وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: رئاسة ميليشيات لا رئاسة جمهورية

ندوة كتاب وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

بين التوافق والتنافس مسافة لا تقاس بالدرجة أو البعد والقرب، أو القوّة والضعف، هي مسافة نوع ونمط، مسافة افتراق وانفصال بين طريقين ومسارين وعقليتين، بين اسلوبي حكم وتدبير سياسيين يقوم كل واحد منهما على ركائز مباينة ومناقضة لأسلوب الآخر. بين مسار توافقي من جهة يلغي الديمقراطية ويصادرها لأنه يسبقها ويتقدم عليها وصاحب اليد العليا عليها، بالتالي يتحكم بنتائجها ويقررها مسبقاً قبل حصول عملية الاقتراع، ومسار تنافسي من جهة أخرى يطلق الطاقات إلى أقصاها، ويدفع كل منافس إلى إظهار أفضل ما عنده، ويُفعِّل العملية الديمقراطية ويجعلها صاحبة الكلمة الأخيرة، والمرجع الوحيد في تحديد الأكفأ لتولي منصب رسمي ذي صفة تمثيلية.

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: اتفاق اكبر من ترسيم حدود بحرية


التوافق لعبة تمارس في الخفاء، بين قوى وجهات تحرص على عدم حدوث أي تغيير في مواقعها أو تعديل في مساحات نفوذها، قوى تريد واقعاً ثابتاً هادئاً مستقراً، يعطل الزمن ويحاصر مفاجآت المستقبل، تمدّ وصايتها على كل المواقع والمناصب. لذلك تتوافق هذه القوى على معادلة أو شخص هجين ضعيف مقيّد ومحاصر من كل الجهات ورهين إراداتها.  
أما التنافس فيستجيب لنداء التغيير والتحوّل، يخلق جدلية ودينامية داخل الحياة العامة، يسمح بظهور قوى جديدة، يعدل موازين القوى باستمرار، يستبدل الوجوه القديمة بوجوه جديدة، يحرّر المرشح لأي منصب من أية تنازلات ضمنية، يجعل الموقع أو المنصب أو الشخص حراً طليقاً من أية صفقة أو إملاءات.

التوافق لعبة تمارس في الخفاء بين قوى وجهات تحرص على عدم حدوث أي تغيير في مواقعها أو تعديل في مساحات نفوذها قوى تريد واقعاً ثابتاً هادئاً مستقراً


 التوافق اختزال المصالح العامة لتكون على قياس مصالح القوى الخاصة، تحجيم لكل مؤسسات الدولة بجعلها تابعة لوصايات القوى وتدخلاتها ورهن إشارتها، فعلُ تعطيل لأيّ نقاش عام، منع تشكل رأي عام أو موقف عام حول أية قضية، بحكم أن الواقع السياسي والرسمي محكوم لمعادلة جاهزة وصلبة لا تقبل النقاش أو الاختراق. الجمهور و “العامة” يأخذان علماً وخبر فقط بما يحصل، هم متلقون سلبيون ومحيّدون وغير معنيون بما يحصل، يصبحوا رعايا مهمتهم الدعاء والتمني، بأن يسدد الله رعاتهم وسادتهم وأصحاب  الأمر للخير والقرار الحكيم.

التنافس فيجعل من الحياة السياسية حدثاً اجتماعياً يُشرك جميع مكوناته وأفراده في إنتاجه وإظهاره


أما التنافس فيجعل من الحياة السياسية حدثاً اجتماعياً يُشرك جميع مكوناته وأفراده في إنتاجه وإظهاره. هو عرس ديمقراطي يلقي على الفرد مهمة صناعة مصيره ومسؤولية اختيار من يمثله.  في التنافس يفرض  النقاش المعقلن نفسه، ويستعيد النقاش العام حيويته وفعاليته، ويتغلب التفكير العام والصالح العام على الأمزجة الخاصة والحسابات الجزئية.  في التنافس تتلاشى الوصايات وتذوب السلطات الخفية، وتنعدم الصفقات وتعمُّ الشفافية في ممارسة السلطة  بعد تحول الحياة السياسية إلى نظام سلطة ومعارضة خارج السلطة، لا نظام حصص وأوزان.

حين يفشل المجلس النيابي في لبنان في انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد عدد لا يحصى من الجلسات فإن هذا يعني أن المجلس يقيل نفسه من مهمته ومن مرجعيته


حين يفشل المجلس النيابي في لبنان، في انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد عدد لا يحصى من الجلسات، فإن هذا يعني أن المجلس يقيل نفسه من مهمته ومن مرجعيته، وأن النائب يتخلى عن مهمته التمثيلية، التي تفرض عليه الخصوع الشفاف للدستور، لا التلاعب عليه والارتهان لمهام خارج توكيله النيابي. أيّ يقرر المجلس النيابي إحالة صلاحيته ومهمته لقوى الامر الواقع خارجه. صحيح أن هذه القوى حاضرة عبر نواب لها في المجلس، لكن دخولها المجلس النيابي يفترض خضوعها لقواعده وضوابطه، والأصول العامة لإدارة الحياة السياسية في لبنان، ولا يعني أبداً أن حضورها يمنحها تقرير وإنشاء قواعد لعبة رديفة وبديلة، عن الغاية والمقصد اللذين تأسس عليهما المجلس النيابي. ما يعني أن الورقة البيضاء ليست ممارسة حق نيابي أو فعل ديمقراطي، بل تعطيل كامل للمجلس وإسقاط لجدواه وإثبات وصاية قوى الأمر الواقع على الدولة والمجتمع معاً.بات التوافق يعني ببساطة إخضاع المجلس النيابي لسلطة فوقه، وإماتة ممنهجة للديمقراطية، بالتالي نتوقع رئاسة ميليشات لا رئاسة جمهورية.

السابق
بالصور.. هكذا بدا الكسوف الجزئي في لبنان
التالي
بينها لبنان.. قرار كويتي مفاجئ بشأن القادمين من ثلاث دول!