الطريق إلى رئاسة الجمهورية (1) بشارة الخوري.. تزاوج «الطربوش» العربي و«البرنيطة» الإنكليزية!

أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

دخل لبنان في المهلة الدستورية لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية، هذا الإستحقاق الذي كان يُعتبر تاريخه في الماضي من المقدسات، بالرغم من الأحداث الساخنة التي كانت ترافقه منذ الإستقلال حتى اليوم . في عام 1988 وفي نهاية ولاية الرئيس أمين الجميل، أُنتهكت هذه ” القداسة ” بالعجز عن إنتخاب رئيس جديد يومها، ما حتَّم اللجوء – وهذا قبل الطائف طبعاً – إلى تسليم السلطة يومها إلى حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش ميشال عون، على غرار ما فعل الرئيس الأول للجمهورية بشارة الخوري – مع إختلاف الظروف – حينما سلم السلطة لقائد الجيش عام 1952 الأمير اللواء فؤاد شهاب، للإشراف على إجراء إنتخابات رئاسية، فكان أن صان الأمير اللواء الأمانة وأدى المهمة على أكمل وجه، وهو ما لم يفعله العماد ميشال عون عام 1988 حينما حاول تجيير المنصب لصالحه، ومن يومها بات إنتخاب الرئيس أشبه بالمعجزة ولم يعد هناك من إحترام للمهل، فكان ما كان من حروب وتطورات كان من أهم تداعياتها بأن التمديد للرئيس بات هو القاعدة وإحترام الدستور هو الأستثناء ، الأمر الذي أدى – من بين عدة أمور – إلى ما وصل إليه لبنان اليوم.

لا يختلف إثنان على أن إنتخاب رئيس للبنان، لم يكن ومنذ الإستقلال حتى اليوم إلا صدى للتطورات والتوازنات السياسية في المنطقة

لا يختلف إثنان على أن إنتخاب رئيس للبنان، لم يكن ومنذ الإستقلال حتى اليوم إلا صدى للتطورات والتوازنات السياسية في المنطقة، وذلك ربطاً بالنظام الطائفي اللبناني وعلاقات كل طائفة بإمتدادها الديني أو القومي في الخارج، وهو ما يفضح صيغة “التكاذب” الوطني، التي يتغنى فيها البعض في لبنان تحت عنوان الشراكة الوطنية، وما هي في الحقيقة سوى شراكة إقليمية – دولية، لم يكن لبنان فيها سوى ساحة ، أو صالة “قمار” يلعب على أرضها اللاعبون ومن يخسر ينسحب ليحل محله ” زبون ” آخر، ويستمر اللعب مقابل بعض الفتات الذي يُرمى لمديري “الصالة” اللبنانيين من زعماء وسياسيين وغيرهم من أطراف ما بات يسمى ب “المنظومة” الحاكمة.

ما قبل الحرب الأهلية لا يمكن مقارنته بما بعدها، من ناحية نوعية و “قماشة” الزعامات السياسية والحياة السياسية ككل وفي كل الطوائف

قد يكون هذا الكلام قاسياً بعض الشيء، ومع ذلك وللإنصاف نقول، بأن ما قبل الحرب الأهلية لا يمكن مقارنته بما بعدها، من ناحية نوعية و “قماشة” الزعامات السياسية والحياة السياسية ككل وفي كل الطوائف، إذ في فترة ما قبل الحرب كانت الزعامات تتشكل من نخب ذات خلفيات سياسية وإجتماعية، لديها قدر من الثقافة والقِيَم والخبرة، لذلك وبالرغم من مثالب النظام الطائفي، والمتغيرات السريعة في المنطقة وتقلباتها منذ الإستقلال وحتى عشية حرب 1967، إستطاعت هذه النخب على علاتها بناء دولة كان يشار إليها على أنها “سويسرا الشرق”، خاصة في عهدي كميل شمعون وفؤاد شهاب ما بين عامي 1952 و 1964، أما الحرب الأهلية فقد أفرزت زعامات ما هي في الحقيقة سوى “أمراء حرب” وزواريب، خلعوا البزة العسكرية ليلبسوا البدلة وربطة العنق، ليدخلوا جنة السلطة فأقروا قانون العفو عن أنفسهم، لكنهم لم يخلعوا روح الميليشيات وفكرها وممارساتها، وهو ما ندفع ثمنه اليوم، حيث تحولت الدولة إلى دولة يديرها عدة رجال، ولم يعد لدينا رجال دولة حقيقيين يلتزمون الدستور ويحترمون القوانين ويسهرون على تطبيقها.

