«حزب الله»-إسرائيل..القصة الكاملة من «التحريم» إلى الترسيم!

ياسين شبلي
كانت حرب السادس من تشرين الأول - أكتوبر - عام 1973، التي مرت ذكراها ال 49 مؤخراً، هي الحرب الرابعة والأخيرة بين العرب كَدُوَل وإسرائيل، بعد حروب 48 و 56 و67.

هذه الحرب هي الأولى التي سَجَّل فيها العرب نصراً ميدانياً على إسرائيل، في الأيام الأولى للحرب، حيث عبرت القوات المصرية يومها قناة السويس، ودمرت خط بارليف الذي كان يعتبر من أقوى الخطوط الدفاعية في العالم، كذلك تقدمت القوات السورية في منطقة الجولان، قبل أن ينقلب سير الأمور والمعارك لصالح إسرائيل بعد الأخطاء الميدانية العسكرية، والخلافات التي حصلت بين القيادتين العسكرية والسياسية خاصة على الجبهة المصرية، وكذلك الجسر الجوي الذي أقامته الولايات المتحدة لمساندة العدو تحت شعار “أرسلوا كل شيء يطير إلى إسرائيل” الذي أطلقه الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، إستجابة لإستغاثة رئيسة وزراء إسرائيل يومها غولدامائير.

إنتهت الحرب بنصر عسكري عربي “نسبي”، إستعادت كل من مصر وسوريا بموجبه، بعض الأراضي التي كانت خسرتها في حرب 1967، وتم التوقيع على إتفاقيات فض الإشتباك في جنيف، بداية بين مصر وإسرائيل في 18 كانون الثاني عام 1974  ومن ثم بين سوريا وإسرائيل في 31 أيار من نفس العام، بناءً على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338 الصادر في 22 تشرين الأول 1973، والذي أصبح بعد ذلك مرجعية “شكلية” لعملية السلام، مع سابقه القرار 242 الصادر في 22 تشرين الثاني من العام 1967 في أعقاب ” النكسة “. كان توقيع إتفاقيات فض الإشتباك، نتيجة لجولات مكوكية قام بها للمنطقة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، أسفرت عن إنعقاد مؤتمر جنيف للسلام في 21 كانون الأول 1973، تحت إشراف الأمم المتحدة وحضور كل من الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي، بالإضافة لكل من مصر والأردن وإسرائيل، حيث غابت سوريا، وإن كانت قد أعلنت إمكانية مشاركتها في المستقبل، وكان هدف المؤتمر “تعزيز وقف إطلاق النار كخطوة أساسية نحو تنفيذ الحل السياسي على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338″، بحيث تحقق الشق الأول من هذه الأهداف، أي إتفاقيات فض الإشتباك، فيما فشلت المحاولات في السنوات اللاحقة لإحياء المؤتمر، وتنفيذ الشق السياسي منه، بسبب عدم جدية الولايات المتحدة وإسرائيل أولاً، في ظل الحرب الباردة التي كانت على أشدها بين أميركا والإتحاد السوفياتي، وثانياً بعد أن إختلف العرب على “جلد الدب” قبل إصطياده، ما سمح لهنري كيسنجر أن يلعب لعبته، ويأخذهم كلٌ على حدة، هو الذي لم ينسَ للعرب موقفهم من إستعمال النفط كسلاح في المعركة. 

ماذا يمكن أن يقال اليوم لأهالي شهداء جسر المطار الذين قتلوا يومها وهم يتظاهرون ضد إتفاقية أوسلو في أيلول 1993؟

فجأة ومع بداية عام 1975، أغتيل الملك فيصل في السعودية، وهو الذي كان يمثل الذراع الإقتصادية في حرب تشرين، ليختفي أحد أضلاع المثلث المصري – السوري – السعودي، بعدها إنفجرت حرب لبنان وغرقت المقاومة الفلسطينية في رمالها المتحركة، وبدلاً من الذهاب إلى جنيف، ذهب أنور السادات إلى القدس برعاية أميركية، معلناً بعدها صراحة بأن حرب 73 هي آخر الحروب بين مصر وإسرائيل، هذه الصراحة التي كان يفتقد إليها حافظ الأسد – وإن كان يعتقد بمقولة السادات لمعرفته بأن لا حرب بلا مصر – عندما ذهب هو الآخر إلى لبنان وبرعاية أميركية، كذلك بإتفاق الأسد – مورفي ، ليكون لبنان جائزة ترضية وبديلاً له حتى العام 2005 عن الجولان، الذي بات يخضع منذ ذلك الوقت لإتفاقية فض الإشتباك، التي حافَظَ عليها الأسد الأب برموش العين، ومن بعده وريثه بشار حتى اليوم، برغم كل ما إستجد من تطورات في كل من لبنان وسوريا على مدى ال 49 عاماً الماضية. نستذكر هذه الوقائع التاريخية اليوم، لما لها من أوجه شبه محتمل مع ما يحصل اليوم – مع بعض الإختلاف في التفاصيل طبعاً – بعد إتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، الذي ما كان ليتم لولا موافقة حزب الله، وراعيه الإقليمي والإيديولوجي إيران، التي قام ويقوم خطابها الديني والسياسي على “تحريم” التفاوض أو التطبيع أو أي علاقة مع إسرائيل، بإعتبارها “غدة سرطانية يجب إزالتها من الوجود”. 

