الطريق إلى رئاسة الجمهورية (10) إلياس الهراوي.. «الزحلاوي الظريف» العابر بلبنان من الحرب إلى السلم!

أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

يُحكى أنه بعد إنتخاب الرئيس إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية، وفي طريقه لثكنة أبلح التي إتخذها مقراً مؤقتاً قبل إنتقاله إلى بيروت، إنفجر دولاب إحدى سيارات الجيب المرافقة فضحك الرئيس وقال “شو هالعهد إللي مبلش بدولاب مثقوب”. هذه الطرفة عن الرئيس إلياس الهراوي غير أنها تعطي فكرة دقيقة عن الوضع الذي كان سائداً يومها، فهي تعطي أيضاً صورة عن شخصية هذا الرجل، الذي إعتلى سدة الرئاسة في لبنان في ظروف أقل ما يقال عنها بأنها غير طبيعية وشبه ميؤوس منها، بعد 15 عام من الحروب.

إقرأ أيضاً: الطريق إلى رئاسة الجمهورية (9) رينيه معوَّض الرئيس – الحلم.. والشهيد الأول لـ«الجمهورية الثانية»!

ولد إلياس الهراوي في 4 أيلول من العام 1926 في مدينة زحلة البقاعية، درس المرحلة الإبتدائية في المدرسة الشرقية، والتكميلية والثانوية في مدرسة الحكمة في زحلة، تابع دراسته في معهد الحكمة حيث حصل على بكالوريوس في التجارة عام 1947، إنتسب إلى جامعة القديس يوسف فرع الحقوق لكنه لم يستمر فيها.
بدأ إلياس الهراوي حياته العملية كمزارع وواحد من أصحاب الأراضي الزراعية، ترأس مجلس إدارة تعاونيات مزارعي الشمندر وإتحاد التعاونيات الزراعية في البقاع عام 1959، كما أنتخب نقيباً لأصحاب محطات المحروقات في العام نفسه.

انتخب عضوا في مجلس بلدية زحلة عام 1963، ونائب رئيس غرفة التجارة والصناعة فيها في نفس العام. ترشح للإنتخابات النيابية عام 1968 ولم يوفق، أعاد الترشح في دورة 1972 على لائحة جوزيف سكاف وفاز بها، بقي نائباً عن زحلة بحكم التمديد للمجلس النيابي بسبب الحرب حتى إنتخابه رئيساً في 24 تشرين الثاني عام 1989، خلفاً للرئيس الشهيد رينيه معوض الذي أستشهد بعد 17 يوما من إنتخابه.

قام بدور مهم في مفاوضات وقف إطلاق النار في زحلة بين القوات السورية و”القوات اللبنانية” في العام 1981


تسلم وزارة الأشغال العامة والنقل عام 1980 في حكومة شفيق الوزان في عهد الرئيس إلياس سركيس، وقام بدور مهم في مفاوضات وقف إطلاق النار في زحلة بين القوات السورية و”القوات اللبنانية” في العام 1981، في العام 1985 حضر في دمشق توقيع الإتفاق الثلاثي، الذي تم بين القوات اللبنانية وحركة أمل والحزب التقدمي الإشتراكي، الذي لم يُكتب له الإستمرار، كما شارك بصفته النيابية في إجتماعات النواب بمدينة الطائف في المملكة العربية السعودية، الذي إنبثق عنه ما عرف بعدها بإتفاق الطائف لحل الأزمة اللبنانية.
تسلم إلياس الهراوي الرئاسة في ظروف صعبة ومصيرية، تعرض لها لبنان الذي كان يومها تحت تأثير صدمة إغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوض، كان مجرد تصديه للمسؤولية في تلك الفترة، في وقت تهيَّب فيه الكثيرون الموقف، مغامرة وشجاعة فائقة تحسب له في سجل الوطن، الذي كان يومها في “غرفة العناية الفائقة”.


