ما بعد الحائري: هل تتمكن إيران من إزاحة الغطاء الفقهي عن مقتدى الصدر وتياره؟

حائري

يحتدم الصراع السياسي الشيعي في العراق، بين “التيار الصدري” وقوى “الإطار التنسيقي”، إلى درجة الاستعانة بالمرجعيات الروحية ومحاولة استمالتها لتأييد طرف على حساب طرف آخر. وقد ترجم ذلك بمسعى رعاه الجانب الإيراني المتحالف مع “الإطار التنسيقي”، لتكبيل مقتدى الصدر وردعه عن مشروعه السياسي المناوئ لخصومه الشيعة، من خلال دفع المرجع كاظم الحائري، إلى إعلان اعتزال مهامه، ودعوته مُقلِّديه وعموم المؤمنين إلى اتّباع سلطة المرشد الأعلى، علي خامنئي. 

تستكشف هذه الورقة خلفيات اعتزال الحائري، ودوافعه، ومستقبل علاقة مقتدى الصدر وتياره بالمرجعيات الدينية، في ظل فقدان الحاضنة الفقهية لحراكه الديني والسياسي. 

الحائري والحركة الصدرية 

جاء ارتباط القاعدة الصدرية وقائدها مقتدى الصدر، بمرجعية كاظم الحائري، بناءً على توصية الأب الروحي للتيار وقتذاك، المرجع الشيعي الراحل محمد صادق الصدر (والد مقتدى)، خشية تشظي قاعدته الشعبية في حال اغتياله على يد الأجهزة الأمنية التابعة لنظام صدام حسين، وهو ما حدث في فبراير 1999. ويأتي ترشيح الصدر الأب للحائري لاعتبارات عدة، منها: أنَّ الحائري هو آخر من تبقى من ورثة الخط الفقهي لآية الله محمد باقر الصدر (قريب وأستاذ والد مقتدى، اغتيل عام 1980)، وهو خط يقترب كثيراً من خط آية الله الخميني، ومشروع ولاية الفقيه المتجاوزة للأمور الشرعية إلى قيادة الدولة، وقد كان زميل دراسة لمحمد الصدر. كذلك، فإنّ الحائري، خلافاً لآخرين ممن درسوا على يد محمد باقر الصدر وغادروا العراق، لم يتسلم أيّ منصب في جمهورية إيران الإسلامية، لكنه واصل عمله السياسي لعدة سنوات من خلال منصب فقيه حزب الدعوة الاسلامية، بينما تولّى أحد زملائه البارزين، آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي، رئاسة القضاء الإيراني، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، قبيل وفاته في ديسمبر 2018. وكلا المرجعين (الحائري والشاهرودي) غادرا العراق مُضطرين، بعد تسفيرهما من قبل أجهزة دولة البعث، إبّان صعود صدام حسين إلى سدَّة الحكم عام 1979، بوصفهما “تبعية” (مصطلح أطلقه البعث على كل عراقي من أصول إيرانية في البلاد)، وعليهما مغادرة البلاد فوراً. 

اقرأ أيضاً: بدعوته للإبقاء على صالح والكاظمي..الصدر يخلط الأوراق مجدداً في العراق!

وقد رشّح المرجع الراحل محمد الصدر، مرجعين آخرين بديلين بعد الخيار الأول المتمثل بكاظم الحائري، وهما الشيخ إسحاق الفياض، أحد مراجع الشيعة في النجف، وتلميذه الصاعد حينها آية الله محمد اليعقوبي. وعلى الرغم من القرابة الاجتماعية والجغرافية بين زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، وآية الله محمد اليعقوبي، إلا أن الصدر ذهب باتجاه الحائري، وذلك بعد فشل المفاوضات التي جرت بينه وبين اليعقوبي، إذ كان يسعى إلى منح الأخير الزعامة الفقهية للتيار، مقابل الزعامة السياسية لمقتدى. كما أن عدم رجوع الصدريين إلى الشيخ الفياض، له صلة بكونه مرجعاً لا يؤمن بولاية الفقيه، ومنهجية الخط الثوري، وقد وضعه الصدر الأب، آخر الاختيارات بعد خياريه الأولين.

