الطريق إلى رئاسة الجمهورية(11): إميل لحود .. «جنرال» أعاد تسليم البلد إلى الفراغ!

اميل لحود
أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

عندما طلب الرئيس السوري حافظ الأسد من الرئيس إلياس الهراوي, التمديد لإميل لحود في قيادة الجيش غداة تمديد ولايته في رئاسة الجمهورية ل 3 سنوات عام 1995، كان واضحاً بأن هذا الطلب هو إعلان ب “تعيينه” رئيساً مقبلاً للبنان بعد إنتهاء ولاية الهراوي في العام 1998، سيما وأن إسمه كان مطروحاً قبل التمديد للهراوي، ونجح الرئيس رفيق الحريري يومها بتأجيله ثلاث سنوات، وهو ما ترك أثره السلبي على العلاقة بينهما فيما بعد.

اقرا ايضا: الطريق إلى رئاسة الجمهورية (10) إلياس الهراوي.. «الزحلاوي الظريف» العابر بلبنان من الحرب إلى السلم!


ولد إميل جميل لحود في 12 كانون الثاني 1936، والده جميل لحود كان ضابطاً ونائباً ووزيراً سابقاً، تلقى تعليمه الإبتدائي في مدرسة الحكمة في بيروت، والثانوي في مدرسة برمانا الثانوية، تطوع في الجيش بصفة ضابط وأُلحق بالمدرسة الحربية في 1 تشرين الأول 1956، رقي لرتبة ملازم بحري في 18 أيلول 1959، نال شهادة في الهندسة البحرية من المملكة المتحدة عام 1960، خضع لعدة دورات دراسية وتدريبية داخلية وخارجية على الهندسة البحرية، إنتسب لنقابة المهندسين في بيروت عام 1967 وأعلن رئيساً فخرياً لها بعد تسلمه سلطاته الدستورية، تدرج في الرتب العسكرية حتى رتبة عماد بتاريخ 28 تشرين الثاني 1989، التي حازها بمرسوم من الرئيس إلياس الهراوي بترقيته، ومن ثم تعيينه قائداً للجيش اللبناني ليكون بذلك أول قائد للجيش في “الجمهورية الثانية” المنبثقة عن إتفاق الطائف.

كان واضحاً بأن هذا الطلب هو إعلان ب “تعيينه” رئيساً مقبلاً للبنان بعد إنتهاء ولاية الهراوي في العام 1998


أُنتخب رئيساً للجمهورية في 15 تشرين الأول 1998، وتسلم مهامه في 24 تشرين الثاني، ليكون بذلك الرئيس ال11 للجمهورية اللبنانية، والثالث بعد الطائف، والعسكري الثاني الذي يأتي مباشرة من قيادة الجيش للرئاسة بعد اللواء فؤاد شهاب.
كان تعيينه في قيادة الجيش من ضمن سلة تعيينات عسكرية وأمنية بعد إتفاق الطائف، وفي ظل تمرد العماد ميشال عون يومها وضعف، أو بالأحرى إعادة تأسيس وبناء الشرعية الجديدة المنبثقة عن إتفاق الطائف، التي خسرت أول رئيس لها رينيه معوض بالإغتيال في ظروف مأساوية، كان من الطبيعي أن تكون هذه التعيينات برعاية وبقرار ودعم من النظام السوري، الذي بدأ منذ ذلك اليوم بوضع أسس النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك، على ضوء خبرته الطويلة في التعامل مع الواقع اللبناني، وتحسباً لتقلباته السياسية التي لا يُؤمَن جانبها، خاصة أنه كان يعلم بأن إتفاق الطائف الذي كان نتيجة توافق إقليمي – دولي، كان يُرتِّب عليه مسؤوليات وخطوات مستقبلية عليه إتخاذها، مثل الإنسحاب إلى البقاع بعد سنتين من بداية تطبيق وثيقة الوفاق الوطني، قبل أن تنقلب الأمور رأساً على عقب في المنطقة، نتيجة الغزو العراقي للكويت، ما أتاح له التملص من كل هذه الإلتزامات، فكانت التعيينات العسكرية والأمنية بشخصياتها المختارة بعناية – ومنها لحود – تُمثِّل بهذا المعنى، وكما أرادها النظام السوري قوة موازية مقابل الشخصيات السياسية وعامل ضبط لها، إذا ما أضطر الأمر لذلك، خاصة وأن النظام السوري كنظام عسكري عقائدي طائفي مركَّب، كان يعاني من صراع أجنحة يديرها مايسترو قوي وهو هنا الرئيس السوري “الثعلب” حافظ الأسد.