تسلم الرئاسة في ظروف صعبة ومصيرية تعرض لها لبنان الذي كان يومها تحت تأثير صدمة إغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوض

أُنتخب الرئيس الهراوي وهو العاشر في سجل الرؤساء اللبنانيين، والثاني بعد إتفاق الطائف، لكنه الأول بالممارسة بعد هذا الإتفاق، في 24 تشرين الثاني من عام 1989 في بارك أوتيل شتورا ب 47 صوتاً مقابل 5 أوراق بيضاء، جاء إنتخابه كما يقول في كتابه “عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة” بناء على نصيحة الرئيس السوري حافظ الأسد للرئيس حسين الحسيني عندما قال له، “إذهب وإجمع النواب وإنتخبوا إلياس الهراوي”.

في خطاب القسم تحدث عن “سحق من سيقف في وجه الدولة” في إشارة إلى تمرد العماد ميشال عون على الشرعية، المنبثقة عن إتفاق الطائف، وتحصنه بقصر بعبدا المقر الرئاسي في حين “لجأ” هو إلى أحد منازل الضباط في ثكنة أبلح العسكرية، ليكون مقراً مؤقتاً له لأسباب أمنية قبل إنتقاله إلى المقر المؤقت الثاني في مبنى الرملة البيضاء، الذي كان وضعه رفيق الحريري بتصرف الرئيس الراحل رينيه معوض.

في خطاب القسم تحدث عن “سحق من سيقف في وجه الدولة” في إشارة إلى تمرد العماد ميشال عون على الشرعية


مرت ولاية الرئيس إلياس الهراوي التي مُددت لثلاث سنوات في 19 تشرين الأول من عام 1995، لتصبح 9 سنوات بناء على رغبة سورية أيضاً بثلاث مراحل، الأولى بدأت بإنتخابه وإنتهت بإنهاء تمرد العماد عون في 13 تشرين الاول عام 1990، تخلل هذه المرحلة تشكيل حكومة الرئيس سليم الحص، وتعيين قائد جديد للجيش هو العماد إميل لحود وكذلك قادة الأجهزة الأمنية، وكلها تعيينات تمت بإشراف سوري بحكم الأمر الواقع، في ما يعتبر بداية تأسيس للنظام الأمني اللبناني – السوري، ليكون بمثابة عين وقبضة دمشق على الوضع اللبناني الداخلي، في موازاة إعادة تشكيل النظام السياسي على قاعدة إتفاق الطائف، الذي كان نتاج توافق إقليمي ودولي يصعب على النظام السوري تجاوزه، ولعل أخطر ما مر في هذه الفترة وأقساها داخلياً، كان حرب الإلغاء التي قادها العماد عون ضد ميليشيا القوات اللبنانية في المناطق المسيحية، على إمتداد لبنان وكانت نتيجتها كارثية، لكنها ساهمت مع أحداث الغزو العراقي للكويت وتداعياته في المنطقة بإنهاء تمرد ميشال عون، عندما أُعطي الضوء الأخضر الأميركي لسوريا بالتصرف، مقابل مساهمة سوريا في عملية “عاصفة الصحراء” لتحرير الكويت، فكان أن أُتخذ قرار الحسم الذي كان قد وعَد به الرئيس الهراوي اللبنانيين في خطوة شجاعة منه، وهي الخطوة التي بسببها رفضت بعض الشخصيات المارونية تولي المسؤولية بعد إغتيال الرئيس رينيه معوض، ليتلقفها الهراوي، وينتهز الفرصة واللحظة الدولية المؤاتية للتنفيذ.


إنتهى تمرد ميشال عون، لتبدأ المرحلة الثانية من ولاية الهراوي بتشكيل حكومة عمر كرامي الأولى في 24 كانون الأول 1990، والثانية في عهد الهراوي التي ضمت جميع أطياف اللون السياسي، بما فيهم زعماء الميليشيات الذين عينوا وزراء دولة، وكانت هذه مرحلة بداية تطبيق بنود إتفاق الطائف ولو على “الطريقة السورية”، بعد أن لزَّم العالم المنشغل بأزمة الخليج الوضع اللبناني للنظام السوري.