وقد منح الحائري، الزعيم السياسي الشاب، وكالة شرعية معنية باستلام الحقوق المالية (أموال الخُمس) في الداخل الشيعي العراقي، إلا أن الوفاق بينهما لم يدم، وانتهى عام 2004 بسبب عدم انصياع الصدر لتوجيهات الحائري، وإدارته المنفردة لمليشيا “جيش المهدي” التي خاضت قتالاً عنيفاً ضد القوات الأميركية والحكومية في مناطق وسط البلاد وجنوبها. ونجح زعيم “التيار الصدري” في إبعاد القاعدة الشعبية للتيار عن الخلافات التي شابت علاقتهُ بالحائري، مبقياً الأخير مرجعاً في الأمور الفقهية المستحدثة لعامة الصدريين، إلا أنهُ وضع حلقة إدارية تنظم الصلة بين الأتباع ومفتي الأمور الشرعية المستحدثة، وهذه الحلقة تمثلت في إحياء مكتب والده “مكتب السيد الشهيد الصدر”، إذ يتلقى الصدريون جديدهم الفقهي من الحائري عن طريق هذا المكتب، وهي عملية تستهدف فلترة دور مكتب المرجع الديني المقيم في إيران، خصوصاً بعد رفض الحائري العودة الى العراق. 

ويتنامى غضب مقتدى الصدر، كلما تبّنى المرجع الحائري مجموعةً منشقة عن “التيار الصدري”، وفي الآونة الأخيرة بات مرجعاً للعديد ممّا يسمى بـ”فصائل المقاومة في العراق”، وبشكلٍ خاصٍّ “عصائب أهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي، و”حركة النجباء” بزعامة أكرم الكعبي، و”كتائب الإمام علي” بزعامة شبل الزيدي. وتتعامل تلك الفصائل مع المرجع الحائري، بوصفه يُقدَّم الغطاء الفقهي لتحركاتها العسكرية والسياسية في العراق، بينما تستند علاقتها بمكتب المرشد الإيراني، إلى تحالف سياسي وتبادل منفعة بين الطرفين، ويأتي ذلك بعلم الحائري الذي يعد من أبرز المراجع الداعمين لنظام ولاية الفقيه في إيران. ولا يسري الأمر على فصيلي “كتائب حزب الله”، و”كتائب سيد الشهداء”، اللذين يتبعان مرجعية المرشد الإيراني علي خامنئي.

“فقيه الدم” 

كانت مواقف الحائري في الأحداث العراقية، تميل لصالح إيران والقوى الشيعية الموالية لها في العراق، وتتسرّب عبر تلك المواقف نزعاته المتطرّفة التي يمكن رصدها منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، وفتاواه لقوى المعارضة “الإسلامية” بجواز قتل الجنود العراقيين “غير الأبرياء، وضرب المصالح العامة، وانتحار المجاهد بلحاظ التعذيب القاسي”. وقد أصدر سلسلة فتاوى في كتاب عُرف وقتها بـ”دليل المجاهد”. وبعد سقوط النظام العراقي في أبريل 2003، تصادمت فتواه الداعية إلى قتل البعثيين الملطخة أيديهم بالدماء، مع فتوى المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، التي نصت على وجوب الاحتكام إلى القضاء المحلي. ودفعت مواقف الحائري السابقة واللاحقة، المعترضين على فتاواه إلى وصفه بـ”فقيه الدم”. 

