«نوّرَنة» الثورة السورية.. و«ضياع وجه القتلة»!

في كتابه ، والذي هو كتابه الأوّل ، والمُعَنوَن ب: ” نَوَر ( سَبرٌ لِتحوُّل الوعي الفردي والجمعي في ظِلّ الأنظِمة الشموليّة : ألمجتمع السّوري مِثالاً ) ” ، يُطلِقُ الباحثُ السّوري ( والطبيب الأكاديمي المُمَارِس والذي كان نائب رئيس مجلس إدارة منظمة العفو الدولية في الولايات المتحدة الأمريكية ) عبدالله شاهين ، صِفة ” نَوَر ” كمَفهُومٍ بَحثِيٍّ يسقِطُهُ ، وعبر تحليلاتٍ ومعطياتٍ نَقديّة ، على أفراد المجتمع السّوري ، ( وشاهين لا يستثني نفسه ، هنا ، من هذا الوصف ، كفردٍ من أفراد المجتمع السوري ) ، هذا المجتمع الذي أَسقَطَهُ – وكما يقرِّر المؤلِّف – سُوءُ المُنقَلَب النَّوَريّ ، في حالة النَّورَنَة . ذلك أنّ ” النَّورَنَة هي سُوءُ المُنقَلَب ” ، كما يعرِّفها هذا الكتاب ، إذ هي التي منَعت أفراد المجتمع السوري ، من الثّورة على الديكتاتورالسابق ، وهي الحالة نفسها التي كانت سبباً في فشل الثورة السورية ( ثورة هذا المجتمع على الديكتاتور الحالي ) ، أي الثورة التي فشلت في إسقاط النظام الشمولي الحاكم في العام 2011 ، بعدما تهاون أفرادُ هذا المجتمع بتقرير مصيرهم ، في ظِلّ هذا النظام أيام حُكم الديكتاتور السابق.

مبرّراتُ تقريرِ حالةٍ قائمة

وحالة النَّورَنَة التي يقصدها شاهين ، في هذا الكتاب ، وهو الذي يقدّم ( بصفحاته ال379 من القطع الكبير ) ، مبرّرات إطلاقها – لا كإهانةٍ – بل كتوصيفٍ تقريريّ لواقع الحال . ونظراً للتفصِيليّة الواسعة والمتشعِّبة لواقع الحال المَعنيِّ هذا ، نتركُ الوقوفَ على طبيعته ، لقارىء هذا الكتاب الذي ، وبناءً على ما يقدّمه ، نستنتج الخلاصة الآتية التي مفادها : إنّ الثورة السورية التاريخية ، ضَيَّعَها التَحَوُّلُ التاريخي لأفرادِ مجتمعها إلى نَوَرٍ مَقمُوعِين ، في الزَّمن السّابق على الثورة وأثناءها ( أي على مدىً زمنيٍّ طويل جداً ) .

كشفت الثورة السورية وجهاً آخر لواقع المجتمع السوري الذي توسّعت فيه الجريمة من جريمة إستبدادية إلى جرائم متسلسلة “يضيع فيها وجه القتلة “

( وكان ذلك نتيجة التّحَوُّل ” الذَّاتيّ ” ( للوعي الفرديّ ) ، من وعيٍ يتمتع – وقبل وقوعه أسيراً لسطوة سيطرة الحكم الشمولي ، بالانضواء في إطار مناخ جمعيّ لمواجهة الاستبداد – إلى وعيٍ تفكِيكيٍّ ، تَشظَوِيٍّ ، غير متجانسِ الفكرِ التّحّرُّريّ ، يُبطِلُ ،وبالتالي يُلغي مفاعيل هذه المواجهة ) .