كانت الأوضاع المالية والإقتصادية تزداد سوءاً مع تدهور قيمة العملة الوطنية، ووصولها إلى حافة ال 3 الآف ليرة للدولار الواحد، ما أثار موجة إحتجاجات شعبية تطورت إلى ما سمي يومها ” ثورة الدواليب “

وترافقت هذه الحكومة مع حراك السلام في المنطقة عبر مؤتمر مدريد، وإنهيار الإتحاد السوفياتي أواخر العام 1991، وبروز نظام القطب الواحد ما سمح لها بتنفيذ برنامجها، فتم تعيين نواب جدد لإستكمال تشكيل مجلس النواب القديم – الجديد، وتم تسليم سلاح الميليشيات وحلها بإستثناء سلاح حزب الله، الذي طُوِّب سلاحاً للمقاومة ضد إسرائيل، كما تم توقيع معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق مع سوريا في 22 أيار 1991.
بالمقابل كانت الأوضاع المالية والإقتصادية تزداد سوءاً مع تدهور قيمة العملة الوطنية، ووصولها إلى حافة ال 3 الآف ليرة للدولار الواحد، ما أثار موجة إحتجاجات شعبية تطورت إلى ما سمي يومها ” ثورة الدواليب “، لتسقط حكومة كرامي تحت وطأتها وتستقيل في 16 أيار 1992، لتستلم بعدها السلطة حكومة إنتقالية برئاسة رشيد الصلح، كانت مهمتها الرئيسية إجراء الإنتخابات النيابية بموجب قانون جديد، إعتمد المحافظة كدائرة إنتخابية من دون أن يعاد النظر بالتقسيم الإداري، ليتناسب مع الواقع الطائفي الجديد بعد الحرب كما نص على ذلك إتفاق الطائف، ما أدى إلى معارضة مسيحية للقانون تلاها مقاطعة للإنتخابات، فجاءت نتائجها غير متوازنة، وذلك بدخول أكثرية موالية لسوريا إلى المجلس النيابي الجديد، وإقصاء غالبية الأحزاب الرئيسية الأكثر تمثيلاً للمسيحيين عنه، كأحزاب الكتائب والقوات اللبنانية، وهي أحزاب كانت من الداعمين لإتفاق الطائف، ما أحدث خللاً في التمثيل المسيحي، وإحباطاً كان له ما بعده في التطورات اللاحقة.

بدأت المرحلة الثالثة من عهد الرئيس إلياس الهراوي، بتكليف رفيق الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، وكانت حكومة إعادة الإعمار بعد الحرب


إنتهت الإنتخابات بأمر واقع فرض نفسه، ترجمةً لتطورات الأوضاع الإقليمية والدولية التي كانت في طور الترقب والتبلور، ليكون قد إكتمل بها عقد إعادة تأهيل مؤسسات الدولة الرسمية السياسية والعسكرية والأمنية، لتبدأ المرحلة الثالثة من عهد الرئيس إلياس الهراوي، بتكليف رفيق الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، وكانت حكومة إعادة الإعمار بعد الحرب، وكانت هذه المرحلة بالفعل من أنجح سنوات ما بعد الحرب الأهلية، إذ قوبل تعيين رفيق الحريري أنذاك بحماس كبير من قبل غالبية اللبنانيين، الذين كانوا تواقين للعيش بسلام، وهو الذي كان قد سبقته سمعته كرجل أعمال عصامي ناجح، ورجل قام بالعديد من الأعمال الخيرية كان من أهمها تقديم منح تعليمية للطلاب الجامعيين اللبنانيين من كل الطوائف اللبنانية، تجاوزت ال 30 ألف منحة، إضافة إلى مساهمته في إنهاء الحرب الأهلية وتقديم المساعدات لضحايا العدوان الصهيوني، وتنظيف بيروت من الركام بعد الغزو الصهيوني عام 1982، ومساعدة دور الأيتام والعجزة وإنقاذ جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وهي المؤسسة العريقة من الديون المتراكمة.


