تاريخ النهضة في جبل عامل (10): السيد جعفر شرف الدين مربّي الفقراء ونائبهم !

شرف الدين والصدر
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر موقع جنوبية على حلقات ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

يقول العلامة الراحل السيد محمد حسن الامين، من المعروف أن هناك أسراً عديدة من جبل عامل كانت وما زالت تعتبر أسراً دينيّة ولعل من أبرزها آل الأمين وآل شرف الدين وآل فضل الله وآل مغنية وغيرهم. وأذكر شخصياً أن والدي (رضوان الله عليه)، وكان أحد كبار علماء آل الأمين كانت تربطه علاقة تقدير واحترام ومحبة أيضاً بالسيد شرف الدين، ثم تطورّت هذه العلاقات بيننا وبين آل شرف الدين أولاد السيد عبد الحسين وأحفاده وذريته، وتحوّلت إلى صداقة مميزة معهم. وأذكر أنني في مطلع شبابي شاركت في احتفال تأبين السيد صدر الدين شرف الدين وكان أديباً موهوباً مميزاً، وقلت فيه قصيدة مميزة، كما شاركوا هم وشاركنا معهم في كثير من مناسبات كهذه قد يطول شرحها لو اتسع المقام لذلك.

المربي ومعلّم الفقراء

ومن هذه الشهادة للسيد الامين رضوان الله عليه، نبدأ حديثنا عن رائد من رواد النهضة العاملية، هو النائب والوزير الاسبق الأديب جعفر شرف الدين، نجل المرجع الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين، وقد غلبت شهرة “السيد” مضافة على لسان العامليين ليصبح اسم “السيد جعفر” من أكثر الأسماء المحببة على قلوبهم، فقد كان مستودع همومهم ومقيل عثراتهم لا يردّ طلب مكسور ولا خائب او محتاج من أهله، كما فتح ابواب مدرسة الكلية الجعفرية في مدينة صور مجانا، عندما تولى ادارتها لأبناء العمال والفلاحين من عامة الجنوبيين، غير القادرين على تحمل تكاليف الاقساط، فنالوا شهاداتها العلمية والادبية منها، ولم ينسوا وأهلهم هذا الفضل الكبير، خصوصا مع ندرة وجود المعلمين منتصف القرن الماضي، وتحمل السيّد لتكاليف باهظة جراء التعاقد مع مدرسين من خارج الجنوب واضطراره ان يسكنهم في المدينة على نفقته.

ولد السيد جعفر شرف الدين في العام 1920 في بلدة شحور في جبل عامل، وتلقّى دروسه الأولى في مدينة صور وبعدها انتسب (سنة 1942) إلى الكلية الشرعية في بيروت، والتحق بمعهد الآداب الشرقية، درّس في الكلية الجعفرية في صور التي كان قد أنشأها والده المرجع، وأحدثت طفرة أدبية علمية كبرى كما اسلفنا في الجزء السادس من سلسلتنا هذه، وتولى السيد جعفر إدارتها في العام 1944 وحتى وفاته. أنشأ في سنة 1945 مجلة المعهد وأدارها مدّة من الزمن. سنة 1959 أنشأ السيد جعفر باسم جمعية البر والإحسان أربع عشرة مدرسة ابتدائية مجانية، انتشرت في قرى وبلدات المنطقة. إلى العام 1963 حيث أنشأ جمعية إنعاش القرى، حيث نقلت إجازات المدارس من البر والإحسان إلى هذه الجمعية.

من التعليم الى النيابة

وبتشجيع من ابناء بلده وجمهور محبيه ترشّح السيد جعفر للنيابة فانتخب نائبا عن المقعد الشيعي في قضاء صور على مدى ثلاث دورات (1960 – 1972)، وكان مقررًا للجنة التربية في البرلمان، غير ان انغماسه في الشأن العام وتقلده تلك المناصب لم يبعده عن تتبع هموم اهله ومشاكلهم.

