وتريات مظفر النواب

ذات يوم كان الشاعر ذو الوجه المستدير يقف على المنبر، وضعوا أمامه كأساً قيل إنها خمر وبدأ يلقي، بصوت من سحيق النفس “مطر”، الكلمة نفسها بدأت تصعد شيئاً فشيئاً حتى صارت هادرة. خلنا أنّ المطر سيهطل، لكن الأكيد ان شيئاً كالمطر خيّم على الصّالة، ذلك كان مظفر النواب، كان من تلك الأصوات التي خرجت بالتدريج من مناحة حزيران 1968.
الشاعر الذي خرج من نقره السلمان بعدما عثر عليه جنود الشاه وأعادوه إلى العراق. الشاعر الذي بدأ بالمحكية العراقية وابتكر فيها وعدّ أحد أصواتها الأعلى والأكثر موهبة.

الرجل الذي كان يرسم ويغني، ها هو يقف على المنبر يرسل شواظيه ولعناته وينوح، ينوح من قلب مجروح.

ها هي الشخصية العراقية والمزاج العراقي والسخط العراقي والمرثية العراقية في شخص واحد. لا بد أن هذا الحزن المتراكم من العذابات والسجون ومن مذلة حزيران. هذا الحزن الذي يخرج من تاريخ أجيال ومن تراث أجيال ويجر وراءه لعنة أجيال. لا بد أن يجد مجراه في كلام هذا السجين الهارب، والموشوم بتعذيب وحديد السجانين.

كُتب هذا الشعر على قدر الإلقاء وكتب ليلقى كمن يغنى وهو لذلك لا ينفصل عن أدائه بل يبدو أن مكانه هو الكاسيت لا الكتاب

مظفر النواب حضرتُه تلك المرة في نادي التضامن في صور، لكني سمعتُه في الكاسيت مراراً، وقرأته في “وتريات ليلية” التي استغربت عنوانها أولاً ثم وجدته مطابقاً للشعر، فهذا الشعر يحتار بين أن يكون غناء وأن يكون كتابة، وهذا الشعر فيض من خزين داخلي يكاد يشمل كل شيء، وهذا الشعر كتب ليلقى ويسمع، وهذا الشعر الذي تحول على أشرطة التسجيل إلى فن شعبي، وهذا الشعر الذي كان يجوّد ويقسّم ويكاد يغنّى هو فعلا وتريات. صلته بالموسيقى ليست عابرة وليست شكلية، إنه كأداء مظفر النواب موسيقى تعلو وتنخفض، تهدر وتهمس، تموج وتنقطع.

فهنا الشعر صُنع ليلقى وصُنع على مقاس الإلقاء وعلى عياره، والإلقاء معه عبارة عن موسيقى صوتية، موسيقى بالفم ومن الفم.

لذلك كان مظفر النواب محيراً كشاعر، فالذين يتجاهلون هذه الوظيفة الصوتية لشعره، كانوا يخوضون بصعوبة فيه، كان الشعر الذي نظم بمدى سيمفوني والذي يبدو أحياناً منفرداً، وأحياناً أخرى حاشداً، وفي أحيان هائجاً وفي أحيان ملتاعاً، وفي أحيان متشابكاً وفي أحيان متفرعاً.

كُتب هذا الشعر على قدر الإلقاء، وكتب ليلقى كمن يغنى، وهو لذلك لا ينفصل عن أدائه، بل يبدو أن مكانه هو الكاسيت لا الكتاب. والأرجح أن أكثر الذين عرفوه، لم يقرأوه في كتاب بقدر ما سمعوه من كاسيت، والآن لا يكاد الواحد يتذكر سطراً لمظفر النواب إلا ويتذكره مقترناً بالصوت الذي يؤديه.

لذا يحيّر شعر مظفر النواب أولئك الذين يريدون أن يروا مكانه في تاريخ الشعر العراقي، فهذا الشعر الذي يكاد يغنى ويلحن، متصل تماماً بلحنه وأدائه، إنه لذلك نوع قائم بذاته، فهذا الشعر الذي يُسمع أكثر مما يُقرأ، هو لون من شعر شعبي ولو كتب بالفصحى.