هذه السيرة والحماس جعلت الأوضاع تتحسن بمجرد تكليفه تشكيل الحكومة، إذ وخلال أيام قليلة إرتفعت قيمة العملة اللبنانية بنسبة 15 %، ثم قام بعدها بتخفيض الضرائب على الدخل لتحسين وتحفيز الإقتصاد، وبدأت ورشة إعادة الإعمار بمواكبة ودعم من الرئيس الهراوي والمجلس النيابي الجديد برئاسة الرئيس نبيه بري، الذي كان قد أنتخب على رأسه، لتتظهر صورة الحكم الجديد يومها على شكل “ترويكا” نالها الكثير من النقد، وشابها الكثير من السلبيات بلا شك، إلا أنها كانت تنم – في ظروفها – عن واقعية وإعتدال وتفاهم، كان لبنان ولا يزال بأمس الحاجة إليهم، وقد أثبتت التطورات منذ العام 1998 حتى اليوم هذا الأمر.
ففي تلك الفترة ورغم كل السلبيات، إرتفعت نسبة النمو في لبنان إلى 8% في عام 1994، وإنخفض التضخم من 131% إلى 29%، وإستقر سعر صرف العملة الوطنية. هذه الإيجابيات التي تحققت يومها لا يعني أن الأمور كانت سهلة، فقد تخلل هذه المرحلة الكثير من المشاكل منها على سبيل المثال حرب تموز الجوية عام 1993، التي شنتها إسرائيل على لبنان تحت إسم عملية ” تصفية الحساب”، وتزامنت مع عودة الرئيس الهراوي إلى قصر بعبدا للمرة الأولى بعد ترميمه، وجاءت رداً على عمليات المقاومة ضد قوات الإحتلال، وكان هدفها القضاء على قوة حزب الله، وتدمير ترسانة الصواريخ الموجودة لديه ومنعه من إستخدام الجنوب لضرب إسرائيل.


أدى هذا العدوان يومها إلى تهجير مئات الآلاف من المواطنين إلى بيروت، وإلحاق خسائر فادحة في الممتلكات والطرقات والجسور، إذ تقطعت أوصال المناطق بعضها عن بعض، كما سقط مئات القتلى والجرحى في محاولة للضغط على الحكومة اللبنانية للتدخل ضد حزب الله، وأعلنتها إسرائيل صراحة يومها بأنها لن تسمح للحريري – بالإسم – وحكومة لبنان بمواصلة مشروعها لإعمار لبنان.
فشلت الحرب في تحقيق أهدافها، فتم وقف إطلاق النار بعد أسبوع، بموجب إتفاق شفهي تفاوضت بشأنه حكومة الولايات المتحدة، وافقت إسرائيل بموجبه “على الإمتناع عن مهاجمة أهداف مدنية لبنانية مقابل تعهد حزب الله بوقف إطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل”، بعد وقف العمليات إجتمعت الحكومة اللبنانية وإتخذت قرارا بإرسال الجيش إلى الجنوب، وقامت الدنيا ولم تقعد، أُتهم الحريري والهراوي بتغطية القرار وبالسعي للصدام مع المقاومة، مع أن مجلس الوزراء مجتمعاً هو من إتخذ القرار، وهو القرار الذي “يتاجر” به حتى اليوم إميل لحود وينسب لنفسه “البطولة” بمعارضته وعدم تطبيقه، في حين تبين لاحقاً من التطورات بأن القرار أتى من ضمن صراع الأجنحة داخل النظام السوري، إذ لا يُعقل أن يصدر قرار بهذا الحجم من دون علم وموافقة النظام السوري، وهو الممسك بزمام الأمور العسكرية والأمنية وحتى السياسية في البلد.

بعد هذه الأزمة، بدأت الأجهزة الأمنية تسعى لتطويق الرئيس الحريري، خاصة مع تصاعد صراع الأجنحة داخل النظام السوري


بعد هذه الأزمة، بدأت الأجهزة الأمنية تسعى لتطويق الرئيس الحريري، خاصة مع تصاعد صراع الأجنحة داخل النظام السوري، بعد مقتل باسل الأسد بداية العام 1994 في “حادث سيارة”، بين الحرس القديم – إذا صح التعبير – الذي كان ممثلاً برئيس الأركان حكمت الشهابي ونائب الرئيس عبد الحليم خدام، وبين الجناح الأكثر تشدداً الذي إصطف وراء بشار الأسد الخليفة الجديد لوالده، الذي كان المرض قد أتعبه حد العجز عن العمل المباشر لوقت طويل، فكان الجناح السياسي في لبنان ويضم “ترويكا” الرؤساء، بالإضافة لرئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط من المحسوبين على “الحرس القديم”، بينما كانت الأجهزة العسكرية والأمنية وعلى رأسها إميل لحود من حصة فريق بشار الأسد.
في هذه الأجواء المحمومة، جاءت جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في ذوق مكايل في 27 شباط 1994، حيث تم إتهام حزب القوات اللبنانية بالجريمة وحله في 23 آذار، ومن ثم إعتقال رئيسه سمير جعجع في 21 نيسان في “أسرع” عملية أمنية في لبنان، ليكتمل بذلك عقد الإحباط المسيحي بسجن جعجع، بعد غياب ونفي كل من أمين الجميل وميشال عون كل لأسباب مختلفة.

