وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: العراق.. مشهد فشل شيعي

وجيه قانصو

لن أقرأ الأزمة الأخيرة في العراق من منظور سياسي، لأنها لم تعد قضية تنافس بين مشاريع أو برامج أو رؤى سياسية، ولم تعد قضية نضال حشد لها الشيعة في السابق، كل عدّة التعبئة والتحريض لرفع الحرمان عنهم، أو إلغاء مظلوميتهم أو إنهاء تهميشهم واستبعادهم عن السلطة ومؤسسات الدولة، ولم تعد أيضاً نتاج أزمة علاقة أو صراع بين مكونات طائفية أو عرقية، أو معضلة توزيع موارد ومنافع، بل إنها تجاوزت في عمقها حال الفساد المستشري والانتهاكات القانونية والمخالفات الدستورية.

إنها أزمة، ظاهرها صراع شيعي-شيعي دموي ومنفّر على السلطة، وفي حقيقتها وجوهرها فشل شيعي فاضح في ممارسة السلطة وإدارة الدولة

إنها أزمة، ظاهرها صراع شيعي-شيعي دموي ومنفّر على السلطة، وفي حقيقتها وجوهرها فشل شيعي فاضح في ممارسة السلطة وإدارة الدولة.  فشل لا يقتصر على شخص بعينه أو حزب معين، ولا يتّصل حتى بصيغة الحكم والنظام التي أعتمدت بعد سقوط صدام حسين. هو فشل ملتصق بطبيعة الحاكم والمحكوم معاً: في ذهنيته وتكوينه الذاتي، في ولاءاته وروابطه، في انتمائه وهويته، في نظرته إلى نفسه والآخرين، في فهمه لحقيقة السلطة والحكم، في تصوّره للشرعية السياسية، في استيعابه لمعنى الدولة.

هذا ليس ذمّاً لأحد، إنما دعوة إلى البحث عن مصدر المشكلة في مكان وموضع مختلف. أي هي ليست مشكلة في نظرية السلطة بل في المتصارعين على السلطة، ليست في قواعد اللعبة بل في اللاعبين أنفسهم، في القوة والدوافع والموّجِهات التي تحدد شخصيتهم وعقولهم وتوجه أعمالهم وقراراتهم.  أي هي مشكلة ما قبل السلطة، أو إذا شئت القوى والذهنيات التي تنتج السلطة وتمارسها، مهما كانت قواعد السلطة وضوابطها، ومشكلة حال ما قبل الدولة أو اللادولة، الذي ما زال حاضراً وفاعلاً بقوة ويحول دون أيّ تشكل أو ظهور فعلي للدولة.

نجاح التجربة السياسية يتطلب بناء ذات جديدة تناسب الواقع الجديد، وإلا صار الواقع مرآة لذات تعاني أعطاباً واختلالات وارتكاسات ذاتية

استلم العراقيون الشيعة السلطة من الولايات المتحدة على طبق من ذهب، من دون أي جهد يذكر من قواهم، مع الاحتفاظ بالسؤال الكبير حول طبيعة وأخلاقية التواطؤ غير المبرر مع المحتل.  كانت أمامهم حينها فرصة لتقديم  تجربة حكم أخرى، لكن التجربة الناجحة لا تكون في حسن السلوك وطيب النوايا فقط، فالنجاح ليس من ملحقات القيّم الأخلاقية ومن آثار التقوى، أي ليس ثمرة باطن نقي، بل هو، أي النجاح، ثمرة قدرة واقتدار، تفوّق وجدارة، جودة وابتكار، مثابرة وجهد، رؤية وبصيرة.  أي إن نجاح التجربة السياسية يتطلب بناء ذات جديدة تناسب الواقع الجديد، وإلا صار الواقع مرآة لذات تعاني أعطاباً واختلالات وارتكاسات ذاتية.  ذات تتجاوز ذاتها، تكون مقتدرة على التحكم بتناقضاتها وإزالة التباساتها، تراجع تناقضاتها والتباساتها، روابطها والتزاماتها. ذات لديها الجرأة على تصفية حساباتها مع: 

  أولا : تصوراتها حول معنى الحكم والسلطة. فلا يُنظر إليها كسلطة انتقام وعقاب لقوى ومكونات أخرى على ولاءاتها والتزاماتها السابقة.  ولا تكون مواقع الدولة جوائز ومكافآت ثمينة لمن عارض صدام حسين وكان ضحية استبداده وقهره، ولا يكون الحكمُ حكمَ أغلبية طائفية بقدر ما هي أغلبية سياسية عابرة لخصوص كل طائفة، ولا تكون سلطة تستمد شرعيتها أو مسوّغها من فتوى أو قاعدة دينية، بقدر ما تستند إلى إجماع المجتمع وتوافقه الذي يشكل أساس العقد الاجتماعي، الذي يضمن الاستقرار والاستمرارية.