لبنان كان جائزة ترضية للاسد الاب بعد الاتفاق مع مورفي وبديلاً له حتى العام 2005 عن الجولان

هذا الخطاب الذي تبناه وعمل به حزب الله الذي، كان سبب وجوده أصلاً قبل 40 عاماً – وهو الذي إحتفل بالذكرى في الأشهر الماضية – هو معارضة إيران وأنصارها من الشخصيات، وكذلك بعض الكوادر التي كان جزء كبير منها ينتمي يومها لحركة أمل، التي كانت الممثل السياسي و ” العسكري ” الأقوى للشيعة في لبنان، معارضتها إشتراك نبيه بري في “هيئة الإنقاذ الوطني” التي شكلها الرئيس اللبناني إلياس سركيس، لمواجهة تداعيات الغزو الإسرائيلي للبنان، وذلك لوجود بشير الجميل في عدادها، بإعتباره “خائن وعميل لإسرائيل” ، ما أدى لأول إنشقاق في حركة أمل قام به حسين الموسوي معلناً تأسيس حركة “أمل الإسلامية” إنطلاقاً من البقاع اللبناني, نازعاً بذلك الغطاء الديني عن الحركة الأم، لتكون نواة ما بات يعرف بعدها بحزب الله, خاصة مع بداية تدفق قوات الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع بدعم سور، حيث بدأت التدريبات, ومن ثم العمل الميداني الذي بدأ تحت عدة عناوين ومنظمات في البداية, وبنشاطات تراوحت ما بين خطف الرهائن، وعمليات الإغتيال لبعض الشخصيات القومية واليسارية, على خلفية التطورات الداخلية في إيران،  والتفجيرات الإنتحارية ضد المصالح الأميركية والفرنسية, ضمن قوات المتعددة الجنسية التي كانت في لبنان بعد الغزو، والعراقية على خلفية الحرب العراقية – الإيرانية، ولكن كلها كانت تحت شعارات إسلامية جهادية واحدة ضد “الشيطان الأكبر” أميركا ووكيله في المنطقة العدو الصهيوني، في وقت كان قد أُعلن فيه عن تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “جمول” ضد الإحتلال الصهيوني للبنان من مجموعات يسارية وقومية, عمادها الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي، ومنظمة العمل الشيوعي بقيادة محسن إبراهيم، دون إغفال مقاومة حركة أمل بالطبع. في هذه الأجواء التي كان يغلب عليها طابع “المقاومة العسكرية” للإحتلال الإسرائيلي، كانت بدايات الحزب الذي قامت أيديولوجيته العقائدية على ولاية الفقيه، والسياسية على أساس مقاومة الإحتلال.

إقرأ ايضاً: باسيل ينتقد عَجز «حزب الله» أمام «صعاليك الفساد »..والحكومة «لا مُعلّقة ولا مُطلّقة»!

في العام 1985 جاء في بيان صادر عن الحزب في 16 شباط كان بمثابة بيان تأسيسي، أن الحزب “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في آية الله الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”، وحدَّد البيان أهداف الحزب ب “طرد الأميركيين والفرنسيين وحلفائهم بالتأكيد من لبنان، ووضع حد لأي كيان إستعماري على أرضنا، وتقديم الكتائب إلى السلطة العادلة لمحاكمتهم على الجرائم التي إرتكبوها ضد المسلمين والمسيحيين”. 

