إنتفاضة تشرين.. بين الإنجاز والإنكسار و«جلد الذات»!

ثورة ساحة الشهداء لبنان ينتفض

لم تأت انتفاضة ١٧ تشرين من العدم، وإنما جاءت نتيجة لتراكم عدد من التحركات المتقطعة ولكنها متصلة، حملت مطالب قطاعية خاصة ومطلبية ووطنية عامة تتعلق بالاجور والحريات والديموقراطية والعلمانية ومكافحة الفساد.
الا ان انتفاضة تشرين كانت الاشمل والاوسع جغرافيا وطائفيا، مستفيدة من صراع وتسابق اهل السلطة على نهب أملاك الدولة وثرواتها وترسيخ نظام المحاصصة فيما بينهم، وتدهور شتى انواع الخدمات…
وقد فاقم هذا الوضع، تخلي المنظومة الحاكمة عن سيادتها، وعن صون حدودها وتوريط البلد في حروب خارجية، لم تدر علينا سوى الدمار والخسائر وكثرة الاعداء من عرب وأجانب.

انتفاضة تشرين كانت الاشمل والاوسع جغرافيا وطائفيا مستفيدة من صراع وتسابق اهل السلطة على نهب أملاك الدولة وثرواتها وترسيخ نظام المحاصصة فيما بينهم


في ظل هذه الأوضاع انبثقت انتفاضة تشرين، حاملة مطالب مختلف المنتفضين وفق أولويات متنوعة، حملتها طلائع متنورة ومثقفة ابتعدت عن طوائفها، وحملت مصلحة الوطن كما تراها كل جماعة منها، واحتفل المنتفضون بتجمعهم وبوحدتهم بمواجهة المنظومة الفاسدة، فكانت انتفاضة سلمية راقية تصدت لقمع السلطة وميليشياتها بالصدور العارية، فسقط شهداء وجرحى في التصدي لأرهاب السلطة واستدراج الانتفاضة إلى العنف.
وبعد صمود طويل بمجابهة السلطة ووباء الكورونا، تمكنت المنظومة الحاكمة من استرجاع جماعات من المنتفضين إلى طوائفهم، بالقمع والحصار وتهديد لقمة عيشهم وتجييش العداء الطائفي. وقد تزعم الثنائي الشيعي عملية مواجهة الانتفاضة، حيث تخصص أحدهما بالقمع الجسدي، يساعده الطرف الآخر عند الضرورة، وتخصص الآخر في تشويه سمعة المنتفضين وتخوينهم، وتنسيب انتفاضتهم إلى سفارات والى أعداء هم ابعد الناس عنهم. وكان لهذا الدور، بعد شبه اقتصار استقطاب الانتفاضة للطبقة الوسطى الى صفوفها، عدم التمكن من استقطاب الفئات الشعبية ، وغياب دور النقابات العمالية والزراعة وروابط المعلمين والطلاب والاتحاد العمالي العام، وشتى الهيئات التمثيلية لمختلف الفئات، و التحاق هذه الجهات، بمعظمها ،حيثما وجدت بأحزاب السلطة، والعمل لصالحها، وهو دور اساسي في انكشاف الانتفاضة.

بعد صمود طويل بمجابهة السلطة ووباء الكورونا تمكنت المنظومة الحاكمة من استرجاع جماعات من المنتفضين إلى طوائفهم بالقمع والحصار


دون أن ننسى ان الاحزاب باتت بمعظمها أحزابا سلطوية، أو هامشية أو متأرجحة بين معارضة للمنظومة وموالاة لبعض أحزابها. وقد التبس على البعض التمييز بين المقاومة الوطنية اللبنانية بعمقها الثقافي والوطني الشامل ،والمقاومة الإسلاميةبوجهها المذهبي ومرجعيتها الخارجية، فاعتبروا ان الثانية هي امتداد للاولى، فتجنبوا أي نقد لها واكتفوا بالسكوت، وتلقي الصفعات والاتهامات منها دون توجيه الرد المناسب، الذي يفضح الخصم ويشد ازر الحليف.
اضافة الى واقع يجب أن لا يحجب عن وعينا، أن معظم الطائفة الشيعية والطائفة الدرزية وجمهور التيار الوطني الحر وحلفائه، كانوا ضد الانتفاضة، كما ان ضياع الجمهور السني وتأرجحه بين المعارضة ضمن السلطة وضمن الانتفاضة وبين الموالاة، جعل مشاركته ملتبسة ودون المستوى المتوقع. هذا الواقع حرم الانتفاضة من عمقها الشعبي، ومن التوسع والاستمرار وتحقيق بعض مطالبها.. هذه هي الأسباب الفعلية لعدم استمرار الانتفاضة وتحقيقها لاهدافها. جأما الحديث عن ثغرات الانتفاضة ، مثل عدم وجود قيادة وعدم وضع سلم اولويات للمطالب ، ونزعة التزعم والاستقلال لدى البعض،فجميعها صائبة ولكنها تبقى هامشية وغير مقررة، والتركيز عليها ما هو إلا جلد للذات وتضخيم للعوامل الذاتية على حساب وعينا للواقع الموضوعي.

