الطريق إلى رئاسة الجمهورية بشير الجميل (7).. «قديس» لبنان و«شيطانه»؟

بشير الجميل
أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

نحن قديسو هذا الشرق وشياطينه”، جملة لطالما رددها الرئيس السابع للجمهورية اللبنانية الشيخ بشير الجميل أثناء الحرب الأهلية، و”نحن” هنا لم تكن تعني في قاموسه يومها اللبنانيين كشعب، بل كانت تعني حصراً المسيحيين والموارنة خصوصاً. هذه الجملة تختصر ربما حياة بشير الجميل القصيرة نسبياً، لكنها الحافلة بالأحداث والتطورات التي طبعت لبنان منذ بداية الحرب الأهلية، والتي إنتهت به ليكون أصغر رئيس جمهورية سناً، وأول رئيس للجمهورية في لبنان ينتهي عهده قبل أن يبدأ، فكان ولا يزال بعد 40 عاماً على غيابه من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في لبنان، حيث هو في نظر البعض من الناس “قديساً” و “شيطاناً” في نظر البعض الآخر، كما هي حال غالبية الشخصيات المؤثرة في التاريخ.

اقرا ايضا: الطريق إلى رئاسة الجمهورية (6):إلياس سركيس..«الآدمي في غير أوانه»!


ولد بشير الجميل في 10 تشرين ثاني عام 1947 في منطقة الأشرفية ببيروت، هو الإبن الأصغر لعائلة مسيحية سياسية بارزة، والده بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب اللبنانية عام 1936، الذي بدأه كحركة شبابية متأثراً بالأحزاب الفاشية، في كل من إيطاليا وإسبانيا إبان دراسته في أوروبا، تلقى بشير الجميل تعليمه بداية في مدرسة نوتردام الجمهور، إنتقل بعدها إلى مؤسسة لبنان الحديثة في الفنار، تابع دراسته الجامعية في جامعة القديس يوسف في بيروت حيث حصل على بكالوريوس في القانون عام 1971، ومن ثم في العلوم السياسية عام 1973، إنضم لنقابة المحامين في بيروت عام 1972 وفتح مكتباً له في شارع الحمرا.

لا يزال بعد 40 عاماً على غيابه من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في لبنان حيث هو في نظر البعض من الناس “قديساً” و “شيطاناً” في نظر البعض الآخر كما هي حال غالبية الشخصيات المؤثرة في التاريخ.


لا يمكن الحديث عن حياة سياسية لبشير الجميل قبل الحرب الأهلية، التي إندلعت عام 1975 وذلك لحداثة سنه يومها، إذ إنضم إلى قطاع الشباب في حزب الكتائب وهو بعمر 12 عام، ومن ثم ترأس دائرة طلاب الكتائب في جامعة القديس يوسف بين عامي 1965 و 1971، خضع لتدريب عسكري أواخر الستينيات على خلفية الصراع مع الفدائيين الفلسطينيين، وعُيِّنَ قائداً لإحدى فرق “القوى النظامية” الكتائبية، ومن ثم إنضم لفرقة النخبة الكتائبية التي كان يطلق عليها إسم ب . ج – وهما الحرفان الأولان من إسم بيار الجميل – والتي تولى قيادتها لاحقاً .
أختطف عام 1970 من قِبل مقاتلين فلسطينيين، حيث إقتيد إلى مخيم تل الزعتر، وهناك قيل أنه تعرض للضرب، ما كان له عظيم الأثر لاحقاً على موقفه، من الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان عموماً.
كغيره من الشباب اللبناني خاض بشير الجميل غمار الحرب الأهلية، لكنه بحكم تمرسه في حزب الكتائب اللبنانية – حزب الله والوطن والعائلة – وتدريبه العسكري السابق لها، إنخرط بها “ضابطاً” في ميليشيا حزب الكتائب بقيادة وليام حاوي، مؤسس الجناح العسكري لهذا الحزب، إرتبط إسمه بمجزرة السبت الأسود، وهي “باكورة” المجازر في الحرب الأهلية اللبنانية التي حدثت في 6 كانون أول 1975، إثر مقتل 4 مقاتلين كتائبيين على أيدي ميليشيات الطرف الآخر، أمر يومها بشير الجميل رجاله بالإنتشار، حيث قاموا بإختطاف وقتل مئات المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين “على الهوية”، كما درجت التسمية بعد ذلك، وكما أكد ذلك كريم بقرادوني بعدها، نقلاً عن إعتراف بشير نفسه أمامه في حين ينفي ميشال سماحة ذلك، بعدها وفي 18 كانون الثاني قاد بشير الجميل قواته، لإجتياح مخيم الكرنتينا المحاذي لمرفأ بيروت في محاولة لتصفية الوجود الفلسطيني في شرق بيروت، لتُرتكب مجزرة أخرى أفظع من الأولى عُرِفت بمجزرة الكرنتينا، حيث قُتِل أكثر من ألف مقاتل ومدني، ونتج عنها بعد يومين إجتياح بلدة الدامور المسيحية من قبل الفصائل الفلسطينية وحلفائها، فيما عُرِفَ بعدها بمجزرة الدامور، لتكر بعدها سبحة المجازر وشهوة الإنتقام والثأر من قِبل الجانبين، في أسوأ وأبشع ظاهرة في هذه الحرب، حيث كان المدنيون هم وقود هذه المجازر في كل مرة، فكان الرد بمجزرة النبعة ومخيم جسر الباشا وصولاً إلى مجزرة تل الزعتر، وهو من أكبر المخيمات وأهمها في المنطقة الشرقية من بيروت، حيث بدأت المناوشات حوله مع بداية عام 1976، وحوصر تماماً في شهر حزيران، ليسقط في أيدي الكتائب وحلفائها في آب من العام نفسه بمساعدة من القوات السورية التي كانت قد دخلت لبنان أوائل حزيران، بعد معارك دموية وشرسة قتل فيها القائد العسكري للقوى النظامية الكتائبية وليام حاوي، ليتسلم بعده القيادة المباشرة لهذه القوى الشيخ بشير الجميل، لتكون بداية المشوار حيث سطع نجمه بعدها وبات يتصدر المشهد المسيحي.