ولم تقف فتاواه عند هذا الحد، بل أخذت بياناته تكرّس سلطة الإسلام السياسي الشيعي في العراق، خصوصاً بعد فتواه بحرمة انتخاب العلمانيين العراقيين[1]، وحرمة الخروج بتظاهرات فبراير 2011 (تظاهرة نظمها شباب مدنيون ضد حكومة نوري المالكي)[2]، وصولاً إلى الانتخابات التشريعية الأخيرة التي حرّم فيها الاقتراع للقوائم الداعية إلى دمج “الحشد الشعبي” بصفوف القوات الأمنية العراقية[3]، وهي إشارة إلى حرمة انتخاب “الكتلة الصدرية” التي تبَّنى برنامجها الانتخابي تلك الدعوة. 

مع ذلك، لوحظ أنّ تفاعل الحائري مع الشأن السياسي العراقي الجديد كان تفاعلاً ضعيفاً؛ فهو لم يُفتِ أو يصرّح إلّا وقت الأزمات الحادة والمنعطفات الخطيرة التي تعصف بالبلاد. ولم يُثر اعتزال الحائري العمل الديني بسبب دواعي المرض والتقدم في السِّن حساسية شيعية في العراق، بقدر ما أثارت وصيته التي نصّت على العودة لمرجعية المرشد الإيراني علي خامنئي، التي استُقبلت بمشاعر استهجان في بعض الأوساط الشعبية، والصدرية بشكلٍ خاص، لاسيما أنَّ تلك الدعوة قد قُرئت على أنّها محاولة لوضع الصدريين تحت وصاية المرشد الأعلى، وضرب زعيمهم الصدر في معركته مع خصومه الشيعة على إدارة السلطة في العراق. 

الدور الإيراني في اعتزال الحائري

راجت تساؤلات حيال القدرة الصحية للحائري وما إذا كان قد أصدر البيان الأخير باعتزال العمل الديني، وغلق مكاتب مرجعيته في إيران والعراق وبلدان أخرى، عن وعي وارادة. ويعود ذلك الى حقيقة ان الحائري تعرّض لأزمة صحية في العام 2019 تطورت لاحقاً إلى فقدانه الوعي التام بما يدور حوله. وتؤكد مصادر في حوزة قم الإيرانية أن الحائري أصيب قبل ثلاث سنوات، بمرض الزهايمر، واستفحل لديه لاحقاً، إلى حد عدم معرفته بأفراد أسرته. ومثل هذه الحادثة تؤكد أن البيانين الأخيرين، البيان الذي حرّم انتخاب من يدعو لدمج “الحشد الشعبي” في الأجهزة الأمنية العراقية، خلال اقتراع أكتوبر 2021، وبيان الاعتزال المرجعي الصادر في أغسطس الماضي، كُتِبا بالاتفاق بين مكتبه الذي أمهر البيانين بختم المرجع، وإيرانيين مسؤولين على ملف العراق في “فيلق القدس” داخل الحرس الثوري. 

ولم تشهد المسيرة العلمية لفقهاء التشيُّع خلال ألف عام، أن استقال أحدهم عن دوره المرجعي إلّا فيما ندر. ولذلك يبدو واضحاً أن هدف بيان الاعتزال هو تعرية “التيار الصدري” من أي غطاء فقهي على المستويين الديني والسياسي، لاسيما أن البيان أشار بشكل غير مباشر إلى افتقار مقتدى الصدر، لرتبة الاجتهاد الفقهي التي تعطيه شرعية القيادة الدينية للجمهور الصدري في العراق، بل حمل البيان لغة تقريع واضحة له، حينما اتّهمه بـ”السعي لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين”. 

