حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: آن للنفاق أن يدان.. وللابتزاز ان يردع

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

تتكرر تصريحات الوزير جبران باسيل، حول رفضه الاعتراف بامكانية ان تؤول صلاحيات رئاسة الجمهورية اللبنانية لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي اعتبرت مستقيلة حكما، بعد انجازها الاشرافَ على انتخابات نيابية عادية، وبداية ولاية جديدة لمجلس النواب في لبنان، وفي آخر نظرياته حول الموضوع، صرح باسيل بانه سيعتبر الحكومة بعد رحيل الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا، وفي حال عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، سيعتبر هذه الحكومة مغتصبة سلطة، والوصف هنا اتهام سافر بعدم شرعيتها الدستورية، وعدم قانونية تولي مهمات رئاسة الجمهورية والقسم الاكبر من صلاحياتها.

يستند باسيل وعون و سليم جريصاتي في موقفهم المشكك، بجواز تولي حكومة ميقاتي املاء مهام الشغور في السدة الرئاسية، الى فذلكة قانونية مستغربة مؤداها التفريق بين الحكومة ومجلس الوزراء…

الفذلكة التي يتبناها جريصاتي وباسيل، تعتبر مجلس الوزراء كيانا مختلفا عن الحكومة

تنص الفقرة الأولى من المادة 62 من الدستور اللبناني على أنه: “في حال خلو سدة الرئاسة لأية علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء”.

الفذلكة التي يتبناها جريصاتي وباسيل، تعتبر مجلس الوزراء كيانا مختلفا عن الحكومة، خاصة اذا كانت حكومة تصريف اعمال، تمارس مهماتها بالمعنى الضيق للكلمة، فبحسب جريصاتي وباسيل حكومة تصريف الاعمال لا تعقد اجتماعات دورية كمجلس للوزراء، ولذلك فالحكومة التي تُصَرِّف الاعمال لا تشكل مجلس وزراء.

ليس افظع من تأكيد البديهيات، إلاّ محاولات إثباتها، والبديهية هنا ان الحكومة ومجلس الوزراء هما تعبيرين مختلفين عن مكوِّن واحد.
وليس هناك اي سبب يمنع عند الضرورة ان تعقد حكومة تصريف الاعمال اجتماعات للمجلس الوزاري، وبذلك تكون الحكومة هي مجلس الوزراء والعكس صحيح.

ما يطلبه عون هو ضمان مستقبل باسيل السياسي، والا خلق ازمة سياسية ودستورية

لا يكتفي باسيل وعون وجريصاتي بابتداع ما هو غريب ومستهجن، بل يلوِّحان بامكانية بقاء عون في قصر بعبدا بعد نهاية ولايته، بعد ان صرح عون ان خيار مغادرته بعبدا، يشترط ان يكون يوم المغادرة يوما طبيعيا؟!
أما مواصفات اليوم الطبيعي فلم يجر تحديدها بتاتا، وهل تم ربطها بشروط مناخية، او بظروف سياسية، او بمستجدات اقتصادية، أو بتقلبات مالية، او بأحداث امنية لبنانية، بل تُرِكَت مفتوحةً على كل احتمال او حدث اقليمي او دولي، او كارثة طبيعية من صنف الزلازل، او ثورة البراكين، او مطر شهب سماوية قد تأتي من فلك غير معلوم.
فعليا ما يطلبه عون هو ضمان مستقبل باسيل السياسي، والا خلق ازمة سياسية ودستورية ودفع الانقسام السياسي نحو تأزم غير مسبوق.

ميشال عون دخل الحياة السياسية اللبنانية، كرئيس حكومة عسكرية، اثر اصدار رئيس الجمهورية امين الجميل في آخر ليلة من ولايته الدستورية سنة ١٩٨٨، مراسيم حكومة انتقالية

ولعل الامر غير الطبيعي الوحيد، هو مستوى الوقاحة التي وصل اليها الابتزاز العوني الباسيلي ، فموقف الابتزاز هذا، لا يخرج عن الدستور والمنطق والتقاليد والأعراف الديموقراطية فحسب، بل يتناقض مع التجربة العونية ذاتها ومع لحظات تأسيسها التاريخية في سنة ١٩٨٨.
يعرف المخضرمون في السياسة اللبنانية، ان ميشال عون قد دخل الحياة السياسية اللبنانية، كرئيس حكومة عسكرية، اثر اصدار رئيس الجمهورية امين الجميل في آخر ليلة من ولايته الدستورية سنة ١٩٨٨، مراسيم حكومة انتقالية تتولى صلاحيات رئاسة الجمهورية بعد اخلائه سدة رئاسة الجمهورية، دون انتخاب خلف له.

كان دستور الجمهورية الاولى قبل الطائف ينيط السلطة الاجرائية برئيس الجمهورية ويتيح له حسب صلاحياته، ” تعيين الوزراء واقالتهم واختيار رئيس للحكومة من بينهم”، وانطلاقا من ذلك شكل الرئيس الجميل حكومة عسكرية من ٦ ضباط، كانوا يكونون المجلس العسكري، وبرئاسة قائد الجيش يوم ذاك الجنرال ميشال عون، لم تمض ٢٤ ساعة على صدور مراسيم هذه الحكومة حتى استقال منها نصف اعضائها، ففقدت نصابها القانوني، كما فقدت شرعيتها الدستورية لتناقضها مع ميثاق العيش المشترك، لانها اصبحت نصف حكومة، كل من تبقى من اعضائها وزراء مسيحيون، بعد استقالة كل الوزراء المسلمين منها…
والحكومة العسكرية كأي حكومة أخرى، لا تحكم قبل مثولها امام مجلس النواب ونيلها ثقته، وحكومة عون لم تفعل ذلك!