اختطف عام 1970 من قِبل مقاتلين فلسطينيين حيث إقتيد إلى مخيم تل الزعتر وهناك قيل أنه تعرض للضرب ما كان له عظيم الأثر لاحقاً على موقفه من الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان عموماً


نسج بشير الجميل إبان الحرب الأهلية في لبنان، علاقات مع إسرائيل بعد أن كان سبقه إليها الرئيس الأسبق كميل شمعون، الذي وبحسب وثائق إسرائيلية أُفرج عنها مؤخراً قد جدَّد إتصالاته بالإسرائيليين، بعد أن كان قد بدأها في العام 1958، وفي منتصف تشرين ثاني من العام 1975، وصلت أول شحنة أسلحة من إسرائيل إلى القوى المسيحية، توزعت بين “نمور” شمعون وقوات كل من أمين وبشير الجميل، وإقتصرت العلاقة في البداية على التزود بالسلاح، لتبدأ بعدها المناقشات السياسية إبتداءً من صيف 1976، أي بعد دخول القوات السورية للبنان بموجب إتفاق مورفي – الأسد لمساعدة المسيحيين، التي كان بشير الجميل معارضاً لدخولها، على خلاف الجناح السياسي في حزب الكتائب والجبهة اللبنانية، وهو ما جعله يفكر بكيان مستقل عن الحزب، ومن هنا قد تكون جاءت فكرة “القوات اللبنانية”.

نسج بشير الجميل إبان الحرب الأهلية في لبنان علاقات مع إسرائيل بعد أن كان سبقه إليها الرئيس الأسبق كميل شمعون