ولربما تُعلَّل هذه المناورة بين “مكتب المرجع” والمسؤولين الإيرانيين، والتي تنطوي على التفاف على المرجع نفسه، بالمصلحة العامة للطائفة والمذهب، والتي دائماً ما يتُهم زعيم “التيار الصدري” من قبل الإعلام الداعم لإيران، بعدم مراعاتها من خلال شق وحدة الصف السياسي الشيعي. ولم تحرج دعوة الحائري إلى اتّباع مرجعية خامنئي، الصدر وأتباعه وحدهم، بل كذلك الفصائل الشيعية المتحالفة مع إيران ذات الجذور الصدرية، وترجع بالتقليد إلى الحائري. فبيانٌ كهذا هو محط اختبار لمدى استجابة زعماء الفصائل، أمثال قيس الخزعلي، وأكرم الكعبي، وشبل الزيدي، وآخرين، إلى العمل تحت الغطاء الفقهي الذي يوفره خامنئي فقط (بناءً على الوصية). وفي حال تمت الاستجابة ستفقد الفصائل – على الأقل نظرياً – الكثير من استقلاليتها السياسية والاقتصادية، على نحوٍ يمكن إيجازه في النقاط الآتية: 

أولاً: ستتحول علاقة الفصائل بإيران، من علاقة تخادمية سياسية، إلى علاقة أوامر وطاعة مرجعية.

ثانياً: سيكون لـ”فيلق القدس” الإيراني، الإشراف العملي والميداني على الخارطة السياسية والعسكرية للفصائل، ولا حاجة وقتها لقرارات مكاتبها السياسية، واجتهاد زعاماتها. فعلى سبيل المثال، اجتهاد قيس الخزعلي في التحول من فصيل مقاتل للأمريكيين، إلى فصيل سياسي، دخل العملية الانتخابية في اقتراعي 2018 و2021، وهو ما خلق جفوة بينه وبين الإيرانيين الذين طالبوه بعدم الدخول في السياسة، والإكتفاء بقيادة فصيل عسكري في جبهتي العراق وسوريا. 

ثالثاً: فقدان بعض الفصائل لحرية اتخاذ القرار السياسي وفقاً لمصلحتها، عبر التكتل لصالح جهة على حساب جهة أخرى داخل تجمع قوى “الإطار التنسيقي”، كما يحدث الآن في وقوف الخزعلي في خندق زعيم “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي، ورئيس تيار “الحكمة” عمّار الحكيم، بالضد من خندق زعيم “تحالف الفتح” هادي العامري، ورئيس تحالف “النصر” حيدر العبادي. 

رابعاً: لن تكون هناك حرية في حركة أموال الفصائل في العراق وخارجه، نتيجة الإشراف المباشر من قبل “فيلق القدس”، الذي سيطالب باطلاعه على اقتصاديات الفصائل، وشروط عائدية استثماراتها لسلطة الولي الفقيه. 

مع ذلك، يمكن الالتفاف على هذه القيود باعتبار وصية الحائري باتّباع خامنئي غير متعلقة بالشؤون الفقهية والتقليد، بل بالمنهج السياسي العامّ، وهو ما يمكن للفصائل أن تزعم التزامها به. 

رمزية النجف

كان في رد زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر على بيان الحائري، لغة تشكيك واضحة بقدرة المرجع على اتخاذ قرار كهذا، وقد نوّه إلى أن “اعتزال المرجع الحائري، لم يكن بمحض إرادته. وما صدر من بيان عنه كان كذلك أيضاً بغير إرادته”.[4] وهذا التنويه يشي بوقوف أطراف معينة خلف بيان الاعتزال، تحاول استهدافه سياسياً بأدوات فقهية، نتيجة صدامه الحاد مع قوى “الإطار التنسيقي” على إدارة السلطة في العراق. 

ولم يكن أمام الصدر، من خيار غير حوزة النجف لكي يستند إليها لمقاومة محاولة إيران تعريته وتياره من أي غطاء فقهي، بعد استقالة الحائري عن دوره المرجعي. واستعانة الخطاب الصدري برمزية النجف، في أوج تصاعد مشاعر الغضب بينهم ضد التدخلات الإيرانية في العراق، قد يُسهِم في إعادة الصدريين إلى الحاضنة الدينية النجفية، بعد مرور أكثر من عقدين على القطيعة بينهما، وذلك بعد لجوء الصدر وأتباعه إلى مرجعية الحائري في مدينة قم الإيرانية في عام 1999. 