الحرب الأهلية فقد أفرزت زعامات ما هي في الحقيقة سوى “أمراء حرب” وزواريب، خلعوا البزة العسكرية ليلبسوا البدلة وربطة العنق

اليوم ونحن على موعد مع إنتخاب الرئيس الرابع عشر للجمهورية، وعلى بعد شهر ونصف من إنتهاء عهد الرئيس ميشال عون، لا يبدو في الأفق أي بصيص أمل بإنجاز الإستحقاق في موعده على جري عادتنا منذ العام 1988، وهو ما يضع لبنان في ظروفه الحالية على طريق المجهول، وهو ما يؤكد إنطباعنا عن هذه الطبقة السياسية، التي تحولت بأذرعها كافة بعد الحرب الأهلية، إلى منظومة متكاملة على طريقة “العصابة” التي تتحكم برقاب الناس عبر الترغيب والترهيب، في ظل غياب حياة سياسية سليمة تسمح للناس بالتعبير الحقيقي عن نفسها ، وفي ظل “سيستم” يتحكم بحركة الإنتخابات بطريقة ذكية تمنع إختراقه، إلا بما يسمح بإظهاره أنه نظام ديمقراطي تعددي”.

نواب قوى التغيير ال 13، الذين هم كمن يحارب طواحين الهواء، أو يحرث البحر أو يضرب رأسه في الجدار

وأكبر مثال ما يحصل مع نواب قوى التغيير ال 13، الذين هم كمن يحارب طواحين الهواء، أو يحرث البحر أو يضرب رأسه في الجدار، والذين لم يجدوا بداً من التجوال والتواصل مع أفراد “العصابة” في محاولة يائسة – في رأيي المتواضع – لفتح كوة في جدار الأزمة الناشئة عن تضارب مصالح هؤلاء الأفراد، وخلافاتهم على حصة كل منهم في الحكم والسلطة والإدارة، خاصة ونحن على أعتاب إتفاق ترسيم بحري مع العدو الصهيوني، قد يدر – إذا ما تم – المليارات من الدولارات، وهذا كله يدخل في حسابات الربح والخسارة لكل طرف، وهذا العامل يلعب بالإضافة إلى التطورات الإقليمية، دوراً كبيراً في إمكانية التوافق على شخصية الرئيس المقبل ودوره.

قصر بعبدا
قصر بعبدا

بالإنتظار.. دعونا نلقي نظرة على رؤساء لبنان منذ الإستقلال، على شخصية كل منهم والظروف التي رافقت إنتخابه، وطريقة ممارسته السلطة وكيفية خروجه منها، في محاولة لفهم مسار الأحداث والتطورات في لبنان من الإستقلال حتى الإنهيار، والبداية بطبيعة الحال مع الرئيس الشيخ بشارة الخوري .
ولد الرئيس بشارة الخوري لعائلة مارونية معروفة مارست السياسة، درس القانون ومارس مهنة المحاماة في كل من بيروت والقاهرة، وقد أُنتخب نقيباً لمحامي لبنان عام 1930، كما كان عين من قبل رئيساً لمحكمة الإستئناف الحقوقية، ليكون حاز بذلك على الموقع الأول بين المحامين والقضاة والساسة قبل وبعد ذلك.

بدأت حياته السياسية بتعيينه وزيراً للداخلية عام 1926 أيام الإنتداب الفرنسي وهو العضو في مجلس الشيوخ اللبناني، وبعدها عضواً في البرلمان طيلة الفترة الممتدة من عام 1929 ولغاية العام 1937، تولى خلالها رئاسة الحكومة اللبنانية ثلاث مرات، في عام 1932 أسس الكتلة الدستورية، وهي الكتلة المعارضة لحزب الكتلة الوطنية برئاسة إميل إده المقرب من الفرنسيين، والذي كان قد تولى الرئاسة في عهد الإنتداب، وهو ما كان يؤشر إلى صراع بريطاني – فرنسي، في ظل إختلال موازين القوى بين بريطانيا وفرنسا الحرة، لصالح الأولى أثناء الحرب العالمية الثانية ، فضلاً عن قوة الوجود والنفوذ البريطاني في المحيط العربي، ما أثمر بعدها ما يمكن أن يسمى تزاوج الطربوش العربي عبر الرئيس رياض الصلح مع البرنيطة الإنكليزية عبر الرئيس بشارة الخوري، ونتج عن هذا التزاوج الميثاق الوطني اللبناني الذي كان الأساس الذي قامت عليه فكرة الإستقلال اللبناني عن فرنسا.