لقد بدأ مظفر بالمحكية العراقية وأنشأ فيها أثراً فريداً. لكنه لم يبتعد كلياً عنها في شعره الفصيح، فهو في فصيحه يحافظ كثيراً على شفاهية القول، ويحافظ كثيراً على أدائه الصوتي. بل يتراءى لقارئه أحياناً أن الكلام الذي يقرأه لا يستوي إلا بطريقة قراءته، أو أنه صيغ على مقاس قراءة خاصة، فالشاعر وهو ينظم إنما لا يتبع فقط العروض بل يتبع عروضاً شفاهية قد يكون مكانها الأساس في الشعر الشعبي. لا بد أن نتذكر أن كثيراً من شعر مظفر لا يستوي إلا ضمن البناء السيمفوني للقصيدة، فشيء كشتائمه مثلاً ” أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة “.

إقرأ ايضاً: «إشتباك دستوري» بين عون وميقاتي على «إدارة الفراغ»..وعهد العتمة «يُعمي» اللبنانيين!

لا يؤخذ إلا بوصفه لحظة من التصاعد النغمي والعاطفي للنص. لكن هذا الجنوح ظلم مظفر النواب كثيراً، فبينما كان يمكن لأداء مظفر السيمفوني أن يترك في الشعر طبعة فعلية، توقف كثيرون عند شتائمه وبدا هذا الشعر بالنسبة لهم فظاً مبالغاً في شعبويته، والأرجح أن مظفر في أشعاره بعد “وتريات ليلية” مجموعته الأساس استسهل هذا الأداء المباشر فتحولت أشعاره أو بعضها إلى خطب منظومة، وبدا أن وظيفتها التعبوية تغلب على فنيتها، هذا يظلم مظفر، فالذي يعود إلى مطوّلته “وتريات ليلية” يجد أن التعبوية تندرج في هذا البناء السيمفوني، وأنها لذلك تأتي في لحظتها، أو أن النشيد المتصاعد يصل إليها فلا تبدو لذلك نافرة ولا غريبة.

بل إن في مطوّلة وتريات ليلية ما يبدو مفارقاً تماماً للتعبوية والتحريض المباشر، ففيها مقاطع مخملية يتموج فيها الحس والرغبة والشهوة والفضاء الجنسي. هذا ما يبدو جديداً تماماً في الشعر العربي. تبدأ مظفر النواب وتريات ليلية، من ليل الرغبة والتحسس والحسّ الجنسي ودبيب الشهوة في العروق والمخيلة الجنسية.

وصبايا فارس يغسلن النهد بماء الصبح فيرتجف النهد كرأس القط من الغسل

في مطوّلة وتريات ليلية ما يبدو مفارقاً تماماً للتعبوية والتحريض المباش، ففيها مقاطع مخملية يتموج فيها الحس والرغبة والشهوة والفضاء الجنسي

ويستطرد ليتكلم عن نهد يحكم ككسرى في الليل، ليست هذه المقاطع قليلة في النص وليست هذه القدرة على الدمج بين ليل التحسس والرغبة المادية والخيال الموضعي نادرة في القصيدة، ففيها مقاطع نشعر بها جسديا ونحس أنها تجري في مسامنا وأعصابنا، والأرجح أن الشعراء لم يغفلوا عن هذه الناحية، إذ اننا نلاحظ أثر وتريات ليلية في جزء من النتاج الشعري الذي تواقت مع القصيدة، بل إننا نجد أصداءها وبناءها اللولبي ومعادلاتها الموضوعية إذا شئنا أن نستعيد المصطلح الإليوتي، نجد ذلك في بعض الشعر الذي نتج وقتها، إلا أن شاعر “وتريات ليلية” لم يتابع مسيرتها، وتوقف عند ما هو استفزازي وتعبوي فيها. لقد أكثر بعدها من شتائمه ومن سخطه واستفزازه فبقيت وتريات ليلية أشبه بجسر مقطوع، بقيت لذلك وحدها، وتستحق بجدارة أن نعيد قراءتها مراراً وتكراراً.

السابق
لماذا تواصل إسرائيل استهداف طرطوس الواقعة ضمن الحماية الروسية؟
التالي
الحرب على المخدرات مستمرة..إحباط عملية تهريب من لبنان إلى سوريا!