أُنتخب رئيساً للجمهورية في 15 تشرين الأول 1998 ليكون بذلك الرئيس ال11 للجمهورية اللبنانية والثالث بعد الطائف والعسكري الثاني الذي يأتي مباشرة من قيادة الجيش للرئاسة بعد اللواء فؤاد شهاب.


بهذه الخلفية والذهنية، تسلم إميل لحود رئاسة الجمهورية، التي ترافقت مع إخراج حكمت الشهابي الذي كان يمثل مع عبد الحليم خدام رأس حربة الجناح السياسي – إذا صح التعبير – مقابل الجناح العسكري – الأمني في النظام السوري، والمقرب من الطاقم السياسي اللبناني المتمثل يومها ب “ترويكا” حكم ما بعد الطائف المؤلفة من الهراوي – بري – الحريري, إضافة لرئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، إخراجه من رئاسة أركان الجيش السوري وإنتزاع الملف اللبناني من يد عبد الحليم خدام وإيداعه بشار الأسد ، بهذا المعنى كان الإتيان بإميل لحود رئيساً يمثِّل ترجمة لسيطرة الجناح العسكري – الأمني السوري على السلطة في سوريا، مع تراجع صحة الرئيس السوري الذي لم يعد قادراً يومها على العمل لساعات طويلة.

كان تعيينه في قيادة الجيش من ضمن سلة تعيينات عسكرية وأمنية بعد إتفاق الطائف وفي ظل تمرد العماد ميشال عون يومها

تسلم إميل لحود السلطة من الرئيس إلياس الهراوي، بطريقة سلسة والبلد في حال جيدة – قياساً لما تسلمه الهراوي قبل تسع سنوات – بحيث إستعاد لبنان عافيته وموقعه بين الدول، وعاد دولة طبيعية تتفاعل مع محيطها والعالم، بدأ لحود الإستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس للحكومة ، حصل الرئيس رفيق الحريري على 83 صوتاً وإختار 31 نائباً تجيير أصواتهم – بقدرة قادر وبهرطقة دستورية وسياسية غريبة ومريبة – للرئيس إميل لحود الذي إستقبل الرئيس الحريري ووضعه في صورة المشاورات، بطريقة أوحت وكأنه يريد مشاركته الحكم عبر النواب ال 31، بطريقة إستفزت الحريري الذي رفض هذه الطريقة في التعامل، ومعها التكليف الذي يبدو أن لحود كان ينتظره، فوقع الخلاف وأعاد لحود الإستشارات ليُكلَّف الرئيس سليم الحص بتشكيل حكومة العهد الأولى، التي كانت أكثر طواعية وإنسجاماً معه، سيما وأن الخصومة مع الحريري كانت قاسماً مشتركاً بين لحود والحص، وإن كان لأسباب مختلفة إنصافاً للرئيس الحص، الذي كان خلافه يحمل طابعاً سياسياً، وعلى خيارات إقتصادية أكثر منها شخصية أو من ضمن أجندة معينة.

