شعبٌ من «العراة» في الجحيم اللبناني

لوحة

أتيحت لي خلال وجودي في باريس الأسبوع المنصرم فرصة مشاهدة معرض لوحات كلاسيكية تعود إلى عصر النهضة الأوروبي من أعمال لرسامين برتغاليين. المعرض الذي يضمه أحد أجنحة متحف اللوفر ويستمر بين 10 تموز و20 تشرين الأولً 2022 أثّر فيّ من حيث لم أتوقّع والسبب في الحقيقة إحدى لوحاته التي حرّكت عندي موجةَ تأمّلٍ في الوضع اللبناني الحالي والمستمر ومدى العذابات الجماعية والفردية للبنانين.

اقرأ أيضاً: بعدسة «جنوبية»:: 38 مصوراً عالمياً في «مهرجان بيروت للصورة» يستحضرون لوحاتهم الناطقة

هذه اللوحة يعود تاريخ رسمها المرجَّح بين عامي 1510 و1520 والمكتشفة في أحد أديرة الرهبان في البرتغال والمجهولة الرسّام…
نحن هنا أمام تصوير للجحيم الإلهي شديد القسوة قد لا يختلف عن الصورة التقليدية لفكرة جهنم التي كل ما فيها نيران ملتهبة. فالرسام لا يخرج عن الإطار العام الذي رسمته لفكرة الجحيم كمكان لعذاب وتعذيب النفوس الخاطئة. كل هذا لن يمنع من أن تكون اللوحة ذات جاذبية خاصة بل “ساحرة” توفّرتْ لها من التفاصيل العديدة التي ابتكرها وجمعها الرسام باتقان وتلوين وابتكار إلى بعضها البعض في إطار واحد. اللوحة، كما قلت، قاسية ولكنّ فيها نوعا خاصا من القسوة كما نلحظ من القدْر (الوعاء الكبير) في صدر اللوحة الذي تُشوى فيه خمسة كائنات بشرية على نار ملتهبة نساءً ورجالاً بينما نرى في الزاوية اليسرى ثلاث نساء أو امرأتين ورجل معلّقين من أرجلهم بطريقة عقابية. لكلٍّ عقابُه حسب ذنبه أو ذنوبه ولذلك نشاهد في اختلاف هذه الأوضاع العقابية نساءً ورجالا- الجميع عراة- متمدِّدين بين حراس الجحيم فيما يلاحظ مقدمو المعرض وجود وجوه غير أوروبية و أدوات إفريقية وقرون هندية وهذه ملاحظة في مكانها لأنه لم يكن قد مضى زمن طويل على اكتشاف القارة الأميركية فيما إفريقيا الجنوبية والغربية ليس بعيدة عن البرتغال إذا صح التاريخ المنسوب لرسم هذه اللوحة وهو للتكرار، بين1510 و1520.
دعنا من تفاصيل اللوحة الرائعة، وهذا مديح بالرسّام وليس بالجحيم!

كم بدت لي إذن اللوحة محرِّضة على التفكير بالجحيم اللبناني الذي نعيش. لو توفّر لفنان لبناني أن يرسم جحيمنا بحرّاسه الغلاظ والكريهين كيف كان سيطرح ( يرسم) المسألة الأعمق وهي من هم المذنبون والشياطين وإلى أي حد على اللبنانيين أن يحملوا يتحمّلوا مسؤولية ديمومة هؤلاء الحراس والأهم عدم مقدرتهم على إقصائهم و تسوير الشياطين بالمقابل نظام المعاقبة في عقاب يومي يفرضه هؤلاء.

في المأساة اللبنانية الحالية بُعدٌ كوميدي طبعا. فنحن (اللوحة اللبنانية) امام انقلاب معاصر لفكرة الجريمة والعقاب بل الخطيئة والعقاب. شعب هو اللبنانيون، يدفع ثمن إما عجزه عن تغيير شياطينه وإما مشاركته في المسؤولية الذاتية التي يحمل و يتحمّل عقوبتها منذ سنوات. لا أستطيع أن أقول أن اللوحة المشتهاة لزمننا هي مزيج من صلب البريئ و تعذيب المذنب. بالمعنى السياسي الحديث لا يمكن أن يكون الشعب مذنباً لكي يوضع في أوعية تسخين يومي للأعصاب والوجوه والأقفية عاريا من أي حصانة اقتصادية واجتماعية وحتى وطنية في ظل وجود بعض حراس النظام حملة أيديولوجيات “وطنية” لا يُشقّ لها لِسان.

اللوحة البرتغالية التي أمامنا هي لوحة دقيقة تنم رسومات الأجساد فيها عن معرفة بيولوجية تميّز بها رساّمو عصر النهضة الأوروبي. مقدمو المعرض يعتبرون الرسم البرتغالي متأثرا بالرسم الإيطالي والرسم الهولندي. وهي لوحة دقيقة بمعنى أنها تدفع، عدا الإعجاب الفني الكلاسيكي، إلى التفكير بالجحيم الإنساني في معناه الأكثر رعبا وتنوعا.
ماذا عن منطقتنا وقدأصبحت تجمعاً جحيميا في سوريا و العراق واليمن وليبيا بل ماذا عن كل جحيم انهياري أمني وسياسي واقتصادي، وماذا عن جحيم شرق المتوسط الذي صارت أسماكه أسماكا وحشية لكثرة ما التهمت من أجساد أهله الهاربين بزوارق الموت. هنا جحيم النار والفاقة والذل وهناك جحيم الماء والعطش والانتحار.

السابق
بالفيديو: الشيخ حسين زين الدين يضرب من جديد..«قلب الامام المهدي لا يرضى الا اذا نظر في وجه خامنئي»!
التالي
خاص «جنوبية»: «زعران السرايا» يُروعون صيدا..واهالي المدينة وفاعلياتها والامن العام ينتفضون ضد «حزب الله»!