرة من اليرزة إلى بعبدا كغيره من الجنرالات – الرؤساء بالتوافق أو الإنتخاب، بل خاض غمار السياسة وتنقل بين زواريبها، التي قادته في النهاية إلى بعبدا رئيساً منتخباً عام 2016.

إقرأ أيضاً: الطريق إلى رئاسة الجمهورية (12): ميشال سليمان «جنرال الحوار».. دخل بإتفاق الدوحة وخرج بإعلان بعبدا!

ولد ميشال عون في 30 أيلول عام 1933 في حارة حريك، درس في مدرسة القلب الأقدس – الفرير في الجميزة ببيروت حتى العام 1955، حين دخل إلى المدرسة الحربية في تشرين الاول من نفس العام، وتخرج برتبة ملازم في سلاح المدفعية في 30 أيلول عام 1958. تابع عدة دورات تدريبية في الخارج، وتسلم مهام ومسؤوليات عسكرية عدة في كل المناطق اللبنانية، إلى أن تولى في 14 آب 1982 رئاسة أركان قوات الجيش، التي كُلفت الأمن في بيروت بعد الغزو الصهيوني، وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية منها، وفي 18 كانون ثاني عام 1983 عُيِّن قائداً للواء المشاة الثامن، وفي 23 حزيران 1984 قائداً للجيش.

كان يسعى لتهيئة الظروف له ليكون رئيساً للجمهورية، وكان إسمه الحركي “جبرايل”

مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية كان قائداً لسلاح المدفعية الثانية، ومقرباً من الجبهة اللبنانية المسيحية اليمينية، التي كانت بدورها مقربة من إسرائيل، بحيث شارك كما يقال تخطيطاً وتنفيذاً، في حصار وإقتحام مخيم تل الزعتر، حيث أُرتكِبت واحدة من أبشع مجازر الحرب الأهلية، وهو ما جعله على ما يبدو من المقربين بعدها من بشير الجميل، حيث حظي بعلاقة قوية معه وصلت حد أنه كان من العسكريين الذين ضمهم فريق عمله، الذي كان يسعى لتهيئة الظروف له ليكون رئيساً للجمهورية، وكان إسمه الحركي “جبرايل” على ما ذكر الصحافي الفرنسي آلان مينارغ في كتابه الشهير “أسرار حرب لبنان”.

بعد إغتيال بشير الجميل وإنتخاب شقيقه أمين رئيساً للجمهورية، تسلم ميشال عون قيادة اللواء الثامن عام 1983، وهو العام الذي شهد بداية حرب الجبل، فكان أن شارك بمعركة سوق الغرب، وهي من أشرس معارك حرب الجبل، وهو ما قاده إلى قيادة الجيش خلفاً لإبراهيم طنوس في 23 حزيران عام 1984، وذلك بعد مؤتمري جنيف ولوزان للحوار، اللذين أديا لإلغاء إتفاق 17 أيار مع إسرائيل، الأمر الذي أوصله مع تطور الأحداث والخلاف الماروني – الماروني على شخصية الرئيس الجديد عام 1988، الذي كان له يد في إذكائه، إلى ترؤس حكومة عسكرية عيَّنها أمين الجميل، وتولت مهام رئيس الجمهورية في 23 أيلول من نفس العام، لينقسم البلد بين حكومتين الأولى مدنية برئاسة سليم الحص موالية لسوريا، والأخرى عسكرية برئاسة ميشال عون، ما لبث أن إنسحب منها الضباط المسلمون لتتحول إلى حكومة ثلاثية مسيحية صرف، وهو ما أدى بعدها إلى كل التطورات والحروب التي خاضها ميشال عون من حرب التحرير مع سوريا، وصولاً إلى خروجه من قصر بعبدا في 13 تشرين من العام 1990، مروراً بحرب الإلغاء ضد القوات اللبنانية بداية عام 1990، مدفوعاً بشهوة السلطة التي إنتهت به يومها لاجئاً في السفارة الفرنسية لمدة 11 شهر تقريباً ليغادرها في 30 آب 1991، ويصبح منفياً في فرنسا على مدى 14 عاماً، أعلن خلالها في 18 شباط من العام 1994 عن إنشاء التيار الوطني الحر برئاسته في باريس، وبدأ بعدها بالتحرك السياسي على الساحة الأميركية مع تقلب الأوضاع الإقليمية، حيث ألقى كلمة وكانت له شهادة في الكونغرس الأميركي ساهمت في إصدار قانون محاسبة سوريا، الذي أسس للقرار 1559 الداعي لإنسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان.