ويحاول الصدر في خطابه توظيف الرمزية الشيعية العراقية، بالضد من الرمزيات الشيعية في إيران. وهذا ما يعود بالنفعية على “التيار الصدري” والحوزة التقليدية في النجف في آن واحد، من حيث تقليص النفوذ المرجعي الإيراني، لصالح النفوذ المرجعي المحلي، على شريحة اجتماعية واسعة، من قبيل شريحة الصدريين، التي جلُّها من الشباب الناشئ والمتحمس للدفاع عن الرمزيات الشيعية في بلاده. 

ومنذ سنوات قريبة، سعى مكتب المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، إلى مد جسور التواصل مع مقتدى الصدر، لردم الفجوة التي حصلت بين والده محمد الصدر، وسائر المرجعيات النجفية التي رفضت الانخراط في انتفاضة الصدر الأب، على النظام السياسي السابق، لعدم تكافؤ القوى، وقدرة النظام على سحق أي تمرد شيعي، كما حصل في انتفاضة 1991. وتمكَّن مكتب السيستاني لاحقاً من احتواء الصدر الابن، عبر السماح له بالتواصل مع مكتب المرجع الأعلى، الذي أغلق بابه أمام السياسيين العراقيين الآخرين، فيما يمكن اعتباره نوعاً من الاحتجاج على أدائهم السياسي. 

السيناريوهات المتوقعة 

تتعدد التفسيرات لإعلان الصدر اعتزال السياسة امتثالاً لتوجيهات “المرجع”، بين مَنْ يرى أنّه قصد الحائري، ومَنْ يرى أنّه قصد السيستاني، في محاولة لالتقاط الأنفاس واستيعاب الصدمة التي أنتجها البيان المنسوب للحائري، وتحديد المسار المقبل من ناحية العلاقة بين التيار الصدري والمرجعية الدينية. وفي هذا الإطار، يُمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل علاقة الصدر بتلك المرجعية: 

 السيناريو الأول: إعلان مقتدى الصدر الانضواء الفقهي تحت غطاء المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، وفي هذا الخيار عدة عوائد نفعية للصدر، من بينها: 

  • الاستقلال السياسي التام والقطيعة الفعلية مع أي فواعل دينية وسياسية داخل إيران، وهذا ما قد يتيح له التصعيد السياسي ضد الإيرانيين، بحرية أكبر مما هو عليه الوضع حالياً.
  • بعْث رسائل تطمين لأغلب العراقيين الذي يشككون بحراك الصدر المعارض للنفوذ الإيراني في البلاد، من خلال توجيه البوصلة الفقهية إلى النجف، وقطع الروابط السياسية والفقهية مع إيران.
  • إمكانية أن يلعب الصدر دوراً مؤثراً في القرار المرجعي النجفي، بوصفه قوة جماهيرية يحتاجها الجميع، في حال شغور منصب المرجع الأعلى للشيعة، بعد رحيل السيستاني، الذي يبلغ من العمر 92 عاماً.
  • استخدام النجف، حوزةً وإرثاً، في ضرب هوية الانتماء الفقهي والسياسي للخصوم الشيعة، ممن يتحالف مع نظام ولاية الفقيه، ويتَّبع المرشد الإيراني علي الخامنئي.

