الطفولة ضحية أناشيد إيديولوجية تطلق عنان العدوانية!

الطفولة

تكتسب الطفولة أهميّة كبيرة في حياة الكائن البشريّ باعتبارها مرحلة تؤسّس لبنيته النفسيّة، وتحدّد أحداثها ومُعاشاتها التي يختبرها الطفل مدى سويّة حياته وتؤثّر في مرونتها ” resilience”. وبمعنى آخر، كلّما تعرّضت حياة الطفل التي تتّسم بالهشاشة والحساسيّة والقابليّة للتأثر بأي حدث، لتجارب مؤلمة، كلّما تعرّضت حصانته النفسيّة للوهن، وقع ضحية اضطرابات أو أزمات في مراحل حياته اللاحقة.

اقرأ أيضاً: النشيد «للإمام الحاضر» لا «الغائب».. الأمين عن «سلام يا مهدي»: استغلال سياسي

وبما أن الطفل هو “كائن اجتماعيّ”، فمن الطبيعيّ أن تؤثّر ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه وقيمه في عملية تنشئته وتَشكّل طفولته. ولا يخفى أن نظام قيم أيّ مجتمع يتحدّد من خلال طبيعة ثقافته سواء كانت محافظة أو متحرّرة.

من الطبيعيّ أن تؤثّر ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه وقيمه في عملية تنشئته وتَشكّل طفولته

من المعروف أن الطفولة تعرّضت، على مرّ السنوات، إلى الكثير من الانتهاكات وأبرزها تلك التي تعود لاعتبارات أو أسباب سياسيّة. فكانت النتيجة أن الأطفال، باعتبارهم الحلقة الأضعف إلى جانب النساء، دفعوا أثماناً باهظة من جرّاء الحروب وويلاتها باعتبارهم الحلقة الأضعف في المجتمع إلى جانب النساء. ويحفل التاريخ بالكثير من الممارسات “الوحشيّة” التي أنهكت حياة الكثير منهم، فتمّ تحويلهم إلى وقود أو أدوات حروب خصوصاً بعد القيام بتسليحهم وتعبئتهم من خلال عملية ما يسمّى بغسل الدماغ عبر تلقينهم الأناشيد الدين- سياسيّة وحشو أدمغتهم بأساطير الأولين، وتحويلهم بالإضافة إلى تعرّضهم للإتجار والاغتصاب، إلى آلات قتل….

يحفل التاريخ بالكثير من الممارسات “الوحشيّة” التي أنهكت حياة الكثير منهم فتمّ تحويلهم إلى وقود أو أدوات حروب خصوصاً بعد القيام بتسليحهم وتعبئتهم

ولسنا هنا في صدد تناول العوامل الكثيرة التي وقفت ومازالت وراء إنهاك الطفولة، لأن النظر إليها يتطلّب اللجوء إلى الكثير من الشروحات والتفسيرات، والتطرّق إلى العديد من النظريات التي تتناولها بالمعالجة، وكلّ منها حسب زاويته، أو بما يتناسب مع طروحاته أو ايديولوجيّته.

وبالعودة إلى ظاهرة التعبئة الدين- سياسيّة التي يتعرّض لها الكثير من الأطفال في المجتمعات، وتتمثّل بالتحديد في تلقينهم أناشيد تجمع بين سطورها الدينيّ والسياسيّ، وتمجّد أبطالاً (قائد، زعيم، إمام، …) ينتمي البعض منهم إلى العالم الواقعيّ، والبعض الآخر إلى الافتراضيّ أو الغيبيّ، أو القدسيّ، وذلك بغية “أدلجة” أو “تدجين” جيل يحمل طاقة جديدة وقوية لينوب مكان الجيل السابق الذي انتهت “صلاحيّته”، إن جاز التعبير، بعد أن تمّ توظيفه واستنزافه.

وما يدعو إلى الاستغراب هو أن من يعمل على هذه التعبئة أو هذا التدجين ينادي بحماية الطفولة ويجاهر بالدفاع عنها في الوقت الذي يستنزفها. وهنا، نلمس فصاماً بين مناداته بصونها من جهة وتحويلها إلى “سلاح” لترهيب الآخر وتخوينه.

يعدّ تلقين الأطفال للأناشيد الدين- سياسيّة ركيزة رئيسيّة في تنفيذ عملية التعبئة التي تسلخ عن الطفولة عفويتها وتنتزع منها براءتها. وكأن المقصود من ذلك كلّه حذف مرحلة الطفولة من حياة هؤلاء لتحميلهم فيما بعد مهمّات “قدسيّة” تتخطّى قدراتهم على تحمّلها. إذ يتمّ إغراقهم في مستنقع من الأوهام وإيحائهم بأنهم أبطال أو منقذون أو مدافعون عن المقدّسات.

ما يدعو إلى الاستغراب هو أن من يعمل على هذه التعبئة أو هذا التدجين ينادي بحماية الطفولة

وفيما يتعلّق بتنفيذ هذا التلقين، فإنه يرتبط بطقوس معيّنة وتتمثّل في عملية التحشيد، وتوحيد الحركات هذا إلى جانب ما يحتويه مضمون النشيد من عبارات خاصة تؤدي دورها في عملية الأدلجة.