كان إغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان، على خلفية خلافه مع النظام الأمني اللبناني – السوري، الذي كان يتهمه بأنه هو من كان وراء إصدار والمطالبة بتطبيق القرار 1559، كان هذا الإغتيال زلزالاً حقيقياً ضرب لبنان الذي لا يزال حتى اليوم يعيش إرتداداته، بحيث إنقلبت الأمور رأساً على عقب، فأختلفت المقاييس وتغيرت التحالفات وإنقسم البلد إلى معسكرين إثنين، معسكر شكراً سوريا الذي تحول بعدها إلى فريق 8 آذار، ومعسكر الولاء للبنان والوفاء لرفيق الحريري الذي تحول هو الآخر إلى فريق 14 آذار، وكان من المنطقي والطبيعي – أو هكذا خيِّل للكثيرين يومها – أن يكون ميشال عون وأنصاره في صف قوى الفريق الثاني، الذي يحمل تقريباً كل ما كان ميشال عون يطرحه من مواقف، وخاض الحروب المتتالية من أجله، خاصة حرب التحرير ضد النظام السوري، التي كان بدأها في 14 آذار العام 1989، أي قبل ستة عشر عاماً بالتمام والكمال من يوم 14 آذار يوم ثورة الأرز – يا للمفارقة – فكان أن عاد من منفاه الباريسي في السابع من أيار عام 2005، حيث كانت الترتيبات قائمة على قدم وساق لإنجاز الإنتخابات النيابية، التي لم يستسغ إجراءها على أساس قانون 2000 المسمى قانون غازي كنعان، بذريعة أنه يهمش التمثيل المسيحي ويضعه في مواقع كثيرة تحت رحمة الأكثرية المسلمة، فوقع الخلاف مع فريق 14 آذار الذي ذهب هو الآخر إلى خيار الإتفاق الرباعي مع قطبي فريق 8 آذار حركة أمل وحزب الله.

كان كحصان طروادة داخل الصف السيادي، الذي كان يتعرض في تلك المرحلة إلى حملة تصفية جسدية لقياداته السياسية والإعلامية والفكرية

هذا الإتفاق الذي أعطى عون ذريعة التحالف مع بقية أطراف هذا الفريق من السوريين القوميين والأحزاب الأرمنية، وشخصيات مثل ميشال المر وسليمان فرنجية وغيرهم ليشكل “تسونامي” إنتخابي مسيحي، ويحصد وحده حوالي 20 مقعداً كانت كافية ل “تطويبه” بطريركاً سياسياً للمسيحيين، والموارنة منهم بشكل خاص، قبل أن يتبين بأن عودته إلى لبنان إنما كانت بصفقة عقدها في باريس مع النظام الأمني اللبناني – السوري، فكان كحصان طروادة داخل الصف السيادي، الذي كان يتعرض في تلك المرحلة إلى حملة تصفية جسدية لقياداته السياسية والإعلامية والفكرية.

