الحوار مع حزب الله: نزال من دون قواعد!

جنبلاط وحزب الله

لم تكن هناك جبهةٌ مَرصوصةٌ أو قَيد التشكّل في لبنان ضد “حزب الله” حتى يُعتَبَر خروج رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عليها مُفاجِئًا وانقلابيًا. سبقَ للرجلِ أن غادرَ صفوف تحالف “14 آذار” واختارَ منطقةً مُحايدةً وسط ذهولِ حُلفائه، ولم يعد مذذاك إلى حضن “الحلف السيادي” الذي لم يعد موجودًا، فما جديد الحدث الذي يُقابَل بضجيجٍ مُبالَغ وانفعالٍ غير منطقي.

حكاية “حزب الله” مع جنبلاط باتت رتيبة في صعودها الودود وانهيارها الدراماتيكي، كما في عودتها إلى سكك التعايش والهدوء وتدوير الزوايا. وحين يعتبر الحزب أن تاريخه مع المختارة يختلف جذريًّا عن تاريخه مع معراب وزعيمها سمير جعجع، فإن الحزب الباحث دومًا عن شرعية بيتية لبنانية تُبرّرُ سلاحه، وجدت في مواقف جنبلاط مرارًا تفهّمًا، ولو مُتحفّظًا، لم تجده لدى أطرافٍ لبنانية أخرى.

اقرأ أيضاً: جنبلاط – «حزب الله».. «ألف قلبة ولا غلبة»!

سبق لزعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري أن نظّر لعودته إلى السياسة في لبنان، بعد سنوات هجرته إلى السعودية، في العام 2016 لبدعة “ربط النزاع” مع “حزب الله”. سبقه جنبلاط إلى هذه المقاربه في آب (أغسطس) 2009 حين غادر تحالف “14 آذار” وأعلن أن وجوده في هذا التحالف “كان بحكم الضرورة الموضوعية ولا يُمكن أن يستمر”. حينها احتفظ بهامش مُناورة لا يجعل منه مُمانعًا رُغمَ مغادرته المعسكر السيادي وأحيانًا التبرّؤ من بعض شططه. وإذا ما قادت بدعة الحريري إلى خروجه من السياسة هذه الأيام من دون أي رأفة من طرف الحزب، فإن جنبلاط يُدرِكُ منذ تجربته إبان غزوة “7 أيار/مايو” 2008 أنه إذ يُجاري الحزب لكنه لا يأمَن ولن يأمن له.

المُبالغة في إطلاقِ ردودِ فعلٍ مُستَهجَنة لـ “فعلة” جنبلاط في استقبال وفد “حزب الله” في “كليمنصو” توفّر للزعيم الدرزي فُرصةً للعبِ دورٍ في مُقبلِ الأيام لا يمكن أن تلعبه شخصية سياسية أخرى. “السنيّة السياسية” مُربَكة حائرة ضائعة لا تَجِد لها تموضعًا مُقنعًا. “المارونية السياسية”، بشقّيها المتمثّلَين أساسًا بـ “التيار الوطني الحر” وحزب “القوات اللبنانية”، حادة الاستقطاب في الموقف من “حزب الله” ولا يمكن أن تُشكّلَ فضاءً حاضنًا لأيِّ تسوية. وحده جنبلاط الذي صار تياره مُحتَكِرًا لـ”الدرزية السياسية” بعد أن “أبادت” الانتخابات النيابية خصومه، قادرٌ على التطوّع لشغل وظيفة يقبلها الحزب، وربما يحتاج إلى التعامل معها، وتقبلها الأطراف اللبنانية المُكرَهة جميعها على الذهاب إلى التسويات.

يُغادِرُ جنبلاط حقبة الحملة الانتخابية التي تحتاج عدّةَ شغلٍ تُبرّر سلسلة المواقف المنتقدة لـ”حزب الله”. لم يحتكر تلك العدّة وحده، فقد تمّ استخدامها من جانب كل الكيانات التي استدعت العصبيات لاستدراج الأصوات. الحزب نفسه لم يوفّر مناسبة لإخراج عدّته المُمِلّة من تخوينٍ للخصوم وربط مواقفهم بالسفارات ونسب مراميهم إلى خطط إسرائيلية. انتهت الانتخابات إلى ما انتهت إليه، وعاد نادي الحاكمين للتذكير بأن البلد لا يُسيّر بالأغلبيات بل بالتسويات، ومن يفرض عادة التسويات هو الطرف القوي.