يقول حسين حجازي في مقال كتبه بتاريخ 8/7/2011 في موقع جنوبية “كان السيد جعفر شرف الدين في طليعة الثائرين والمنتفضين، في كل مرة تجد الحركة الشعبية وجوب مناهضة الجور والظلم والاستغلال وفي علاقته مع ولادة كتاب “المراجعات”، نجد أن فكره وثقافته قد ترعرعا على نهج والده المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين، وانطلاقاً من ذلك فقد انصرف إلى تأليف الكتب وتنسيق المعلومات، وتوّج ذلك بـ”الموسوعة القرآنية” الشهيرة التي أجابت عن حاجة المثقف إلى فهم وتدبر القرآن الكريم وفهم المتشابه من آياته والإطلاع على فنون البلاغة وقوة التعبير فيه. التسامح هو العنوان وفي مذكرات هذا الرجل الكبير، وخلال أحاديثه وخطبه، ترى كم كان متأثراً بوالده الإمام شرف الدين، والذي كان رأس الحربة في مناهضة الاستعمار، والذي حرص على أن يكون ولده جعفر وريثاً له في إكمال المسيرة وتبليغ الرسالة. ويوافق مولده سنة 1920 وهي السنة التي عقد فيها “مؤتمر وادي الحجير” الذي تقرر فيه بعد قسم اليمين، “حفظ الأمن والحرص على سلامة النصارى” على هذا النهج استقرت شخصيته فكان متسامحاً داعياً إلى المحبة والوئام لطيفاً لين الجانب والحديث، وكان خطيباً مفوهاً لا تعوزه الحجة ولا تخونه العبارة، أصيلاً ظل أميناً لشرف انتسابه، أميناً على تراث آبائه المقدسين”.

فتح ابواب صرح الجعفرية لأبناء العمال والفلاحين من العامة الطموحين فنالوا شهاداتها العلمية والادبية منها

عمل السيد جعفر في مجال الكتابة الأحب إلى قلبه، لاعتباره الكلمة واللغة وعاء الفكر وأداته للوصول إلى المجتمع فألّف: 1- أدب الطَّف. 2- من هنا نبدأ – جبل عامل من لبنان – إني أتَّهم. 3- حرب رمضان – حرب الغفران. 4- جذور الثورة الإسلامية. 5- معجم أدباء المعهد. 6- تحت قبة البرلمان. 7- لبنان في حكامه وممثليه 1860 – 1980. 8- دائرة معارف التراث. 9- الموسوعة القرآنية.

إقرأ ايضاً: إفتتاحية صاروخية للدولار..ما بعد بعد الـ40 الف ليرة!

رحل السيد جعفر شرف الدين في 27 تموز 2001، ولكنه ظل حديثاً حسناً وذكرى محببة، والحديث عنه يظل قاصراً عن بلوغ همته ونبل سريرته، كان موضع الحاجات ومقصد العارفين والمحتاجين، ميزه سخاء الكف ولطف المعشر وبسمة ترتسم طليقه على وجهه.. بساطته وطلاقة محياه ما هي إلا الوجه الآخر لقوة شخصيته وثباتها على الحق.. كان منحازاً للعدل منافحاً عن مبادئ الدين، قوياً في محاربة الباطل، لا تأخذه في الحق لومة لائم، حسبه أنه صار حكاية طيبة، كلما ذُكر ذكرت صفات الرجولة وحضرت سانحات النبل، ولا أحسبني إلا مقصراً في نقل صورة متكاملة عن هذا الرجل لذلك سأترك للذين عرفوه وكرموه وهم من ذوي الأقلام المشرقة أنقل عنهم بعض ما حكوه عنه خلال احتفالات تكريمه، وما أنقله غيض من فيض، آخذه عن بعض من كثير يضيق المجال عنهم فلي منهم العذر والمغفرة.

كان السيد جعفر شرف الدين في طليعة الثائرين والمنتفضين في كل مرة تجد الحركة الشعبية وجوب مناهضة الجور والظلم

رثاه العلامة الراحل السيد محمد حسن الأمين، وقال في تكريم شرف الدين بدار الندوة ببيروت: السيد جعفر شرف الدين، معلم جبل عامل الأول، لا يمكن استحضاره، إلا لكي نستحضر الإمام عبد الحسين شرف الدين، وصرح الجعفرية، فهذا الثلاثي يشكل شخوص المسرح، الذي نتكلم عنه ولا بد من أن يكون عنصر الزمان مقدساً لهذا الوجود الذي قامت عليه الجعفرية وقام عليه زمن الجعفرية… ذلك أن الجعفرية لم تكن، فحسب، مكاناً من أجل أن يذهب أبناؤنا من كل هذا المدى الجنوبي، من أجل أن يتعلموا الحرف، إنها كانت أعمق من ذلك بكثير”. تشكلت على قاعدة الجعفرية، وفي مناخها وبين طلابها وأساتذتها، حركة الاعتراض التي كانت صرحاً من الصروح التي بدأها الإمام شرف الدين، والتي صنعها أمام عينيه السيد جعفر، والذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من التاريخ العاملي، بل من تاريخ المنطقة العربية.

السابق
إفتتاحية صاروخية للدولار..ما بعد بعد الـ40 الف ليرة!
التالي
في الذكرى الثالثة للثورة..17 تشرين «مسار ومسيرة»