كان إنتصار ميشال عون في الإنتخابات النيابية في تلك المرحلة، والتي كانت بمثابة “ربيع الجنرال” السياسي، كان هذا الإنتصار بمثابة بطاقة عبور له إلى المشهد السياسي اللبناني، ما أهَّله للعمل على صياغة تفاهم سياسي مع أقوى مكوِّن على الأرض – بالمعنى العسكري – ألا وهو حزب الله، الذي بات يمثِّل بعد الخروج السوري، رأس حربة محور الممانعة والمقاومة في لبنان ، والذي كان بأمس الحاجة في تلك الفترة لطرف مسيحي يؤمن له غطاء سياسي ومعنوي ، فكان تفاهم مار مخايل في 6 شباط 2006، لينطلق بعدها التيار الوطني الحر في الحياة السياسية بقوة، مدعوماً بحليفه القوي داخلياً وإقليمياً خاصة بعد حرب 2006 مع إسرائيل، التي كانت بمثابة إختبار أول لمدى متانة التفاهم بين الجانبين، والذي نجح فيه ميشال عون بجدارة بوقوفه بقوة إلى جانب الحزب وتبني خطابه السياسي، وهو ما إنسحب على التطورات بعد الحرب، على خلفية إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي تمثَّلت بالإعتصام الشهير لقوى 8 آذار والتيار الوطني الحر ضد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، الذي إنتهى كما هو معروف بأحداث السابع من أيار 2008، أي في الذكرى الثالثة لعودة ميشال عون إلى لبنان من منفاه – مرة أخرى يا للمفارقة وسخرية القدر – ، وما تلاها من تطورات بدءاً بإتفاق الدوحة ومخرجاته، التي جرَّت الويلات على لبنان فيما بعد بسبب “تشريع” سياسة التعطيل التي كان “متعهدها” الأول التيار الوطني الحر برئاسة النائب ميشال عون، مدعوماً وربما مدفوعاً من حليفه الدائم حزب الله، الذي كان ولا يزال يمارس السياسة على وقع الأحداث والتطورات في المنطقة، بغض النظر عن المصلحة اللبنانية التي يراها الحزب، جزءاً لا يتجزأ من مصلحة المحور الذي ينتمي إليه.

هذه الطبعة من ميشال عون إنتهت في 31 تشرين أول الماضي على فراغ كما بدأت، وإختبرنا فيها “جهنم ” التي كان لا بد من الوصول إليها بسبب هذه السياسات المتبعة

أدت سياسة التعطيل المستمرة، والكيد السياسي، والمناكفات الدائمة حول الحصص الوزارية والحقائب منذ العام 2009، إلى شلل في مؤسسات الدولة على إختلافها، كما أدت سياسة المحاصصة إلى ضرب بنيان الإدارة اللبنانية، التي كانت في الأصل تعاني من الترهل، ما أدى إلى تفشي الفساد بصورة غير مسبوقة، مع تراجع في الإنتاجية عاما بعد عام، وهو ما أدى إلى إرتفاع قيمة الدين العام وفوائده وزيادة التضخم، كل هذا في ظل شعارات الإصلاح والتغيير، التي إتخذها النائب الجنرال ميشال عون عنواناً لكتلته النيابية الأولى، حتى بات تشكيل حكومة جديدة يعتبر من المعجزات، التي لا تتحقق بأقل من 9 أشهر، ناهيك عن إستحقاق إنتخاب رئيس للجمهورية، الذي باتت “طقوسه” وعاداته السابقة، التي كانت تلتزم المهل الدستورية في أوانها، باتت موضة قديمة منذ أن تسلم “الجنرال” ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية وحتى اليوم، حيث حل يومها في قصر بعبدا ك “اللعنة” ، فبات الوضع بعدها إما إنتخاب عن طريق ” “التهريب والتهجير”، كما كان حال الراحلين رينيه معوض وإلياس الهراوي، وإما “تنصيب” عسكري كما في حالتي إميل لحود وميشال سليمان، إما تمديد كما كان الحال مع الهراوي ولحود، وإما فراغ بقوة التعطيل والفرض كما كان حاله في الطبعة الثانية عام 2016، حيث أُنتخب بعد 45 جلسة إنتخاب غير مكتملة النصاب، وحوالي 30 شهراً من الفراغ في رئاسة الجمهورية بسبب تعطيل سير الجلسات من قِبَل تياره وحلفاءه ، هذه الطبعة من ميشال عون التي إنتهت في 31 تشرين أول الماضي على فراغ كما بدأت، وإختبرنا فيها “جهنم ” التي كان لا بد من الوصول إليها بسبب هذه السياسات المتبعة ، التي لم تنتج إلا الخراب ، والتي حوَّلت ” ربيع الجنرال ” إلى خريف ، تساقطت فيه أوراقه واحدة تلو الأخرى ، من ورقة السيادة إلى ورقة الحرية ، فورقة الإستقلال يليها ورقة الإصلاح والتغيير ، فورقة “لبنان القوي”، الإسم الذي أطلقه على كتلته النيابية الثانية، الذي هو بإعتراف الجميع اليوم وأولهم أبناءه، بأنه بلد ضعيف ودولة فاشلة وسلطة ساقطة، ومن لا يزال يكابر، نحيله إلى الطوابير التي عايشها اللبنانيون في عهده، والتي إمتدت من محطات الوقود إلى الأفران، مروراً بالبنوك والصيدليات.