الطَرَفُ القويّ هو “حزب الله”. وليست هناك عواملُ داخلية ولا خططٌ وضغوطٌ ومساعٍ خارجية تُقوِّضُ غلبة الحزب على الحياة السياسية اللبنانية. فإذا ما تعلّق الأمر بترسيم الحدود مع إسرائيل، أو مستقبل التنقيب عن الطاقة في مياه البلد، أو صيرورة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وبالتالي هوية لبنان الاقتصادية المقبلة، أو مواصفات رئيس الجمهورية المُفترَض انتخابه خلفًا لميشال عون، فإن للحزب قولًا إن لم يكن القول الفصل.

قد يجوز التشكيك في قدرة “حزب الله” على إنتاجِ سياسةٍ لبنانية لا تكون مُرتَهَنة لأجندة طهران وسياساتها الخارجية. هنا تُطرَحُ أسئلةٌ حول نجاعة هذا “الحوار” الذي يذهب إليه جنبلاط مع الحزب والذي يدافعُ عنه بعصبية وتبرّم من منتقديه. وما تسرّب في صحافة لبنان بشأن أسئلة جنبلاط لوفد الحزب حول مُسَيَّرات كاريش والحرب المُحتَمَلة والعلاقة مع صندوق النقد الدولي وانتخاب رئيس للجمهورية، يفرض تساؤلات آلية حول ما إذا كان جنبلاط يستوضح نوايا طهران من خلال الحزب في بيروت.

يُلاقي “حزب الله” ما يوصف جزافًا بالتحوّلات لدى جنبلاط، والطرفان يستنتجان تحوّلات مُساعِدة في الإقليم. الحوارُ الإيراني- السعودي يتقدّم ويَعِدُ برفعِ مستوياته السياسية. تمّ تبريد التخاطب بين البلدين وتراجعت حدّة الردح بينهما. أعادت الكويت سفيرها إلى طهران، فيما أعلنت الإمارات خططًا لإعادة سفيرها إلى هناك. خطابُ الأردن بدا في الآونة الأخيرة أكثر تودّدًا لإيران وسط أنباء عن حوارٍ جارٍ بين البلدين برعاية بغداد. ناهيك بأن حرب أوكرانيا وقضية النزوح السوري وتحوّلات أنقرة حيال دمشق وظهور أعراض اصطفاف روسي-صيني قد يمتدُّ إلى دولٍ أخرى، تُرجّحُ توجّهَ المجتمع الدولي لتبريد “ساحة” لبنان وتشجيع تسوية بما تيسّر وتَوَفَّر.

على هذا لا يبدو أن “حراك” جنبلاط يُعاكِسُ توجّهاتٍ عربية، سعودية بالأخص. ما زالت الرياض وحلفاؤها على المواقف في الدفع باتجاه الإصلاح ودعم الدولة وجيشها ولعب أدوارٍ حَذرة في لبنان وتقديم الدعم الإنساني. وما زالت الرياض وبقية العواصم العربية تنأى بالنفس عن أيّ تدخّلٍ داخل اللعبة السياسية اللبنانية المحلية. وإذا كان من حقّ السعودية وغيرها اتخاذ مواقف من “حزب الله” ردًّا على مواقف الحزب وسلوكه ضد السعودية ودول الخليج، فإن جنبلاط، الذي قد لا يحظى حراكه برعايةٍ سعودية-خليجية، قد يجد لدى أطرافٍ دولية، لا سيما فرنسا، دعمًا وتشجيعًا للدفع باتجاهِ حلِّ ما لا يمكن إلّا أن يجدَ له أصداء مُرحّبة لدى البيئة العربية الحاضنة.

رمى جنبلاط كرة، لكن الكرة لم تعد في ملعبه، ستَجولُ طويلًا قبل أن تُصادِفَ مرمىً مُناسبًا. حوارُ مُتعادِلي القوة يصل إلى نقطة التوازن، لكن الحوار مع الأقوياء، خصوصًا مَن أعلنوا أخيرًا أن تكليفهم إلهي، ينتهي عادة إلى ضريبةٍ تفرضها موازين القوى بعيدة من أيّ توازن.

السابق
ولعت على طريق المطار.. اشتباكات بالأسلحة الرشاشة وانتشار مسلّح
التالي
بعدسة «جنوبية»: احتجاجات في بيروت.. ومطالبات بقانون إيجارات عادل