بالنسبة إلى عملية التحشيد، فإنها تشكّل ميكانزماً أوليّاً لعملية التعبئة. ومن مفاعيلها أنها تمدّ الطفل بسبب اندماجه بوحدة جماعته وايديولوجيّتها بشعورٍ كبيرٍ بالقوة وبميل عدوانيّ نحو الآخر المختلف. وبمعنى آخر، فإن الحشد يوفّر له الحماية، فيطلق العنان لعدوانيته، وعلى هذا النحو الاستلابيّ يخسر الطفل فردانيّته أو هويّته النفسيّة الخاصة، واستقلاله الذاتيّ، ووعيه الفرديّ، ممّا يجعله “تابعاً” ومرتَهناً، عاجزاً علن تصوّر نفسه بعيداً عن الالتصاق بجماعته.

وتأتي الحركات الموحّدة لتؤسّس لعملية “تجنيد” الأطفال، وكأن المطلوب منهم تبنّي سلوكاً يحاكي سلوك الرجال الآليّين أو الروبوتات. فنجد أنفسنا أمام ظاهرة “فاشية” بامتياز، يعزّزها توحيد “الزيّ”. ولا يخفى ما للتدريب على توحيد الحركات من إثارة الحماسة في صفوف المتلقّين، فيسهم أكثر فأكثر في حفظ كلمات النشيد وإجتيافها باعتباره يفرض نوعاً من الديناميكيّة على عملية التعبئة ويمدّها بالفعالية.

وعلى هذا النحو الاستلابيّ يخسر الطفل فردانيّته أو هويّته النفسيّة الخاصة واستقلاله الذاتيّ ووعيه الفرديّ ممّا يجعله “تابعاً” ومرتَهناً

أما فيما يتعلّق بما يحويه النشيد الدين- سياسيّ، فإن عباراته تصبغ بصفة الالغائيّة، لأنها تعمل على إلغاء الذات وتدميرها إلى درجة كبيرة، كُرمى لإرضاء الزعيم أو القائد أو الإمام…والتضحية بها من أجله. وغالباً ما تدفع العبارات أو الكلمات الأطفال إلى الإحساس بالذنب في حال شعروا بالتقصير في حبّهم لبطل النشيد. وكأن هناك قصاص ينتظرهم من الله. ولمَ لا؟… لأن بطل النشيد ومحوره بالنسبة إليهم يجسدّان الله على هذه الأرض!… وهو المنقذ!…

ويقع الأطفال ضحايا ازدواجية تولّد لديهم شعوراً بالعجز والإحباط. إذ يخافون، من جهة، الابتعاد عن “الخط” الذين أُلزِموا به نتيجة شعورهم بالذنب وما يترتّب عليه من عقاب “إلهيّ” ويريدون، من جهة أخرى، التفلّت من الرابط الانصهاري واستعادة ما فقدوه من حياتهم، أي استعادة طفولتهم. بمعنى آخر، فإنهم يعيشون صراعاً بين الالتزام والتحرّر.   

غالباً ما تدفع العبارات أو الكلمات الأطفال إلى الإحساس بالذنب في حال شعروا بالتقصير في حبّهم لبطل النشيد

ولا بدّ من التطرّق إلى نقطة أساسيّة وحساسة أيضاً في تناول مسألة التعبئة الدين – سياسيّة، وتتبدّى في أن بطل النشيد (إمام، أو زعيم سياسي) يحلّ محلّ الأب، وسلطته تنوب مكان سلطة هذا الأخير. إذ يتحوّل هذا البطل إلى موضوع تماهٍ للطفل بدل الأب. ولا يخفى ما لوجود الأب في حياة الطفل من داعم لاستقراره النفسيّ وتوازنه العاطفيّ. 

كأن هناك “بيدوفيليا” فكريّة تطبق على طفولتهم وتنهكها بعد ارتهانها

في المحصّلة، تتمثّل عملية التعبئة الدين – السياسية في عملية استلاب بحيث يتمّ إقحام الأطفال في عالمٍ فوضويّ، فيجدون ذواتهم عاجزين عن إنقاذ أنفسهم من متاهة كبيرة.  وكأن هناك “بيدوفيليا” فكريّة تطبق على طفولتهم وتنهكها بعد ارتهانها.

خلاصة القول، تعدّ الطفولة مرحلة زمنية ممتعة من حياة الفرد، ويحقّ للطفل أن يعيشها بعيداً عن أشكال الصراعات كافة، سواء كانت أسريّة أو دينيّة أو سياسيّة…. كما يجب التعامل معه على أن يمتلك شخصية مستقلة ولا يجوز إقحامها في حسابات لا ذنب له فيها.  

السابق
الموت يغيب صلاح الحركة.. هذا موعد مراسم الدفن ومواعيد تقبل التعازي
التالي
هذا ما جاء في مقدمات النشرات المسائية ليوم الاثنين 18/07/2022