تاريخ النهضة في جبل عامل (11): شعراء تألقوا.. وجابهوا الاستعمار وفساد السياسيين

موسى الزين شرارة
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر "جنوبية" على حلقات، ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما، في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

حفلت النهضة العاملية برجالات نبغوا في دنيا الادب والشعر، فذاع صيتهم في لبنان والعالم العربي، وكان نتاجهم مليء بمعاني الوطنية والشعور القومي الجارف، ومن هؤلاء الشعراء: محمد كامل شعيب وموسى الزين شرارة وعبد الحسين العبدالله.

محمد كامل شعيب

قال عنه المفكر اللبناني فرح أنطون: انه “شاعر متين التركيب، سريع الخاطر يعد من نوابغ القريض في العصر الحاضر”.
انه الأديب والشاعر الجنوبي الفذّ محمد كامل شعيب او “الاستاذ العاملي” كما لقبه معاصروه، الذي ولد عام 1987 في قرية الشرقية، ناحية النبطية، تلقى علومه في المدارس المحلية، ثمّ توجّه عام 1913 إلى الآستانة من أجل متابعة دراسته، غير أنه ما لبث أن عاد إلى وطنه في العام التالي إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى، فسمّي رئيساً لجمعية الاتحاد والترقي في صيدا إبان تلك الحرب.

اقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل (10): السيد جعفر شرف الدين مربّي الفقراء ونائبهم !

شهد عمره الطويل الذي امتدّ قرابة قرن من الزمن، كافة الاحداث التاريخية الكبيرة التي مرّت بها بلاده، فكان من المقاومين شعراً ونثراً للانتداب الاجنبي، ومن المتحمسين في المقابل للتيار العربي الناهض آنذاك مع الشريف حسين ونجله الأمير فيصل الذي أصبح ملكاً للعراق، بعد أن أخرج بالقوة من سوريا إثر معركة ميسلون الشهيرة عام 1920، في تلك المرحلة وفي ظل الاحتلال ومصارعته تألق محمد كامل شعيب ابن قرية الشرقية نجمهُ أديباً وشاعراً ثائراً وصحافياً مقاوماً فأصدر جريدة “العروة الوثقى” عام 1924، التي ما لبثت سلطات الانتداب أن أقفلتها في العام نفسه وأمرت بنفيه إلى الآستانة (اسطنمبول)، ولكن تدخّل الرئيسين شارل دباس وحبيب باشا السعد أعاده إلى الوطن.

سافر الشاعر محمد كامل شعيب إلى بعض البلدان العربية ومدح أمراء الحجاز وإمام اليمن وسلاطين المسلمين وذهب إلى مصر فاتصل بأمير الشعراء أحمد شوقي الذي اعجب به

”الأستاذ” الذي عيّن كاتبا بالعدل، لم يخفت جهاده القومي، فاتصل بالشريف حسين مادحاً برغم الغضب الفرنسي عليه، ولم يزده هذا الغضب إلاّ قوة وشكيمة وعزماً، خصوصاً بعد أن عيّن كاتباً للعدل في صيدا مُؤَمّناً دخلاً ثابتاً ومريحاً، علماً أن همته كانت تتطلع لما هو أعلى من ذلك وهو الذي لقّبَهُ جمهور جبل عامل بـ”الأستاذ العاملي” بسبب تجواله المستمر في ربوع الجبل، وإلقائه للخطب النثرية والقصائد الشعرية الوطنية القيّمة في زمن عزَّت فيه المدارس وقلّت. فكان رسولاً للعلم يقارع الجهل والتخلّف مقارعته للانتداب الفرنسي في ذلك الزمن.

قام بالسفر إلى بعض البلدان العربية ومدح أمراء الحجاز وإمام اليمن وبعض سلاطين الهند من المسلمين، وذهب إلى مصر فاتصل بأمير الشعراء أحمد شوقي الذي عبّر عن إعجابه بـ”الأستاذ محمد كامل شعيب” وشعره كما أشاد به الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد، وقد تبارت الصحف المصرية في نشر نتاجه الشعري والنثري، بعد أن تبيّن أنه ينثر بجودة ما ينظم فيها الشعر فكتب في “الأهرام” و”الشورى” و”المقطم” و”المنار” و”المقتطف” و”الهلال” و”النيل” و”الدفاع المصري”، و”البلاغ” ثم كتب لـ”لسان الشعب” التونسية وغيرها. وكان مواظباً على الكتابة في “العرفان” اللبنانية التي أسسها الشيخ أحمد عارف الزين في صيدا عام 1909.