الرئيس الهراوي وأثناء زيارته إلى سوريا أواخر العام 1993، قد سمع كلاماً إستشف منه أن هناك شيئاً ما يحضَّر ضد رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع


في هذا المجال، تقول بعض المعلومات الصحافية بأن الرئيس الهراوي وأثناء زيارته إلى سوريا أواخر العام 1993، قد سمع كلاماً إستشف منه أن هناك شيئاً ما يحضَّر ضد رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي كان يعارض بشدة الطريقة التي يطبق فيها إتفاق الطائف، وما يعزز هذه الفرضية أن الرئيس الهراوي قد قال في إحدى مقابلاته بعد خروجه من الحكم، بأنه كان قد طلب من سمير جعجع عبر موفد أن يغادر لبنان، لكن جعجع لم يستجب فكان ما كان.
دخل العام 1995 وكان عام الإنتخابات الرئاسية، كانت التطورات في المنطقة والعالم تشهد بعض الهدوء والترقب، وكأنها تمر في مرحلة إنتقالية، في أعقاب سقوط الإتحاد السوفياتي دولياً ومعاهدات السلام إقليمياً، بعد معاهدة أوسلو مع الفلسطينيين ووادي عربة مع الأردن، فيما كانت المفاوضات مع كل من سوريا ولبنان، تتأرجح ما بين مد وجزر. داخلياً كانت عجلة الإعمار بعد حوالي السنتين على إنطلاقتها تدور ولمّا تكتمل بعد، وكان واضحاً بأن هناك رغبة من الرئيس رفيق الحريري بالتجديد للهراوي، تضافرت هذه الظروف جميعها إضافة إلى أن الصراع داخل أجنحة النظام السوري، كان لا يزال غير محسوم في وجود الرئيس السوري وعدم جهوزية خليفته بشار بالكامل، فكان التوافق على التمديد للرئيس الهراوي لثلاث سنوات، بدت وكأنها تعويض عن السنوات الثلاث الأولى من العهد، التي مضت ما بين صراع مع ميشال عون، وإعادة تفعيل مؤسسات الدولة المختلفة، وقيل بأنه كان هناك دور وتأثير للحرس القديم المكون من الشهابي وخدام بدعم من الحريري، على الرئيس السوري لإتخاذ هذا القرار الذي قد يكون رأى فيه – وهو القائد المحنك والضليع بشؤون الحكم – فرصة إضافية مطلوبة، لإعداد العدة اللازمة وتهيئة الظروف المناسبة لتولي خليفته السلطة من بعده دون عقبات.


وهكذا فاتح الرئيس الأسد الهراوي بالموضوع قبل ثمانية أشهر من إنتهاء ولايته، وأبلغه أنه سيتم التمديد له وطلب التمديد بالمقابل لقائد الجيش إميل لحود – لإقامة التوازن بين جناحي الحكم السوري ربما – ليعلن الرئيس الأسد بعدها القرار في حديث إلى صحيفة “الأهرام” القاهرية قبل شهر – في سابقة غريبة من نوعها بين الدول – قائلاً بأن هناك توافق في لبنان على التمديد للرئيس الهراوي.
عام 1996 كان عام عملية “عناقيد الغضب” الإسرائيلية ضد لبنان، التي جاءت كتكملة لعدوان تموز 1993، والتي بدأت بعد مقتل مدنيين لبنانيين في بلدتي ياطر وبرعشيت بقذيفة إسرائيلية، وهو ما أُعتبر خرقاً لإتفاق وقف إطلاق النار عام 1993، فكان رد من حزب الله بإطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل، لتعلن إسرائيل إنطلاق العملية في 11 نيسان لنفس الأهداف التي أعلنتها في عملية “تصفية الحساب” عام 93، وهي تدمير قوة حزب الله وترسانته من الصواريخ، فقامت بغارات جوية ضد البنى التحتية اللبنانية، مصحوبة بدعوة السكان المدنيين لإخلاء المنطقة، وكذلك فعل حزب الله داعياً سكان شمال إسرائيل إلى إخلاء منازلهم، كما حاصرت إسرائيل موانئ لبنان وهاجمت محطتي الكهرباء في منطقة الجمهور ببيروت، وإرتكبت عدة مجازر الأولى في قانا عندما قصفت مقر للأمم المتحدة لجأ إليه المدنيون، وأخرى في النبطية حينما هاجمت بناية من طابقين فسَوَّتها بالأرض وأستشهد كل من فيها، وثالثة في المنصوري عندما قصفت سيارة مدنية.