الخصومة مع الحريري كانت قاسماً مشتركاً بين لحود والحص وإن كان لأسباب مختلفة


كان واضحاً منذ بداية عهد لحود، بأن شيئاً ما تغير، وأن البلاد مقبلة على ما يشبه “العسكرة”، ما يشي بتطورات وصراعات سياسية وفرز في التحالفات، وقد تكرس ذلك في التعيينات العسكرية والأمنية التي أقرتها الحكومة، وكانت تضم أكثرية من الموالين المؤدلجين – إن صح التعبير – المحسوبين على “التوجه السياسي” للنظام السوري، من أبرزهم قائد الحرس الجمهوري مصطفى حمدان ومدير عام الأمن العام القادم من سلك المخابرات جميل السيد، الذي عينه لحود خلافاً للعرف السائد حتى ذلك الحين، والقاضي بأن يكون هذا المنصب من حصة الطائفة المارونية، ليكون أول شيعي يتولى هذا المنصب – ليستمر هذا العرف الجديد حتى اليوم – كما تأكد هذا الإنطباع أيضاً، عندما أُلحِقَ بعض الضباط بالوزارات الحساسة، لمراقبة سير العمل بها بحجة محاربة الفساد والروتين الإداري وتسهيل أمور المواطنين، وتلا هذه الإجراءات هجمة على “رجال الحريري” في الوزارات والإدارات وزُجَّ بالعديد منهم في السجون ليتم تبرئتهم لاحقاً، ما يعني أنها كانت رسائل سياسية المقصود منها رفيق الحريري شخصياً.

كان واضحاً منذ بداية عهد لحود بأن شيئاً ما تغير وأن البلاد مقبلة على ما يشبه “العسكرة” ما يشي بتطورات وصراعات سياسية وفرز في التحالفات


في هذا الإطار أيضاً بدأ العمل على “تفصيل” قانون الإنتخابات الجديد، الذي سمي لاحقاً بقانون غازي كنعان، وصدر بداية العام 2000، والذي فُصِّل ليكون ضد رفيق الحريري، وكذلك لتطويق وليد جنبلاط عبر تقسيم الدوائر في كل من بيروت والجبل، مع ملاحظة تمديد عمر المجلس النيابي الجديد لثمانية أشهر، لضمان التمديد للحود وهو ما يؤكد وجود هذه النية سلفاً في العقل المخابراتي الأمني اللبناني – السوري.
في 25 أيار 2000 تم الإنسحاب الإسرائيلي بصورة مفاجئة من جنوب لبنان، تلاه في 10 حزيران وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد وتسلُّم وريثه بشار السلطة، ما كان يعني تشديد الحصار وتضييق الخناق على محور الحريري – جنبلاط في لبنان ، هذا الأمر إستدعى وفَرَضَ تجييش الشارعين السني والدرزي، وإستنفارهما في الإنتخابات النيابية التي أجريت ما بين 27 آب و3 أيلول 2000، والتي إكتسح فيها كل من الحريري وجنبلاط غالبية المقاعد كلٍ في مناطقه، ما وضع الرئيس لحود وداعميه أمام أمر واقع جديد فرضته نتيجة هذه الإنتخابات، وهو “المساكنة القسرية” مع رفيق الحريري، كذلك فرض الإنسحاب الإسرائيلي من الجنوب أمراً واقعاً جديداً، تمثل بنداء المطارنة الموارنة في 20 أيلول، الذي دعا لإعادة إنتشار القوات السورية في لبنان، كما نص عليه إتفاق الطائف، والذي تجسد بعدها بلقاء قرنة شهوان في نيسان 2001، الذي ضم غالبية أطياف المعارضة المسيحية، وبدأ يعمل لتطبيق هذا النداء بداية عبر توسيع مروحة الإتصالات مع القوى المعارضة الأخرى، خارج الصف المسيحي خاصة الحزب التقدمي الإشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، الذي راح يحصِّن نفسه في مواجهة العهد وداعميه، عبر مصالحة الجبل التي أرساها مع البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، لدى زيارته ” التاريخية ” للجبل في 3 آب 2001، التي أفقدت العهد صوابه، فكان الرد عبر مؤسساته الأمنية، في حملة الإعتقالات والقمع ضد التظاهرات التي إندلعت في 7 آب ضد الوجود السوري في لبنان، والتي كانت بلا شك صدىً للتطورات السياسية ومن أبرزها مصالحة الجبل.