نظم قصيدة مدح فيها الملك فيصل، وقال بمناسبة الوفد الذي ترأسه الملك ونجم عنها معاهدة كليمنصو – فيصل عام 1920 ونشرتها جريدة “الشورى” في مصر.

محمد كامل شعيب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لأكثر من نصف قرن، قضاه في النضال والجهاد شعراً ونثراً ومواقف سياسية حادّة مشرفة ووطنية لم ينطفئ وهجها إلاّ عندما أسلم الروح بعد عمر مديد في 2 أيار عام 1980.

موسى الزين شرارة

ولد في بنت جبيل، وتعلّم فيها، نظم الشعر في وقت مبكر، وتمرّد على العادات السائدة الدينية منها والاجتماعية. هجا رجال الدين في بداية صعوده، فحُكم بفسقه، فاضطرّ للسفر إلى أفريقيا والعمل هناك. بعد سنوات عاد إلى لبنان وركّز هجومه على السياسيين. عارض الوجود العثماني، والاحتلال الفرنسي لجبل عامل، وكان قد رأس مجلس بلدية مدينة بنت جبيل لسنوات طويلة قبل وفاته، وكان مُحباً للعيّش وللحياة والنَّاس، وكان رجلاً أنيقاً في ملبسه ومتميزاً في هيبته وطلته، يتمتع بروحٍ مرحة، والنكتةعنده دائماً حاضرة والضحكة لا تفارق فمه.

وترجم سيرته بقلمه فقال فيما قال:

ولدت سنة 1902 م في بلدة بنت جبيل وفي سنة 1908 توفي المرحوم والدي وهو في ريعان شبابه، وبقيت مع الوالدة التي كنت أغفو وأستيقظ على نواحها وبكائها، الأمر الذي أرهف حسي وجعلني أحس مع كل مصاب وأتألم مع كل منكوب وأهب لمساعدة كل مظلوم.

ثم دخلت المدرسة الحكومية التي أنشئت سنة 1913. ولم يكن سوى هذه المدرسة بكل منطقة بنت جبيل، والذي أذكره أن عدد الطلاب فيها لم يتجاوز المئة، وقد كانت أول قصيدة لي سنة 1928 نشرتها في مجلة العرفان وكان عنوانها ” العلم ” ومطلعها:
العلم نور يهتدى بسنائه لولاه تاه الكون في ظلماته.

وقد ختمتها بعرض حالة الجهل التعيسة، وقد قادني المشوار الطويل على هذا الطريق إلى مجابهات عديدة كان أبرزها مع أحد رجال الدين، الذي حكم بكفري وسفك دمي عام 1933، أما السيد محسن الأمين الذي كان رائدا من رواد الاصلاح فقد رد على الفتوى وصاحبها ردا عنيفا.

وفي عام 1936 حضر إلى المنطقة المطران المعوشي الذي صار فيما بعد كاردينالا، واتفقنا معه على المطالبة برفع اسعار التبغ واعطاء مساحات أوسع للمزارعين، وقد كتبت مضبطة بهذه المطالب وأودعت منزل الحاج علي بيصون، ولكن المستشار الفرنسي علم بأمرها فأوعز للدرك في بنت جبيل بمصادرة المضبطة واعتقال الحاج علي وكانت ليلة عاشوراء، والناس مجتمعة في الجامع الكبير.

عرف موسى الزين شرارة بموقفه السلبي من الدين السائد عموما المحابي للزعماء ومن المشايخ بشكل عام

جاء من يقول لنا: اعتقلوا الحاج علي فهرع الناس إلى السراي بتظاهرة هادرة نهتف ضد الانتداب، فأخلى رئيس المخفر سراح الحاج بانتظار وصول تعزيزات عسكرية، وفعلا وصل البلدة ليلا ما يقارب المائتي جندي فطوقوا العدد الكبير من البيوت، واعتقلوا ما يقارب الثلاثين من شباب ووجهاء البلدة وقد كان رد الفعل الشعبي عنيفا، فتجمهر الناس أمام السجن وكانوا من أهالي البلدة والقرى المجاورة خصوصا من عيناثا، وقد أخذ بعض الشباب ينقب جدار السجن ليخرج السجناء منه، وما زالت صورة المرحوم حسن بسام من عيناثا أمام ناظري وهو يكسر باب السجن ويدعونا للخروج تحت وابل الرصاص، الذي كان يطلقه الجنود على الجمهور وقد استشهد في هذه الانتفاضة ثلاثة هم: مصطفى العشي من بنت جبيل ومحمد جمال وعقيل دعبول من عيناثا، وعند المساء جرى نقل المساجين إلى صيدا فتجمهر الناس في صيدا تأييدا لانتفاضة بنت جبيل، وفي اليوم الثاني عم الاضراب جميع مدن وقرى الجنوب.

إقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل: رضا التامر خريج السوربون يخترق القضاء ويحوز المناصب (9)

وخوفا من أن يحاصر سجن صيدا كما حوصر سجن بنت جبيل من قبل ارتات سلطات الانتداب نقل المساجين إلى سجن الرمل في بيروت. وقد مكثنا في السجن مدة شهر تقريبا، وقد أفرج عن المساجين لايقاف انتفاضة كبيرة كانت قد أخذت تتفاعل على صعيد جبل عامل ولبنان، ولدى خروجنا من السجن ذهبنا جميعا إلى النبطية حيث جرى لنا استقبال حافل واحتفال وطني كبير وألقيت هناك قصيدة كنت كتبتها في سجن الرمل عنوانها ” أنى يكون الليث فهو الغاب ” منها:

لا السجن يثنينا ولا الارهاب ما شئت فاصنع ما عليك عتاب.

عبد الحسين عبدالله

ولِد عام 1896 ميلادي في بلدة الخيام في الجنوب اللبناني من قرى جبل عامل، ونشأ في عائلة سياسية تهتم بالشعر والأدب، فوالده إسماعيل العبد الله كان من متذوقي الأدب والشعر، وفي تلك الأيام كانت قرى جبل عامل حافلة باللقاءات الأدبية، وكانت هذه المجالس تعقد في صور وطيردبا وشقرا وبنت جبيل وميس الجبل والخيام والنبطية وغيرها من البلدات.

وكانت المناسبات العامة والخاصة والمناسبات الدينية سوقًا للأدب والشعر، وقد ذاع صيت الشاعر عبد الحسين العبد الله، مع صديقه موسى الزين شرارة حيث شغلا منابر جبل عامل ومجالسه ردحاً من الزمن.

كان موظفا في وزارة العدل (كاتب في المحكمة الابتدائية) مما جعله يتنقَّل من مكان إلى آخر، بين الجنوب والشمال وجبل لبنان، ومن نشاطه السياسي انه انتسب الى حزب النداء القومي، كما كان عضوًا في مجمع أدباء جبل عامل.

ضد الفرنسيين ورجال الدين والاقطاعيين

كان شعراء جبل عامل في طليعة من وقف ضد الانتداب الفرنسي، وقد ساند عبد الحسين العبد الله أحمد الأسعد عندما كان ضد الفرنسيين، لكنَّه ابتعد عنه بعد ذلك لأنَّه “استقوى وارتد علينا بعدما فاز بالنفوذ والشعبية”.

اعتقل الفرنسيون الشاعر لمدة ستة أشهر (في العام 1941 مـ) في راشيا الوادي، وبسبب معارضته للانتداب الفرنسي، تم نقل موقعه الوظيفي من الجنوب إلى الشمال كإجراء تأديبي له.

وعرف الشاعر بموقفه السلبي من الدين السائد عموما المحابي للزعماء ومن المشايخ بشكل عام، وفي قصيدة ارسلها لصديقه الشاعر موسى الزين شرارة قالها ردّاً على مديح وصله من أحد العلماء، بأنه أصبح متديناً ويؤدي الفرائض الدينية، أجاب عبد الحسين عبد الله:
علاّمة العصر من أنباك قد كذبا

أني أصلي فعقلي بعد ما ذهبا!

ولحيتي لم تطل يوماً كلحيتكم

ولا عكفت كابن الأسعد الشنبا!
ولا حملت كذيل الهر مسبحة

ولا تركت الهوى والشعر والأدبا
نكبت بالشعر تكفيني نوائبه

دعني ومن بالصلاه والصوم قد نكبا!
يعذب الله من خان البلاد

ومن باع الضمير ومن مارى ومن سلبا
أما أنا كي أزيد النار فوقكم

قدمت جسمي إلى وقادها حطبا!!

ولكبار الموظفين المرتشين نصيب من هجوه أيضاً:
يا مدير الاقتصاد الوطني

دلني من أين أصبحت غني
لم تهاجر لم تتاجر لم ترث

عن أبيك الفذّ غير الرّسن!!

السابق
«القوّة» كعلاقة بين الطوائف اللبنانيّة!
التالي
مع إستمرار إنتفاضة ايلول الشعبية..التومان الإيراني يواصل انهياره أمام الدولار!