مَحوَرِيّاتُ الكتاب

ويحتوي كتاب : ” نَوَر” ، على : مقدّمة ؛ وأربعة فصول ؛ وخاتمة . وعن مضمون الكتاب يوضح الكاتب قائلاً : يبدأ الكتاب بالحديث عن الحضارة وعكسها ” اللاحضارة ” وما بينهما ، ويستفيض في محاولة شرح معنى الحضارة الضّائع وملامحها ومكوّناتها ، وكيف يمكن ” تخزينها ” ، وينتقل من الحديث عن الحضارة إلى الحديث عن الرّيادة ، وكل منهما مفاهيم كبرى وكليّة تشمل البشريّة جمعاء . ثم ينتقل في الفصل الثاني إلى الحديث عن نقطة الانطلاق للمستوى الثاني من التحليل ، وكيف يمكننا تحديد النقطة أو المركز الذي سيكون الذي سيكون مركز المعاينة الدقيقة لظواهر التخلّف وآثار الاستبداد . وبطبيعة الحال إخترتُ أن تكون نقطة الانطلاق ضمن السياق السوري ومرتبطة بتاريخ سوريا الحديث وواقعها المعاصر ، وكيف تفاعلا في خَلق هوّيتنا نحن اليوم ، انطلاقاً من الحكم الخارجي ومن ثم الاستعمار ، وصولاً إلى مرحلة الحكم السلطوي الداخلي ومن ثم الحكم الشمولي . وبدل أن يكون الحديث فقط عن ملامح ظاهريّة وظروف خارجية ، حوَّلتُ المنظور نحو الداخل ، نحو البُنية الفكرية وملامحها في ظل الاستبداد ، وركّزتُ التعمّق في فَهم كيف كوّنا فكرةَ ” الآخَر ” الذي اعتبرناه ” الضد” ، ومن ثمّ العدوّ فيما بيننا ، ولماذا كانت ملامح هذا الآخر مطموسة وغير مميّزة ، وشيئاً فشيئاً خَلَقنا صورةً مبهمة للآخَر ” العدوّ ” بحيث أصبح إسقاطها على أيّ شخصٍ أمراً ممكناً ، ومن هنا خلقنا نواة التشظية الذاتية للمجتمع ، التي تردف العمل الممنهج للأنظمة القمعية في تدمير أية بنىً إجتماعية في مجتمعات القهر .

يقول الكاتب : ” خَلَقنا نواة التشظية الذاتية للمجتمع التي تردف العمل الممنهج للأنظمة القمعية في تدمير أية بنىً إجتماعية في مجتمعات القهر “

بدأتُ بعد ذلك بتحليل الظواهر النفسية للشعوب المقهورة ، أو ” ألنَّوَريّة ” ، وفَهم كيف بُنيت وتطورت هذه المبادئ الفكرية ؛ فرصدتُ في الفصل الثالث خمسة ملامح فكرية ميّزت الشعوب النَّوَريّة عن غيرها من الأمم ، وفي الفصل الرابع حاولتُ رصد بعض أهمّ الملامح السلوكية الشائعة في الشعوب النَّوّريّة ، دون أن تكون بالضرورة محصورة بها وحدها دون غيرها ، إلاّ أنّ درجة شيوعها وتقَبُّلها هو ما جعلها مرتبطة بالنَّوَر دون غيرهم ، وكان لزاماً عليَّ البوح بعددٍ من الاعترافات من النَّوَري الذي أعرفه أفضل معرفة في الخاتمة .
إعتذار .. وإستعارة حتميّة لامفر منها ؟!

ومما يقوله الباحث في مقدمة هذا الكتاب نقتطف ، ما يلي :

” عليَّ أن أؤكد بأنّ هذا الكتاب لا يتحدث عن القبائل والمجموعات الإثنية التي يشار إليها بهذه التوصيفة ( توصيفة النَّورنة ) . ولا أجعل أية إسقاطاتٍ أقوم بها على أنّها إسقاطات عليهم هم كأفراد أو جماعات . وأعتذر من جموع أفراد تلك الجماعات عن قرون من القهر والاستحقار التي مُورسَت عليهم دون وجه حق ، بل لا أفعل أكثر من أن أستعير تلك الصورة النمطية التي أسقطناها عليهم بشكل معمَّم وظالم فأُرجِعها علينا نحن أفراد المجتمع السوري ، ومن هنا فصاعداً فكل كلمة نَوَري يمكن استبدالها بجملة السوري الذي يعيش تحت وطأة القهر السلطوي الشمولي في الخمسين عاماً المنصرمة .