هكذا إنتهت في 31 تشرين أول الماضي، تجربة ميشال عون العسكرية والسياسية ووصلت إلى خواتيمها – أقله على مستوى الحكم – والبلد في حال يرثى لها بعكس كل ما كان وعد به اللبنانيين، منذ توليه المسؤولية الرسمية على مدى حوالي 40 عاما، من قائد للجيش وصولاً لمنصب رئيس الجمهورية، مروراً بمنصب رئاسة الحكومة والنيابة في البرلمان، حيث كان يحمل راية الحرية والسيادة والإستقلال بدايةً كما تقدم، قبل أن يعود من المنفى فينقلب عليها بعد تفاهماته مع “أعدائه” السابقين، ليحمل بعدها راية الإصلاح والتغيير بيد، وشاهراً سيفه ضد خصومه السياسيين “الفاسدين” باليد الأخرى معلناً عليهم الحرب و “الإبراء المستحيل” ، تلك الراية التي أثبتت الأيام والسنين، أنها ما كانت سوى ستاراً يخفي وراءه شبقا شخصيا وشهوة للسلطة، لا تخبو مع السنين ولا مع تطور الأحداث، فكان أن تعامل معها بمنطق ماكيافيلي، الغاية تبرر الوسيلة، فأسقط الإبراء المستحيل وعقد التفاهمات التي أوصلته إليها، بعد أن كان يجتهد ويعمل ليُثبِت للرأي العام بأنه رجل المبادئ والقيم ، وأن لا غاية له إلا حرية وسيادة لبنان، وكذلك هيبة الدولة ووحدة مؤسساتها التي عارض لأجلها وبسببها على حد زعمه إتفاق الطائف، وتمرد على الشرعية المنبثقة عنه سابقاً، كما عارض السلطة لأجلها من داخلها لاحقاً، حتى وصل إلى الرئاسة وكانت الحقيقة المرة. إنها نهاية حلم بالنسبة للبعض الذي آمن بميشال عون، والذي راهن في يوم من الأيام على ربيع وطن ، قد يأتي به “جنرال” قد يكون رأى فيه يوماً شارل ديغول، فأستفاق بعد حوالي ثلث قرن على حقيقة صادمة تتمثل بـ “خريف” وطن قاده إليه “خريف جنرال” إسمه ميشال عون ، جنرال قاد لبنان إلى “جهنم”.. مرتين.

السابق
رسالة من لقمان (28): لطفاً.. حافظوا على العمامة
التالي
بمباراة مجنونة.. الارجنتين تفوز بكأس العالم بعد الإطاحة بالديك الفرنسي!