كما يتوجب على اي حكومة وخلال مهلة شهر من تشكيلها ( مهلة اسقاط وليست حث) التقدم من مجلس النواب ببيان وزاري، تطلب على اساسه ثقة المجلس وموافقته، وحكومة عون العسكرية لم تمثل امام مجلس النواب، ولم تتقدم منه ببيان وزاري، ولم تنل ثقته!!…

حكومة الجنرال عون العسكرية قامت بحل مجلس النواب لمنعه من حضور مؤتمر الطائف، بدل تأمين ظروف التئامه لانتخاب الرئيس

والحكومة الانتقالية التي تتولى ادارة الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، تتحدد مهماتها حصرا بالعمل على تأمين ظروف انتخاب رئيس الجمهورية، وبتمكين مجلس النواب من الانعقاد واستيفاء الاستحقاق الدستوري لمستلزماته… وحكومة الجنرال عون العسكرية قامت بحل مجلس النواب لمنعه من حضور مؤتمر الطائف، بدل تأمين ظروف التئامه لانتخاب الرئيس..

وحكومة الجنرال عون الانتقالية، التي استقال نصفها، والتي لم تنل ثقة مجلس النواب ولم تمثل امامه، اشعلت ثلاثة حروب واحدة في وجه القوات السورية واخرى في وجه القوات اللبنانية، وثالثة في وجه رئيس الجمهورية المنتخب الياس الهراوي…

حكومة الجنرال عون الانتقالية، التي استقال نصفها، والتي لم تنل ثقة مجلس النواب ولم تمثل امامه، اشعلت ثلاثة حروب

وعندما التأم المجلس النيابي مرتين لانتخاب الرئيس رينيه معوض ثم الياس الهراوي، رفضت حكومة عون الامتثال والاعتراف برئيسي الجمهورية المنتخبين.
كيف يمكن ان يكون افتقادُ حكومة للشرعية اكثر من غياب ثقة البرلمان؟…
وكيف يكون الانتهاكٌ لشرعية العيش المشترك اكثر من الحكم بحكومة فئوية و من طائفة واحدة؟…

وكيف تكون حكومة انتقالية مهمتها تأمين انتخابات رئاسية، فتحل البرلمان المناط به انتخاب الرئيس؟…
وكيف تكون الحكومة مغتصبة للسلطة، اكثر من التمرد على انتخاب شرعي وقانوني لرئيسي جمهورية، تتابعت ولايتهما بشكل درامي؟…

وكيف تكون لحكومة ” انتقالية شن حربين مدمرتين؟

قد تحمل حكومة تصريف الاعمال التي يرأسها ميقاتي، عيوبا بسيطة في مهامها وصلاحياتها واهليتها لملء الفراغ الرئاسي، لكنها قطعا هي حكومة نالت ثقة مجلس نيابي، واستقالتها جاءت نتيجةً لبدء ولاية جديدة لمجلس النواب، وهي حكومة ميثاقية تراعي مبدأ العيش المشترك، ولم تقم ولن تقوم بحل مجلس النواب، ولم تشن حربا او حروبا دامية، ولن تتمرد على رئيس جديد للجمهورية حين يتم انتخابه….

من يرفض ان تتولى هذه الحكومة القيام بصلاحيات رئيس الجمهورية عند شغور الرئاسة، كان عليه ان يرفض شرعية حكومة عون وان يواجه فئويتها وطائفيتها

ولذلك فان من يرفض ان تتولى هذه الحكومة القيام بصلاحيات رئيس الجمهورية عند شغور الرئاسة، كان عليه ان يرفض شرعية حكومة عون وان يواجه فئويتها وطائفيتها، كما كان عليه ان يدين تمردها على شرعية رينيه معوض والياس الهراوي…

قد يقول قائل ان الاحداث التي تذكرها مضى عليها اكثر من ثلاثين سنة، واننا في زمن جديد. حسنا اذا كانت حكومة عون العسكرية غير شرعية وفئوية، ومارست تمردا ادى الى حرب عسكرية، طبقا للمنطق العوني المستجد!!! فالأوْلَى بالجنرال ميشال عون ان يودع في المالية العامة في الدولة، كل مخصصاته المالية التي تقاضاها كرئيس وزراء منذ ١٩٨٨ ولتاريخه، لان حكومته كانت اقل شرعية، واقل ميثاقية، واقل قانونية، من الحكومة الحالية… آن للنفاق ان يصاب بالخزي وللابتزاز ان يدان ويردع…

السابق
«صندوق النقد» يُؤكد حصول انفتاح دولي مالي غزير على لبنان.. في هذه الحالة فقط!
التالي
عتب أوروبي على مسؤولي لبنان.. ورسالة فرنسية