تحت هذه الشعارات والأهداف وبدعم إيراني قوي، وغض نظر سوري أقوى نتيجة الصراع السوري – الفلسطيني ، واصل حزب الله مسيرته على خطين متوازيين، الأول عمليات المقاومة ضد الإحتلال، والثاني عملية ترسيخ نفوذه في الداخل اللبناني، عبر الضخ الإعلامي  الإيديولوجي والديني، وكذلك الخدماتي أولاً، خاصة وأنه تهيأ له يومها شخصية دينية وازنة ومعتبرة، كشخصية السيد محمد حسين فضل الله، وثانياً عبر تصفية خصومه العقائديين بدءاً بالتيار القومي العربي واليساريين وصولاً بعدها إلى حركة أمل التي خاض معها حرباً شرسة، في كل من الجنوب وبيروت، كانت الغلبة فيها له عبر الإتفاق الإيراني – السوري، الذي كرسه أحد طرفي الثنائي الشيعي حتى اليوم – في الوقت الذي كانت فيه إيران تعقد صفقة سرية مع أميركا وإسرائيل لتزويدها بالسلاح، مقابل إطلاق سراح رهائن فيما سمي بعدها ب “إيران غيت” – ليصبح بعد إتفاق الطائف هو “الوكيل الحصري” للمقاومة ضد إسرائيل، من ضمن الوكالة العامة التي أعطيت للنظام السوري بالوصاية على لبنان. طوال عقد التسعينات وحزب الله لم يعطِ  الثقة لحكومات الشهيد رفيق الحريري، الذي كان يُنظر له من أنصار محور الممانعة على أنه “مشروع أميركي – سعودي – صهيوني”، إنما جاء إلى الحكم بهدف التطبيع مع إسرائيل، وإقامة السلام معها وتوطين الفلسطينيين في لبنان، في أراضٍ ومناطق “إشتراها” لهذه الغاية، وأنه يراهن على السلام حد أن أُتهم، بأنه وعبر أوتوستراد الجنوب، إنما يحاول التواصل مع إسرائيل مستقبلاً، وذلك بالرغم من الرعاية السورية لمشروعه الإقتصادي في البداية، وقبل تقلب الأحوال الإقليمية وفشل مؤتمر مدريد للسلام، بحيث جنح الفلسطينيون للسلام عبر إتفاق أوسلو، كذلك فعل الأردن عبر إتفاقية وادي عربة، فكانت بداية الإنقلاب على الحريري، وحورب الرجل بحيث لم يبقَ  أحد “ما بل إيدو فيي” حسب تعبير له رحمه الله.

طوال عقد التسعينات وحزب الله لم يعطِ  الثقة لحكومات الشهيد رفيق الحريري الذي كان يُنظر له من أنصار محور الممانعة على أنه “مشروع أميركي – سعودي – صهيوني”

وكانت الذروة بوصول إميل لحود إلى سدة الرئاسة، لتأخذ العملية أبعاد الحرب المعلنة والمفتوحة، بين مشروعين في لبنان، ما لبثت أن توسعت بعد الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، الذي سُجِّل كإنتصار لحزب الله وإيران بطبيعة الحال، بالتزامن مع موت حافظ الأسد وتولي وريثه بشار السلطة.

وتَعقُد المشهد الإقليمي والدولي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وغزو كل من أفغانستان والعراق، بما كانت تمثل من إنتصارات لإيران على حساب المكون العربي في المنطقة، ما سمح لها بتصدر المشهد في لبنان بعد إغتيال رفيق الحريري وإنسحاب الجيش السوري، لتنتقل الوصاية السورية المباشرة على لبنان، إلى وصاية غير مباشرة لإيران التي تعززت بحرب 2006، التي صمد فيها حزب الله وإنتصر “نسبياً” إنتصار شبيه بإنتصار العرب عام 1973، في ما يبدو بعد التطورات الأخيرة، أنها ستكون “آخر الحروب مع إسرائيل”، وليأخذ حزب الله بالمباشر هذه المرة وبتوافق أميركي – إيراني دور النظام السوري في إحترام إتفاقية “فض الإشتباك البحري” التي بلا شك ستنسحب على الحدود البرية لاحقاً، لتنتهي بذلك المقاومة ولو بشكل غير معلن، هي التي كانت “تمثل رداً على عمليات المشروع السلمي للتطبيع مع العدو الإسرائيلي الذي تبناه بعض المثقفين العرب” كما كان يردد دائماً السيد حسن نصرالله، مقابل دور كبير له – ولإيران بطبيعة الحال – قد يصل حد تكريس الوصاية على لبنان كما حصل سابقاً مع النظام السوري – مع بعض الضوابط الشكلية -.