قداسة يتقمصها رجل الدين مقابل مديونة دينية بطاعة غير مشروطة من قبل الأتباع

ثانياً: تصفية الحساب مع دور رجل الدين والمؤسسة الدينية كلها في الحياة السياسية، الذي وصل إلى حال انتفاخ بل تغوّل في البيئة الشيعية عموماً والساحة العراقية خصوصاً. هذا التضخم لا يُفهم إلا على أنه اعتداء من الرموز الدينية على الحياة السياسية، محاولة منها لابتلاعها وضمّها إلى دائرة نفوذها، بالتالي تعطيلها وشلّها، الأمر الذي يتسبب بضمور الحياة المدنية، وندرة المبادرات الحرّة والخلاقة، وتشوّه معنى السياسة والحكم.  فلا تعود العلاقة بين التابع والمتبوع علاقة ولاء وتبعية متبادلين، أي طاعة مقابل محاسبة، نفوذ مقابل تأييد شعبي، بل تتحول إلى علاقة تراتبية خطيرة: قداسة يتقمصها رجل الدين مقابل مديونة دينية بطاعة غير مشروطة من قبل الأتباع. 

الاستقرار لا يكفلهما الفتوى أو التديّن، بل دافع الضمير الذاتي والمبادرة الحرة لإنتاج إجماع وطني يجسد عقداً اجتماعياً صلباً

تصفية الحساب هذه ليس غرضها الإقصاء أو الاستبعاد، إنما التمييز بين المجالات لا خلطها ومزجها، تحديد الوظائف والتدقيق في حدود المهام والصلاحيات. بل هي بداية لإعادة بناء العلاقة مع المؤسسة الدينية كمدخل لإعادة رسم حدود مفاهيمية واضحة بين الديني والسياسي، بين القدسي والدنيوي، بين الفتوى أو التقليد والمبادرة الفردية والجماعية.  فالاستقرار لا يكفلهما الفتوى أو التديّن، بل دافع الضمير الذاتي والمبادرة الحرة لإنتاج إجماع وطني يجسد عقداً اجتماعياً صلباً، يتأسس عليه مجال سياسي فاعل، ويمهد بدوره لظهور دولة فعلية لا شكلية وصورية. 

خرج المشهد العراقي الأخير عن أن يكون سياسياً، ليصبح حلبة صراع بل قيود ولا ضوابط ولا أطر

ثالثاً: تصفية الحساب مع العلاقة بالنظام الولايتي في إيران. هذه العلاقة التي لم تكن يوما لصالح بناء دولة أو تعزيز استقرار، بقدر ما هي علاقة توسّع وبسط نفوذ وتلاعب بالمكوّنات الاجتماعية.  هذه التصفية لا تكتمل إلا حين تخرج المكوّنات الشيعية المنتشرة في العالم من ترددها في حسم انتمائها وهويتها، بإعطاء أولوية مطلقة للهوية الوطنية على هويتها الفرعية، وتجزم في ولائها الخالص لدولتها.

بالتالي إبطال المفاعيل الدينية والسياسية للنموذج الولايتي الذي يمنح نفسه صلاحية نفوذ وأمر خارج حدوده، وحقّ وصاية سياسية وأمنية وثقافية على المكونات الشيعية خارج مجاله القانوني.خرج المشهد العراقي الأخير عن أن يكون سياسياً، ليصبح حلبة صراع بل قيود ولا ضوابط ولا أطر. هو صراع غارق في الشخصانية، في الولاءات التافهة، في التوظيف الاعتباطي للشعارات الدينية، في الاندفاع العبثي للقتل أو الموت، في معارك الكرّ والفرّ إلى ما لانهاية، في حشود غب الطلب.  مشهد لا يضعف الدولة فحسب، بل يجعلها موضوعاً غير ذي صلة بمجريات الأحداث، أي موضوعاً يمكن الاستغناء عنه والعيش بدونه. مشهد موت لأشكال الحياة تتسارع وتيرته وتشتد قوة.

السابق
بعدسة «جنوبية»: «منعاً لتخريب التحقيق».. اهالي ضحايا انفجار المرفأ يفترشون طريق قصر العدل!
التالي
بالفيديو: حاولوا سرقته على طريق المطار.. فدهسهم!