مرت السنتان الأخيرتان من ولاية الرئيس الهراوي دون تطورات مهمة


كان حجم الدمار كبيراً وقدرت الخسائر بحوالي 500 مليون دولار، وأستشهد وجرح المئات من المدنيين. كان للرئيس الشهيد رفيق الحريري دور كبير في تلك الأزمة حينما جال، حاملاً مظلومية لبنان وشعبه إلى العالم بكل ما يملك من علاقات سياسية وشخصية، سخَّرها لخدمة قضية وطنه وشعبه، حتى نجح في وقف العدوان نتيجة لما سمي “تفاهم نيسان”، وهو إتفاق مكتوب تم برعاية أميركا وفرنسا بالتعاون مع سوريا، وبدأ سريانه يوم 27 نيسان، وينص على منع الهجمات على الأهداف المدنية في الجانبين، ما أعتبر يومها نصراً للبنان ومقاومته، بحيث شكل إعترافاً بحق لبنان في مقاومة الإحتلال العسكري لأرضه.
مرت السنتان الأخيرتان من ولاية الرئيس الهراوي دون تطورات مهمة، ميزها فقط زيارة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني للبنان في أيار 1997، وهي زيارة كان لها الوقع المعنوي الكبير خاصة على المسيحيين، بحيث بثت روح الأمل لديهم بالتغيير نحو الأفضل، علاوة على رمزيتها نسبةً لما تحمله من دعم وإحتضان للبنان .


قد يكون للكثير من اللبنانيين، بعض التحفظات والإنتقادات على فترة حكم الرئيس الهراوي التي إمتدت ل 9 سنوات، ولكن للحقيقة والتاريخ، علينا أن نعترف أن إيجابيات الرجل وعهده، كانت أكثر من سلبياته، وقد يكون سهلاً تقييم وإنتقاد ومناقشة تجربة الهراوي، ولكن بكل تأكيد لن يكون التقييم عادلاً، إن لم يأخذ بكل الظروف الموضوعية، التي كانت محيطة بتلك التجربة وصعوبتها، في تلك الفترة من تاريخ لبنان كما ذكرنا، ولا يمكن لأي مراقب محايد أن ينكر أو يتنكر، لشخصية الرئيس الهراوي الوفاقية، وإخلاصه لوطنه وفي تعامله مع الآخرين، حتى عندما كان يخاصم في السياسة فإنه يخاصم بشرف، أنا شخصياً لن أنسى دموعه يوم إستشهاد رفيق عهده، الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهي دموع كانت تنم عن إحساس إنساني مرهف وإخلاص ورجولة حقيقية، ذكرتني يومها بمقولة لجبران خليل جبران وهي “أن دمعة واحدة تتلمع على وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيراً في النفس من كل ما تهرقه أجفان الفتيان”.


رحم الله الرئيس إلياس الهراوي الذي توفي يوم 7 تموز 2006، حيث ودعه لبنان بمأتم وطني رسمي وشعبي حاشد، إعترافاً منه بدور هذا الرجل الذي وبرغم كل العثرات، نجح بالعبور الشاق وإنتقل بلبنان من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلم.

السابق
علييف: سندافع عن الأذريين داخل إيران..خامنئي يتشدد ضد المحتجين ويلوّح بتصعيد إقليمي!
التالي
منير بدوي «يوثق» صور من المملكة الى المدينة!