السيناريو الثاني: تفعيل زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، لخيار “البديل الثالث”، الذي وضعه والده محمد الصدر، ضمن الخيارات المرجعية الثلاثة التي تخلف مرجعيته، وهم: كلٌّ مِن كاظم الحائري، ومحمد اليعقوبي، وإسحاق الفياض. ولكن هذا الخيار قد يواجَه تحديات عدة، من بينها:

  • ينتمي اسحاق الفياض، وهو أفغاني الجنسية، إلى مدرسة أستاذه المرجع الأعلى الراحل أبي القاسم الخوئي، وهي مدرسة لا تؤمن بالعمل والتدخل السياسيين في زمن غيبة الإمام المهدي مطلقاً.  وتوجه فقهي كهذا لا يتيح لـ”التيار الصدري” مأذونية شرعية كافية للعمل السياسي.
  • من الممكن أن تلعب الحواجز النفسية تحدياً في خيار الصدر لمرجعية الفياض، وهذه الحواجز تكمُن في العلاقة الإيجابية بين زعيم “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي والمرجع الأفغاني في النجف، كما يحضر زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي، درساً فقهياً عالياً لدى الفياض. وعلى الرغم من أن المرجع الأخير يعد أبرز الحلفاء داخل المؤسسة المرجعية بقيادة السيستاني، إلا أن بابه مفتوح للجميع، وليس ثمة خصوصية يمكن استثمارها سياسياً من الارتباط به.
  • ضعف الرأس المال الاجتماعي والحضور الإعلامي لمرجعية الشيخ الفياض في داخل العراق وخارجه، قد يأخذ من الصدريين أكثر مما يعطي لهم.

السيناريو الثالث: نشوء عملية تخادم متبادلة بين الصدر ومرجعيات شيعية صغيرة، خرجت من رحم مرجعيتي باقر الصدر، ومحمد صادق الصدر، ومؤمنة بالعمل السياسي. وبإمكان هذه المرجعيات أن تعمل ائتلافاً مرجعياً بينها، لتوفير الغطاء الفقهي لـ”التيار الصدري”، مقابل دعم مالي وجماهيري من قبل التيار لها. ومن أبرز المراجع المرشحين لهذا الدور: 

  • الشيخ فاضل المالكي، الناقد للطبقة السياسية منذ سنة 2003، والمنسجم كثيراً مع الخطاب السياسي لـ”التيار الصدري”، منذ أيام مناهضته الوجود الأميركي في البلاد، كما أن لهذا المرجع شعبية لا بأس بها، كونه خطيباً حسينياً مرغوباً به من قبل الشيعة العراقيين وغيرهم.
  • الشيخ قاسم الطائي، الذي يتبنى موقفاً احتجاجياً على الوضع السياسي العراقي، وسبق له أن دعم تظاهرات مدنية بالضد من حكم الإسلام السياسي الشيعي. وقد عرض خدمته مؤخراً لمقتدى الصدر وأنصاره بُعيد اعتزال الحائري.
  • الشيخ فاضل البديري، وهو أيضاً ذو جذور صدرية، وبإمكانه ممارسة دور إيجابي في خروج الصدريين من أزمة الشرعية، وإسنادهم بالضد من الخصوم الإيرانيين. وسبق لهذا المرجع دعم جهات سياسية، كان أبرزها الحزب الدستوري التابع لوزير الداخلية الأسبق جواد البولاني.

الخلاصة 

نجحت إيران، بطرقها الخاصة، في سحْب البساط المرجعي الذي يمثله كاظم الحائري، من تحت أقدام “التيار الصدري”، لكنها لن تنجح على الأرجح في وضع الصدر والصدريين تحت عباءة المرشد الإيراني علي خامنئي. والمواقف الصدرية الحادة من الأخير دليلٌ على عدم إمكانية التلاقي الفقهي والسياسي بين الصدر وإيران مجدداً. ولهذا، يبدو أنه بات على الصدر البحث عن مرجعيات تعطيه مشروعية العمل السياسي، ولأتباعه الخدمات الفقهية المستحدثة.

السابق
«بيروت على ضفتي نهر السين» للأديب الشاب اللبناني سبيل غصوب تتقدّم نحو «غونكور» الفرنسية!
التالي
بعد صراع مع المرض.. وفاة الفنان المصري هشام سليم عن 62 عامًا