في ذلك الصيف زار وفد من الموساد ومخابرات الجيش الإسرائيلي لبنان سراً، ومكث ثلاثة أيام حيث زار مقرات قيادة قوات الكتائب والأحرار، كذلك إجتمع مع طوني فرنجية ممثلاً جيش التحرير الزغرتاوي وذلك لتقييم الوضع، كما زار بلدة بكفيا حيث تناول الغداء إلى مائدة بشير الجميل، بدأ بعدها إرسال أفراد ومسؤولين من الميليشيات للتدريب في إسرائيل. تطورت العلاقة مع تصاعد دور بشير الجميل في المنطقة الشرقية من بيروت، حيث بدأ يسعى لفرض نفسه قائداً أوحد للمسيحيين لتعزيز وحدتهم وصمودهم أمام المخاطر – كما كان يرى – هذا الطموح الذي ما كان ممكناً الوصول إليه، إلا عبر الحروب والدم والمجازر للأسف الشديد، وهكذا في البدء كانت مجزرة إهدن في عام 1978، التي راح ضحيتها طوني فرنجية وعائلته والعشرات من أنصاره، بعد خلافات بين الطرفين حول السياسة والنفوذ في المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، والتي جاءت بعد مقتل مسؤول الكتائب في الشمال جود البايع على يد أنصار فرنجية، بعدها مباشرةً جاءت حرب المئة يوم في الأشرفية، التي بدأت بعد توقيف أحد الحواجز السورية بشير الجميل عدة ساعات، وإنتهت بإنسحاب القوات السورية من بيروت الشرقية، ما عزز من صورة بشير في الوسط المسيحي كقائد “مقاوم” قادر على المواجهة.
في شباط من العام 1980 نجا من محاولة لإغتياله بسيارة مفخخة، قتلت على أثرها طفلته مايا وهي بعمر ال 18 شهراً، وفي 7 أيلول 1980 كانت مجزرة الصفرا ضد قوات “نمور الأحرار” بقيادة داني شمعون، الذي نجح بتجنب مصير طوني فرنجية عندما لجأ إلى بيروت الغربية معقل “أعدائه” من الفلسطينيين والسوريين، بعد تصفية قواته وإعلان الرئيس كميل شمعون حلها أو دمجها مع “القوات اللبنانية”، التي أصبحت منذ ذلك الحين وحتى إنتهاء الحرب، الذراع العسكرية غير النظامية الوحيدة في المناطق المسيحية، ما مكنها بعد ذلك في العام التالي 1981، من الصمود في معركة زحلة مع القوات السورية، التي كادت أن تؤدي إلى حرب إقليمية بين سوريا وإسرائيل.

مع بداية العام 1982 وهو عام الإنتخابات الرئاسية وفي كانون الثاني تحديداً زار وزير الدفاع الصهيوني آرييل شارون لبنان سراً وإجتمع مع بشير الجميل الذي كان يتهيأ لخوض معركة الرئاسة بدعم من قيادات في الجيش اللبناني


مع بداية العام 1982، وهو عام الإنتخابات الرئاسية وفي كانون الثاني، تحديداً زار وزير الدفاع الصهيوني آرييل شارون لبنان سراً وإجتمع مع بشير الجميل، الذي كان يتهيأ لخوض معركة الرئاسة بدعم من قيادات في الجيش اللبناني ومخابراته، وبعلم من الرئيس اللبناني آنذاك إلياس سركيس، كما يُعتقَد على نطاق واسع، وشارك في هذا الإجتماع والده الشيخ بيار الجميل حيث قال لهم شارون “إننا ذاهبون إلى حرب واسعة النطاق ضد منظمة التحرير في لبنان، ومن شأن هذه الحرب أن تُحدث تغييراً في العلاقات اللبنانية – الإسرائيلية”، طالباً دعم ومشاركة القوات اللبنانية في هذه الحرب، وأشيع بأن بشير الجميل أوصل هذه الرسالة لمستشار ياسر عرفات السيد هاني الحسن، ناصحاً إياه بالإنسحاب من لبنان قبل فوات الأوان، وكان شارون يشير هنا إلى الإجتياح الصهيوني الذي بدأ في 6 حزيران 1982، ووصل حتى بيروت مخلفاً ألآف الضحايا خاصة من المدنيين علاوة على المقاتلين، ودمار قل نظيره، وحصار دام لثلاثة أشهر أسفر عن فقدان المواد الغذائية الأساسية، وقطع للمياه عن الناس المحاصرين شاركت فيه “القوات اللبنانية”، وإنتهى بخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى المنافي.

هو الإغتيال الذي تم في لحظة تقاطع المصالح السورية والإسرائيلية كما يعتقد الكثيرين – أوقف كل هذه المخططات وأنهى عهده قبل أن يبدأ بعد أن كانت بدأت تلوح في الأفق مؤشرات إيجابية وواعدة عن كيفية ممارسته السلطة

وبإنتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية في 23 آب بحصوله على 57 صوتاً من أصل 62 نائباً حضروا الجلسة، بينهم من شارك تحت الضغط والتهديد، وهو إنتخاب رفضته بداية القوى الإسلامية والوطنية وإعتبرته غير شرعي، لأنه تم في ظل الإحتلال الإسرائيلي أولاً ، ولأنه يمثل بنظرها غلبة للطرف المسيحي المسلح ثانياً، وهو أمر لا يحتمله الوضع اللبناني بتعقيداته المحلية والإقليمية، فكان أن جرى بعدها عدة إتصالات داخلية خاصةً مع الرئيس صائب سلام، وعربية خصوصاً مع المملكة العربية السعودية أسفرت عن بداية تفاهم، ما أثار ريبة وحفيظة الدولة العبرية – وبالتأكيد النظام السوري – التي كانت تطالب بشير الجميل بتوقيع إتفاقية سلام معها، وكان إجتماع نهاريا في الأول من أيلول بين مناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل وبشير الجميل، عاصفاً وحاسماً في هذا الموضوع، حيث تلقى الجميل توبيخاً بسبب ما رأى فيه بيغن تهرباً من توقيع إتفاقية السلام، في حين أصرَّ الجميل بأن هذا الموضوع يحتاج لبعض الوقت لحين تحقيق توافق لبناني وعربي حوله، وإنتهى الإجتماع على “زغل”، كما يقال، ليزوره بعدها آرييل شارون في بكفيا قبل إغتياله بيومين لمحاولة ” ترطيب الأجواء ” – هل كان هذا هو المقصود فعلاً أم أن الأمر كان مدبراً له لطمأنته من النوايا الصهيونية تجاهه؟ لا أحد يعرف – المهم بأن إغتياله الذي لم ينجُ منه هذه المرة في 14 أيلول 1982، والذي قام به حبيب الشرتوني عضو الحزب السوري القومي الإجتماعي الموالي والمدعوم من سوريا – وهو الإغتيال الذي تم في لحظة تقاطع المصالح السورية والإسرائيلية كما يعتقد الكثيرين – أوقف كل هذه المخططات وأنهى عهده قبل أن يبدأ، بعد أن كانت بدأت تلوح في الأفق مؤشرات إيجابية وواعدة عن كيفية ممارسته السلطة، وحديثه عن ضرورة مكافحة الفساد، حتى قيل يومها بأن الأمور بدأت تنتظم في بعض إدارات الدولة المختلفة، جراء خطابه الحازم بهذا الخصوص، فكان أن أعاد إغتياله الوضع إلى نقطة الصفر أو ما دونها، حين إرتكبت القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة وقوات الرائد سعد حداد – كما جاء في التحقيقات لاحقاً – وبغطاء وغض نظر إسرائيلي، مجزرة رهيبة يندى لها جبين الإنسانية، وأعادت للذاكرة مجازر حرب السنتين، وذلك في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين العزل، بعد خروج قوات منظمة التحرير من لبنان بضمان إتفاق فيليب حبيب، أسفرت عن ذبح الآلاف من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، أعقبها إحتلال بيروت الغربية لتنطلق بعدها شرارة فتنة جديدة، وطريق جلجلة جديدة كان على لبنان أن يمشيها، لتؤكد الأحداث مرة أخرى، إستحالة أن يُحكم لبنان عن طريق الغلبة لفريق على آخر، أو بالتحدي والفرض والإكراه، ولتسدل الستارة على حياة بشير الجميل المقاتل والقائد العسكري والرئيس، بكل ما لها وما عليها من ممارسات غير عادية وراديكالية، جعلت منه “قديساً” في نظر أتباعه ومريديه، و “شيطاناً” في نظر خصومه حتى اليوم، وكلا النظرتين فيها الكثير من المبالغة على ما أعتقد بالرغم من وجود الكثير من المبررات لها، فالرجل ببساطة كان إنساناً ربما يراه البعض غير عادي، ولكنه بالتأكيد لم يكن شيطاناً ولا قديساً، بل كان كغيره من الزعماء والقادة مع بعض التميز بلا شك سواء سلباً أو إيجاباً، له رؤيته لبلده ومجتمعه، وله طموحه وطريقته في تحقيق هذه الرؤية وهذا الطموح، أخطأ بلا شك في محطات عدة وأصاب حتماً في محطات أخرى، ودفع ثمن خياراته في النهاية التي كان لها بلا شك تبعاتها على الوضع اللبناني العام.
وحده التاريخ هو من سيحكم له أو عليه، ولكن.. من يكتب التاريخ في لبنان ؟ هذا هو السؤال – المشكلة، ولهذا بحثٌ آخر.

السابق
من البحرين.. شيخ الأزهر يوجه نداء إلى «علماء الشيعة»
التالي
بالأرقام.. كم ستصبح كلفة الكهرباء مع اعتماد التعرفة الجديدة؟