بعد إغتيال رفيق الحريري وإنسحاب الجيش السوري إنتقلت الوصاية السورية المباشرة على لبنان إلى وصاية غير مباشرة لإيران التي تعززت بحرب 2006

وهي وصاية بدأت فعلياً منذ العام 2008، خاصة وأن أصداء الترسيم، الذي هو نتيجة منطقية لتوافق ولو مبدئي بين أميركا وإيران، بدأت تظهر في بغداد حيث تم إنتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتعيين رئيس جديد للوزراء من حصة إيران، وذلك بعد حوالي العام من التعثر، وهو ما قد ينسحب على إنتخابات الرئاسة في لبنان مستقبلاً، وذلك على عادة النظام الإيراني في دفع مستحقاته من “كيس غيره”، خاصة في ظل الضغوط الداخلية عليه، التي قد تدخل أيضاً في “البازار” السياسي مع أميركا والغرب، بحيث يُسمح له بقمع الإنتفاضة دون ضجيج، كما حصل مع ثورات “الربيع العربي”، مقابل تسهيلات أخرى تحصل عليها أميركا في المنطقة، خاصة في ظل التوتر الأميركي – السعودي على خلفية خفض إنتاج النفط وغيره من القضايا. 

هذه التطورات جاءت لتؤكد حقيقة تقول بأن وحدهم المتطرفين أصحاب الأصوات العالية، خاصة المتدينين منهم ، هم من يستطيعون عقد الصفقات الكبرى في منطقة كمنطقة الشرق الأوسط، يلعب الدين فيها العامل الأكبر في صياغة حاضرها ومستقبلها، وهو ما حصل هذه المرة أيضاً، بعد أن كانت المرة الأولى مع اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة مناحيم بيغن الذي وحده، كان القادر على عقد إتفاقية السلام مع مصر، وتفكيك المستوطنات اليهودية في سيناء دون عواقب تذكر له، في حين دفع إسحاق رابين حياته ثمناً لإتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية. فهل هناك من يتخيل لو أن الشهيد رفيق الحريري الذي يمكن القول أنه أغتيل على “الشبهة”، أو غيره من المعتدلين في لبنان من مسلمين ومسيحيين هو من قام بخطوة الترسيم هذه؟

ماذا كانت ستكون ردة فعل أطراف الممانعة بقيادة حزب الله الذين قامت كل ممارساتهم منذ العام 2005 حتى اليوم،  على أن الفريق الآخر يسعى لبيع البلد لأميركا والتطبيع مع إسرائيل، وغيرها من الإتهامات وأحقرها كانت تهمة “شيعة السفارة” لأحرار الشيعة العرب.

 ونستذكر بهذه المناسبة الشهيد المظلوم لقمان سليم، الذي هُدِّد علناً وهوجمت خيمته بوسط بيروت بدعوى التطبيع مع العدو، وها هم اليوم يعلنون الإنتصار – كالعادة – بعد أن تنازلوا عن الخط 29 بذريعة “أكل العنب”، وهم الذين كانوا يهددون دوماً بقتل الناطور وما بعد بعد الناطور. 

المتطرفون أصحاب الأصوات العالية خاصة المتدينين منهم هم من يستطيعون عقد الصفقات الكبرى في منطقة كمنطقة الشرق الأوسط

غني عن القول بأننا لا نقول هذا الكلام من باب المزايدة أو النكد السياسي، بل نقوله للحقيقة والتاريخ، ونقوله رفضاً لمنطق المزايدة الذي لطالما مارسه هذا المحور، في هذا المجال نسأل ماذا يمكن أن يقال اليوم لأهالي شهداء جسر المطار، الذين قتلوا يومها وهم يتظاهرون ضد إتفاقية أوسلو في أيلول 1993، مع أن أوسلو أعطت للفلسطينيين – نسبة لظروفهم  – أكثر بكثير مما يعطي الترسيم اليوم للبنان، بحيث أعطاهم يومها موطئ قدم لهم في أرضهم لأول مرة.

ونقوله لنؤكد بأن الهدف من الممارسات التي أوصلت البلد للإنهيار منذ ما قبل ال 2005 وحتى اليوم، من تعطيل للمؤسسات وتفريغها، وضرب كل مقومات الدولة لم يكن حماية  المقاومة كعقيدة أو مبدأ، بل حمايتها على أنها وسيلة ل “أكل العنب” لا أكثر، وهذا ما حصل، على أمل أن لا يكون هذا  العنب “حصرما” يأكلونه هم ليضرس الوطن والشعب.           

السابق
باسيل ينتقد عَجز «حزب الله» أمام «صعاليك الفساد »..والحكومة «لا مُعلّقة ولا مُطلّقة»!
التالي
منخفض جوي قبرصي محدود الفعالية..وأمطار متفرقة الإثنين والثلاثاء!