هذا الأمر إستدعى وفَرَضَ تجييش الشارعين السني والدرزي وإستنفارهما في الإنتخابات النيابية التي أجريت ما بين 27 آب و3 أيلول 2000 والتي إكتسح فيها كل من الحريري وجنبلاط غالبية المقاعد كلٍ في مناطقه ما وضع الرئيس لحود وداعميه أمام أمر واقع


بموازاة التطورات الداخلية اللبنانية، كان الوضع في المنطقة قد وصل إلى طريق مسدود، مع التعنت الإسرائيلي وفشل المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، كذلك ما بدا أنه بداية فشل تطبيق إتفاقية أوسلو، مع وصولها إلى المواضيع الأكثر حساسية كالقدس واللاجئين، التي رفض الرئيس ياسر عرفات المساومة عليها، فكانت إنتفاضة الأقصى في 28 أيلول 2000 ، في هذه الأجواء جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، لتصب الزيت على جمر الإحتقان وتندلع النيران في كل مكان، بدأت النيران في أفغانستان لتلتهم حركة طالبان، وتقتلعها من على حدود إيران، لتصل إلى فلسطين مع عسكرة الإنتفاضة، رداً على الوحشية الصهيونية، في ظل هياج وتغول إدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، ليحاصر ياسر عرفات في مقره في المقاطعة برام الله.
في 27 آذار 2002 إنعقدت القمة العربية في بيروت برئاسة إميل لحود، وهي القمة التي كان قد سبقها إعلان ولي العهد السعودي يومها الأمير عبدالله بن عبد العزيز ، مبادرته للسلام مع إسرائيل التي تنص على الإنسحاب الإسرائيلي الكامل إلى حدود 1967، مقابل التطبيع العربي الكامل معها، المبادرة كما يقول أمين عام الجامعة العربية يومها عمرو موسى في مذكراته ” سنوات الجامعة العربية”، كانت قد أغضبت النظام السوري لأنه لم يتم التشاور معه بشأنها قبل إعلانها، لكنه لم يعلن غضبه هذا صراحة، بل لعب على ورقة اللاجئين بالتنسيق مع لبنان، لما تثيره هذه القضية من حساسية فيه، يتابع عمرو موسى ويقول “في 3 آذار 2002 قبل إنعقاد القمة العربية وربما تمهيداً لها، قام بشار الأسد بأول زيارة رسمية إلى بيروت من قِبَل رئيس سوري منذ أكثر من 50 عاما، صدر بعدها بيانا مشتركاً يطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وإزالة المستوطنات في الضفة الغربية وغزة، بعد هذه الزيارة تخلى السعوديون بهدوء عن مصطلح التطبيع الكامل، ليحل محله عبارة العلاقات الطبيعية التي وردت في بيان قمة بيروت، وكذلك تم التوافق على النقطة الخاصة باللاجئين، التي كما ذكرتْ للأمير سعود الفيصل هي في النهاية أمر صياغة، خاصة وأن قرار الأمم المتحدة 194 يؤكد عليها، والذي يمكن إستخدام صياغته وهكذا كان” – إنتهى كلام عمرو موسى .

قام بشار الأسد بأول زيارة رسمية إلى بيروت من قِبَل رئيس سوري منذ أكثر من 50 عاما صدر بعدها بيانا مشتركاً يطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين


هذه التفاصيل والمناقشات الطبيعية جداً، في مؤتمرات القمم العربية، جعل منها إميل لحود مدعوماً من الإعلام الموالي لسوريا وحزب الله “معركة وهمية”، لا يزال يتحدث بها حتى اليوم ، بينما هي في الحقيقة مضافاً إليها الموقف اللبناني – السوري المعارض، لإلقاء ياسر عرفات المحاصر يومها كلمة في القمة بحجج تقنية واهية، تبرز عمق التبعية التي كانت قائمة للنظام السوري وسياساته، الذي كان يستعملها كواجهة ومتراس للدفاع عن مصالحه، وتعزيز دوره في الساحة العربية تحت شعار – وحدة المصير والمسار – وهو شعار قد يبدو ظاهره حق ولكن بالمضمون كان يراد به باطل.