ويحسب هنا للرجلان حسن إلتقاطهما اللحظة التاريخية، في ظل ظروف الصراع البريطاني – الفرنسي والدعم العربي، ممثلاً بمصر وسوريا التي وقف بعدها رئيس وزرائها فارس الخوري موقفاً صلباً في الأمم المتحدة عام 1946 مطالباً بجلاء القوات الفرنسية عن البلدين وهكذا كان.

أنتخب الرئيس بشارة الخوري رئيساً في 21 سبتمبر 1943 – وهو بالمناسبة كان التاريخ الثابت لتسلم الرئيس الجديد للجمهورية مهامه حتى العام 1982، بالرغم من الغزو الصهيوني للبنان والإنتخابات التي جرت إبان هذا الغزو – وشرع مع شريكه رياض الصلح الذي عين رئيساً للحكومة، بتنقية الدستور من المواد والنصوص التي تتعارض مع إستقلال لبنان، فغضب الفرنسيون وإعتقلوه مع رئيس وزرائه ومجموعة من الوزراء يوم 11 تشرين الثاني وأودعوه قلعة راشيا، وعينوا إميل إده بدلاً منه ما أدى إلى ثورة لدى اللبنانيين، ما ولَّد ضغوطات عربية وعالمية، تدخلت على إثرها بريطانيا فتم إطلاق سراحهم ليعلن بعدها إستقلال لبنان.

أرسى الشيخ بشارة معادلة بأن السنوات الثلاث الأولى من كل عهد هي لتثبيت أركانه، تمهيداً للعمل في السنوات الثلاث الأخيرة لتمديد الولاية أو تجديدها

مرت السنوات الثلاث الأولى من العهد، وأرسى الشيخ بشارة للأسف بعدها، معادلة بأن السنوات الثلاث الأولى من كل عهد هي لتثبيت أركانه، تمهيداً للعمل في السنوات الثلاث الأخيرة لتمديد الولاية أو تجديدها، وهكذا كانت إنتخابات عام 1947 هي البداية حيث شابها التدخل والتزوير تمهيداً للتجديد، وكان مايسترو هذه التحركات والسياسات شقيق الرئيس الذي بات يُعرف ب “السلطان سليم” نظراً لسطوته وسلطته المطلقة، وكما يقال بأن السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة، هكذا ساد الفساد السياسي والمالي، وأنتخب الشقيق نائباً في البرلمان الذي عدَّل الدستور عام 1948 بصورة “إستثنائية”، كي يتيح للرئيس تجديد الولاية، ترافق ذلك مع نكبة فلسطين إقليمياً، والصراع بين السلطة والحزب السوري القومي الإجتماعي في الداخل.

بالنسبة لقضية فلسطين لم يخرج لبنان برئاسة بشارة الخوري عن الإجماع العربي، بل إلتزم هذا الإجماع دون إفراط أو تفريط وهذه نقطة تحسب له، أما في الداخل فكانت معالجة قضية هروب أنطون سعادة إلى سوريا، ومن ثم إستعادته وإعدامه بعد محاكمة صورية سريعة، كان لها أبلغ الأثر على الأوضاع وعلى صورة الحكم، ولعل أخطر هذه الآثار كان إغتيال رئيس الوزراء ورفيق درب الشيخ بشارة وشريكه في الميثاق الوطني رياض الصلح، كل هذه الأحداث إضافة للتحركات الإقليمية وبدء ظهور أميركا على الساحة الدولية والإقليمية كشريك مضارب لبريطانيا في المنطقة، أدى إلى الصدام مع المعارضة بقيادة كمال جنبلاط، الذي كان له كلمته الشهيرة “أتى به الأجنبي فليذهب به الشعب” وهكذا كان، فقدم الرئيس بشارة الخوري إستقالته في 18 أيلول من العام 1952، أي في نصف المدة من الولاية الثانية، وسلَّم السلطة لقائد الجيش يومها الأمير اللواء فؤاد شهاب تمهيدا لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية، الأمر الذي تم خلال أيام وضمن المهلة الدستورية المحددة.

بعد خروجه من الحكم إعتزل الرئيس بشارة الخوري المناصب السياسية، بالرغم من أن كتلته الدستورية قد تحولت لحزب سياسي عام 1952 بعد أن ترك الرئاسة، وكرس وقته لكتابة مذكراته التي أسماها “حقائق لبنانية” ، حتى توفي في بيروت عام 1964 عن عمر ناهز 73 عاماً.

السابق
عتب أوروبي على مسؤولي لبنان.. ورسالة فرنسية
التالي
مع تراجع الدولار.. هبوط كبير بأسعار المحروقات!