يغطي هذا الكتاب مراحل عيش السوريين تحت وطأة القهر السلطوي الشمولي في الخمسين عاماً المنصرمة

” حَرِيٌّ بنا أن نَفهَم”


” حريّ بنا أن نفهم كيف أضاع أفراد المجتمع السوري طريقهم ، بل كيف غدت قارعة الطريق وطنهم ، وكيف تحوَّلوا من ” مجتمع متعلّم ” ، و”متماسك ” ، ومن أحفاد ” التاريخ المجيد ” إلى نَوَر ” شاحت فيهم الشوائح ” . كيف انتقلوا من المجتمع الفضيل إلى المجتمع المقموع ، وكيف سمح النَّوَرباستمرار كل ذلك القمع والتنكيل إلى أن وصلنا إلى تسليم البلد من دكتاتور إلى دكتاتور بسلام ودون أيّ اعتراض ، بالرغم من أنّ لحظة الثّورة كانت فرصة تاريخية للتغيير . ولماذا قام النَّوَر بخلق فرصة تاريخية أخرى لتغيير واقعهم ، دفعوا ثمنها الدماء الكثيرة ، ليضيّعوها كما أضاعوها في السابق .

يغطي هذا الكتاب مراحل عيش السوريين تحت وطأة القهر السلطوي الشمولي في الخمسين عاماً المنصرمة

” كشفت الثورة السورية وجهاً آخر لواقعنا ؛ توسّعت فيه الجريمة في سوريا من جريمة يقوم بها المستبدّ إلى سلسلة من الجرائم المتسلسلة يضيع فيها وجه القتلة ؛ فالحراك المدني للثورة سقط أمام فساد ناشطين وارتباطهم بجهاتٍ يهمّها وأدُ هذا الحراك ، بل تعاون بعض هؤلاء الناشطين مع النظام الذي استطاع ابتزازهم ثم تجنيدهم ، وبعدها انقلب الحراك المدني إلى حراكٍ مسلّح اندرج فيه منشقون عن الجيش ممن رفضوا قتل المتظاهرين ، وبدل أن تقود هذه النقلة إلى مرحلة أقرب لإسقاط النظام ، فإنها لم تؤدّ إلاّ إلى المزيد من العنف والدموية .

يُحلِّل هذا الكتاب الظواهر النفسية للشعوب المقهورة أو ” النَّوَريّة ” ويرصد ملامحها الفكرية والسلوكية الشائعة فيها

هذا أوّل ثلاثة كُتُب


ويختتم الكاتب مقدمة هذا الكتاب بالإشارة التالية :

” سيكون هذا الكتاب أوّل مجموعة من ثلاثة كتبٍ تتناول البنى الفكرية للمجتمعات المقهورة ، وتنتهي بنظرة إلى ما يجب أن يكون ، بدل ما هو كائن اليوم . ذلك الواجب هو أن يكون بيننا هوية جامعة ورابطة مركزية تستطيع خلق منظورٍ أوسع وأعمق لواقعنا وتنشئ فرصاً أفضل نحو بناء غدٍ أكثر إشراقاً ، وإن لم تستطع فلعلها تسفر عن أحلام يقظةٍ عن مستقبل أفضل في أذهان من يستطيع خلق ذلك المستقبل في يوم ما … ” .

السابق
كم بلغ دولار صيرفة اليوم؟
التالي
«حرب الطائف» بين إيران والسعودية.. وهذا ما دار بين نصرالله وباسيل!