من يعتقد ان هناك من لا يتحمل المسؤولية من هذه العصابة الحاكمة فليعلن عنه صراحة


أما نقد شعار ( كلن يعني كلن) فهذا يتطلب بعض التدقيق. والتدقيق يطال المضمون كما يطال الامكانية. في المضمون أين الخطأ في تحميل ما آلت اليه امور البلد إلى الجميع،؟ ( كلن يعني كلن) ومن يعتقد ان هناك من لا يتحمل المسؤولية من هذه العصابة الحاكمة فليعلن عنه صراحة.
هل الرئيس سعد الحريري، والسيد وليد جنبلاط أبرياء، هل القوات اللبنانية بريئة من تهمة توصيل الرئيس ميشال عون إلى سدة الرئاسة ضمن صفقة معلومة، الم يؤمن الحريري وجنبلاط النصاب لنيل حكومة حسان دياب الثقة، مشترطة ان يتبنى هذا الاخير مشروع الحريري الاقتصادي الذي وقفت الانتفاضة ضده؟
إن الاكتفاء بتحميل مركز الحكم (الحزب والعونيون) المسؤولية كاملة لوحدهم، هو مثل تحميل حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة مسؤولية الانهيار لوحده. وهذا فيه حجب لمسؤولية المنظومة مجتمعة، ولو بتفاوت، للمسؤولية. الاستيلاء على قطاعات البلد المنتجة من نفط واتصالات و… بدأت قبل الحزب والعونيين، وكل ما فعله الاخيران هو الانضمام إلى نادي أكلة قالب الجبنة، بأمعاء خاوية وافواه كبيرة لتعويض ما فاتهما. وهكذا تمكنا من المساهمة النشطة مع من سبقهما، في هدم أسس الدولة بمعاول اكبر وهمة أشد.

الاكتفاء بتحميل مركز الحكم (الحزب والعونيون) المسؤولية كاملة لوحدهم، هو مثل تحميل سلامة مسؤولية الانهيار لوحده


اما اذا كان القصد من نقد هذا الشعار هو تأثيره على التحالفات في الانتخابات الأخيرة، فهذا بحاجة ايضا إلى تدقيق لمعرفة اذا كان له أي تأثير سلبي على النتائج، في ظل اتفاقات من تحت الطاولة بين بعض هذه الاطراف مع أطراف من المنظومة. كما التدقيق في إمكانية عقد هكذا تحالفات دون التأثير السلبي على وحدة المعارضة في حينه.
اما من حيث الامكانية فعلى المنتقدين، التدقيق في قدرة قوى الاعتراض على اقتصار نقدها على الثنائي الشيعي وحلفائه وحدهم، وخاصة حيث التواجد الشيعي الكثيف، في الجنوب والبقاع، ومدى تأثير ذلك على وحدتنا، وانكشافنا واظهارنا بمظهر اننا لسنا ضد الفساد، وإنما ضد سلاح المقاومة فقط..
وفي المحصلة، لا بد من الاعتراف اننا رغم الكثير مما حققناه، من تعرية وفضح واضعاف لهيبة العصابة الحاكمة وسطوتها، الا اننا انهزمنا في معركة تحقيق المطالب الحياتية، ومحاسبة المرتكبين واسترجاع الاموال المنهوبة. نعم لقد فشلنا ويدفع ثمن فشلنا الناس وأغلبهم من جمهور العصابة الحاكمة. وهذه النتيجة على سلبيتها ستؤسس لمعارضة أوسع، اذا احسنا تنظيم صفوفنا وتوسيع قاعدة اتصالاتنا، آخذين بعين الاعتبار المستجدات التالية:

لا بد من الاعتراف اننا رغم الكثير مما حققناه من تعرية وفضح واضعاف لهيبة العصابة الحاكمة وسطوتها الا اننا انهزمنا في معركة تحقيق المطالب الحياتية


_قدرة المنظومة الحاكمة على الاستمرار في تقديم الرشاوى إلى جمهورها، في ظل الازمات المعيشية وتراجع عائدات الدولة.
-قدرة المنظومة الحاكمة على توزيع شهادات الوطنية والخيانة، بعدما فرطت بثروة لبنان البحرية من غاز ونفط تحت شعار مقاتلة اميركا واسرائيل، بينما المنتفضون والنواب التغييريون، (عملاء السفارات،) يرفضون المطالب الاميركية والاسرائيلية.ويتمسكون بالخط البحري ٢٩.
-انفضاح ادعاءات بعض اقطاب المنظومة، بانها سترفض تحميل الناس أي ضرائب تطالهم في الوقت الذي يشرعون الضرائب والرسوم على كل شيء.
ستكشف الايام القادمة للمودعين ان اموالهم قد نهبت وان اموال قادتهم قد هربت. وستستمر قوى المنظومة في دفع مختلف القطاعات والخدمات الى الانهيار، وهذا سيزيد من افقار الناس، الا ان ذلك سيتطلب جهودا جبارة كي يتحول الناس الى منتفضين بدلا من تحولهم الى شحاذين وازلام للحكام..
اخيرا علينا الحذر من الاستمرار في تيئيس الناس، عبر تحميل النواب التغييريين مسؤولية كل المشاكل، وتوهم ان بإمكانهم تغيير الاوضاع ولكنهم يتلكؤون.

ستكشف الايام القادمة للمودعين ان اموالهم قد نهبت وان اموال قادتهم قد هربت


كفانا تحميلهم مسؤولية ما عجزنا نحن عن تحقيقه، وهو توحيد القراءة السياسية للواقع الراهن، وبناء سياساتنا على هذا الاساس.
كفانا تصور بأن نوابنا التغييريين يتحكمون بإنتخاب رئيس الجمهورية، كما يدعي الدكتور سمير جعجع. الجميع يعلم ان انتخاب رئيس الجمهورية كان ولا يزال يتحكم فيه الخارج الغربي ولعربي، بنسبة كبيرة، والآن أضيف اليه الإيراني، وبسبب التوازنات الراهنة في المجلس النيابي، فإن أحدا لا يمكنه فرض مرشحه والخيار المتاح، هو بين رئيس توافقي او عدم انتخاب رئيس، إلى ان يتفق عليه الخارج. فحتى ولو انضم النواب التغييرين الى مؤيدين لانتخاب المرشح ميشال معوض، فإن الممانعين سيطيرون النصاب ويمنعون انعقاد الجلسة. فكفى تلهي بالقشور، وكيل التهم والاوصاف بحق نوابنا التغيريين.

يركزون على التباينات في صفوف التغييريين لصرف الانظار عن صفقات تعقد بين الممانعة والغرب بينما السياديون غائبون عن ملفات سيادية


فيكفي ان كلا التيارين الممانع والسيادي يقومان بهذه المهمة. لنكن جميعا الحضن الحامي لهم ومساعدتهم في قراءة الاوضاع واقتراح الحلول. فلنشجعهم ونساعدهم على الوحدة والتنسيق مع آخرين، وخاصة مع الدكتور أسامة سعد وسواه من الذين تتقارب المواقف معهم. وإذا تعذر المحافظة على هذه الوحدة، فليستمروا في إطار تنسيقي حتى ولو انقسموا او انفرط عقد وحدتهم.
من المؤسف ان الإعلام يركز على أقل خلاف في صفوف التغييريين، ولا يلتفت إلى رفض انعقاد المجلس النيابي لمناقشة الترسيم البحري؟
يركزون على التباينات في صفوف التغييريين، لصرف الانظار عن صفقات تعقد بين الممانعة والغرب، بينما السياديون غائبون عن ملفات سيادية، كالترسيم البحري مع العدو ، وكانه ملف غير سيادي..
بهكذا وعي نكون مخلصين لذكرى ١٧ تشرين بعد ثلاث سنوات على ذكرى انطلاقتها.

السابق
لا حكومة قبل انتهاء العهد.. وهذه العوائق أمام التشكيل
التالي
الدولار يعاود الارتفاع.. كيف افتتحت السوق السوداء اليوم؟