بدأ عام 2003 بإرهاصات الحرب على العراق، التي تُرجمت غزواً لم يستهدف النظام فحسب، بل بنية الدولة العراقية بعمقها العربي، حيث تم تدمير البشر والحجر والشجر كما يقال، وهو ما أزال عقبة أخرى من أمام النظام الإيراني الذي ساهم في الغزو وفي إستثمار نتائجه، بحيث أقام شراكة مع الولايات المتحدة لا تزال مستمرة حتى اليوم، – رغم بعض التباينات الظرفية – وبينما كان واضحاً أن الهدف الأساس من الإندفاع الأميركي في المنطقة هو “التغيير” على الطريقة الأميركية، كان الأوضح أن هدف النظام الإيراني هو ضرب النظام العربي العام بعمقه الإسلامي السني، فبدأ العمل والترويج لحلف الأقليات، وهو الأساس في التحالف مع النظام السوري وأتباعه في لبنان، ضد كل ما هو عروبي كما أثبتت التطورات اللاحقة. وصلت العاصفة إلى سوريا، عبر عدة مطالب طرحها كولن باول في زيارته لدمشق، فيما بدا وكأنه إعادة نظر وتغيير لقواعد اللعبة، التي تحكم التفاهمات الأميركية – السورية السابقة، بما قد يهدد بسحب التفويض الذي كانت أميركا قد أعطته للنظام أيام الأسد الأب، خصوصاً فيما يتعلق بالوضع في لبنان، وكعادة النظام السوري في “فهمه وتخطيطه” لدور لبنان كقاعدة أمامية للدفاع عنه، قام بنقل المواجهة إلى لبنان – وطبعاً بالإتفاق مع حليفه الإيراني – حيث وضعه في قلب العاصفة، مستغلاً إستحقاق الإنتخابات الرئاسية اللبنانية، ليبعث رسائل التحدي لأميركا وفرنسا عبر الإعلان عن الرغبة بالتمديد للرئيس إميل لحود، بعكس المزاج السياسي للشارع اللبناني، الذي كان قد بدأ يتململ ويتكتل ضد السياسات المتبعة.

في 2 أيلول 2004 صدر عن مجلس الأمن الدولي القرار 1559 الذي دعا صراحة الى “إنسحاب جميع القوات الأجنبية المتبقية من لبنان وكذلك حل جميع الميليشيات اللبنانية، ونزع سلاحها وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها


في 2 أيلول 2004 صدر عن مجلس الأمن الدولي القرار 1559، الذي دعا صراحة الى “إنسحاب جميع القوات الأجنبية المتبقية من لبنان، وكذلك حل جميع الميليشيات اللبنانية، ونزع سلاحها وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها، وتأييده لعملية إنتخابية حرة ونزيهة في الإنتخابات الرئاسية، وفقاً لقواعد الدستور اللبناني الموضوعة، من غير تدخل أو نفوذ أجنبي “جاء الرد السوري سريعاً ومن لبنان، حيث إجتمع البرلمان اللبناني في اليوم التالي 3 أيلول وأقر التمديد للحود، ليدخل لبنان في أزمة سياسية وإنقسام سياسي خطير، حيث إنضم للمعارضة المسيحية المتمثلة بلقاء قرنة شهوان، والتي بدأت إجتماعاتها تحت إسم لقاء البريستول بدايةً مع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، ثم إنضم إليها لاحقاً عبر إرسال ممثلين عنه إلى الإجتماعات الرئيس رفيق الحريري، لتُفتَح عليهم نار جهنم إبتداء من 1 تشرين الأول حينما إنفجرت سيارة مفخخة بالقرب من موكب النائب والوزير مروان حمادة، صلة الوصل ما بين وليد جنبلاط ورفيق الحريري، نجا حمادة بأعجوبة ولكن الرسالة الدموية وصلت للطرفين، في 20 تشرين الأول أعلن الحريري إستقالة حكومته، ومعلناً إمتناعه عن قبول تشكيل الحكومة الجديدة، في رسالة شهيرة ومؤثرة توجه بها إلى اللبنانيين، حيث كانت بمثابة وصية ونبوءة لما حصل بعدها من أحداث عندما “إستودع الله هذا الوطن الحبيب لبنان”، ليتم بعدها تشكيل حكومة أقلية من لون سياسي واحد من الموالين للنظام السوري برئاسة عمر كرامي، ويبدأ بعدها التحضير ل “تفصيل” قانون جديد للإنتخابات، كي يتم تدعيم العهد بنواب على شاكلته.
في 14 شباط 2005 كان الزلزال، أغتيل رفيق الحريري في قلب بيروت، ليكون بذلك الزعيم العربي السني القوي الثالث الذي يشطب من المعادلة بعد صدام حسين وياسر عرفات، في بلدان تقع على خط الزلازل السياسية في المنطقة، وهو ما ترجم لاحقاً نجاحاً لإيران، كان القتلة يعتقدون أن الأمر سيمر كغيره من الإغتيالات، الرئيس لحود إعتبر الأمر “ضرب رذالة”، حاولوا إخلاء مسرح الجريمة بعد أن عبثوا به، ولكن كان للناس رأي آخر وإنفجرت ثورة الأرز، التي تقاطعت مع الجهد الدولي فأثمرث تحقيق الإنسحاب العسكري السوري من لبنان بعد 30 سنة، تجمع الموالون لسوريا بقيادة حزب الله هذه المرة، حيث خرج من وراء الستار في 8 آذار ليقولوا شكراً سوريا في مشهد يكاد يكون “تسلم وتسليم” للراية من وصاية لأخرى، قابلها في الرابع عشر من آذار المعارضون تحت شعار الولاء للبنان والوفاء لرفيق الحريري، ليدخل لبنان بعدها دوامة الصراع والحرب الأهلية الجديدة، تارة باردة وأخرى ساخنة، في ظل رئيس للجمهورية بات معزولاً في قصره إلا من حماية أمَّنتها له تركيبة النظام الطائفية، حينما رفض البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير أي محاولة لإسقاطه في الشارع، فبقي في القصر يراقب البلد وهو يتشظى ويحترق بنيران الإنقسام الطائفي والمذهبي مرة أخرى، ويتحول إلى ساحة إغتيالات للسياسيين والصحفيين والنواب ورجال الأمن المكلفين بالتحقيق بإغتيال الشهيد الحريري، وساحة أرادوها مستباحة عندما أطلقوا عصابات “فتح الإجرام” في نهر البارد وغيرها، حتى نهاية عهده في 23 تشرين الثاني 2007، تاركاً البلد الذي تسلمه عبر المؤسسات الدستورية، والذي كان يسير بخطى ثابتة نحو التعافي، يتركه للفراغ بعد أن أغلق داعموه من قوى 8 آذار مجلس النواب، لمنعه من إقرار المحكمة الدولية وكذلك إنتخاب رئيس سيادي، ليصبح الفراغ بعدها عادة، وليعيد لبنان إلى حيث كان أوصله “جنرال” آخر من ” نفس المدرسة ” في نهاية الثمانينات، لاغياً بذلك جهد ومعاناة وتضحيات، تحملها اللبنانيون طيلة ثماني سنوات لمحاولة النهوض من جديد، خرج من القصر والسلطة بعد أن سلَّم البلد لوصاية جديدة وحوَّل الدولة إلى دويلة، مُنهياً عهده حانقاً حاقداً ومقاطعاً ل “الدولة” ومناسباتها المختلفة، في تصرف لا يليق بمن أقسم يمين الولاء في مدرسة عنوانها الشرف والتضحية والوفاء، وإذا كان من تقييم لتجربته في الحكم – من وجهة نظري الشخصية – وإذا كانت العبرة في النهايات كما يقال، فأقل ما يمكن القول فيه أنه ومن خلال النهاية التي وصل إليها الوطن في عهده، إنما كان “الجنرال” الذي أعاد تسليم البلد للفراغ، حتى لا نقول أكثر، وللتاريخ أن يحكم.

السابق
خاص «جنوبية»: الدولار يُحلق إلى مستويات قياسية.. ويهبط إلى هذا السعر!
التالي
رسالة من لقمان (24): هو تجارة بفلسطين وليس تحريراً لها