اليوم الثالث من مذكرات احمد بيضون.. ويروي ما حصل معه خلال الاجتياح الاسرائيلي

احمد بيضون

في تتمة لما حصل معه في بنت جبيل خلال الاحتلال الاسرائيلي منذ ٤٠ عاماً، تابع الباحث والمؤرخ احمد بيضون ما حصل في منشور عبر حسابه على “فايسبوك”.

وقال: “في نحوِ العاشرةِ من صباحِ اليومِ الثالث، تَسَلَّمَنا العسكَرُ الإسرائيلي. جاؤوا في سيًارةِ جيبٍ وشاحنةٍ وقيّدوا أيدينا واحداً واحِداً وراءَ ظهورِنا بالقيدِ البلاستيكيِّ المعلومِ الذي يشتَدُّ عَضُّهُ للرُسُغينِ كلّما حاولتَ إرخاءه ُ عنْهُما أو حلْحَلَتّهُ، وعَصّبوا عيونَنا بخِرَقٍ بيضاءَ وأصعدونا بهُدوءٍ إلى الشاحنة. كانَ واضِحاً أنّ أوانَ الرفاهيّةِ قد انقَضى…
كانت العصابةُ البيضاءُ تَشِفُّ عن أشباحٍ للبشَرِ والأشياء. فرُحتُ أتّفَرّسُ في طريقِ الناقورة التي سَلَكَها موكِبُنا وهَمّي، مرّةً أخرى، ألّا نكون متوجّهينَ إلى معتقَلٍ إسرائيليٍّ ما… إلى أن لاحَ، بعدَ مسيرةٍ طويلةٍ، شَبَحُ البحرِ العريض. وحينَ انعطَفَت الشاحنةُ نحوَ اليمين أدركتُ أنّنا متّحهونَ نحوَ صورٍ لا نحوَ الناقورةِ فهَدَأَ خاطِري.

سِرنا طويلاً على الطريقِ الساحِليِّ وتجاوزْنا صور بمسافةٍ معتَبّرةٍ قبلَ أن ننعطِفَ نحوَ اليمينِ مَرّةً أخرى فخّمّنْتُ أنّنا نغادِرُ ساحِلَ الحنوبِ إلى داخِلِه ولَكِنْ تعذّرَ عليّ بعدَ ذلكَ أن أتعَرًفَ شيئاً من معالِمِ الطريق.
حَطَطْنا رِحالَنا في برِّيّةٍ فسيحةٍ بدا أنّ أشغالاً ضخمةً تجري فيها على عجّلٍ لأنّ هديرَ الجرّافاتِ والمولِّداتِ كانَ يصُمُّ الآذان وكانت أشباحُ مستوعِباتٍ أو غرفٍ جاهِزةٍ تظهَرُ لنا هُنا وهناك. لم نعْلَم أنًنا في أنصار ولا أنّ الذي كانَ يُنْشأُ هناكَ سيُدعى “مُعْتَقَلَ أنصار” إلّا بعدَ مُدّةٍ من إفضاءِ مِحْنَتِنا تلكّ إلى نِهاية. إذ ذاكّ عّلِمْنا أنّنا أُعطينا شرّفّ المشاركةِ في التدشين!

أمِرْنا بالجُلوسِ في العَراءِ على الأرضِ تحتَ شمسِ الظهيرةِ الحارقة. كانت حارقةً إلى حدٍّ شّعّرتُ معهُ أنّه يَسَعُها أن تقتُلَ هذا أو ذاكّ من بينِنا إذا امتَدّت الجلسةُ ساعةً من الزمن. ولم يطُل الأمرُ حتّى بدأَ الجالسُ بحانبي (وكانَ شابّاً حليقَ الرأسِ) يبكي بصوتٍ عالٍ ويرَدًِدُ أنّه مريضٌ وأنّه سيموت! حينذاكَ فطنتُ إلى أنّ الكيسَ ما يزالُ في حوزتي وفيهِ المنشفة! فأعطيتُهُ المنشفةَ… ولا أعلّمُ اليومَ كيفَ أخّذّها منّي ولا كيفَ وضعّها على رأسِه، ولكنّ هذه المعجزةَ حصّلَت! بل إنّ المنشفةَ أخَذَت تَدورُ فيستعمِلُها الواحدُ دقائقَ ويسّلِّمُها إلى جارِه. هكذا طالَ غيابُها عنّي وبَدا أنّ الأصحابَ نسوا أنّي صاحبُ هذا الجهازِ الدفاعيّ الخارق… حتّى كادَ يغمى علَيَّ فأمرْتُ من كانت على رأسِهِ برَدِّها إليّ فوراً: وهو ما كان!

بعدَ فِقْرةِ التشمُّسِ تلكَ انتَقَلْنا إلى فقرةِ التّمارين. أِمِرْنا بالوقوفِ دفعةً واحدةً. ولم يكن وارداً أن أتمكّن من القيامِ عن الأرضِ بلا استنادٍ إلى إحدى كَفّيّ، على الأقَل، وكانَ القيدُ يُبْطِلُ هذا الإمكان. كانّ ذلكَ عجزاً في تكويني لا أعرِفُ سبَبَهُ إلى اليومِ وإن كنتُ أخَمًنُ أنّ لهُ علاقةً بقدَمَيَّ المسطّحَتّين. هكذا قامَ الجميعِ ولَمْ أقُم. سألّني المدّرًبُ عن السببِ فقُلْتُ لا أستطيعُ القِيامَ ويدايَ خّلْفَ ظهري. ولَعّلّهُ ظَنّ أنّني أحتالُ لفكّ قيدي فجَلَدَني بسَوْطٍ كانَ في يَدِه شعَرْتُ لقسوتِهِ أنّهُ معدَنيّ. أصابتِ الضربةُ خاصِرتي فصرَخْتُ وقلْتُ إنّني لن أستطيعَ القيامَ هكذا ضُرِبْتُ أمْ لمْ أُضْرَب. فكانَ أنْ تلَقّيتُ جَلْدةً أخرى أصابت إبهام يُسْرايَ المقيّدةَ فكرّرتُ القولَ أنّ هذا لن ينفع. إذ ذاكَ تقدّمّ منّا عسكريٌّ آخر لم أكُن شعّرْتُ بوجوده وأشارَ إلى المدرًبِ بالكفِّ عن ضربي فكَفّ وبقيتُ جالِساً. بل إنّ المدرِّبَ اضطُرَّ إلى مُساعَدتي على النهوضِ حينَ دُعيتُ إلى التحقيق!
تراءى لي المُحقّقُ من خلفِ عصابتي رجلاً ضخماً يلبسُ قميصاً مدنيًاً أبيضَ اللون قصيرَ الكُمّينِ وأمامهُ طاولةٌ كبيرة. وجدتُ شبّحهُ شبيهاً بشبَحِ شارون وكان يُظِلُّه ما بدا لي خيمةً كبيرةً واجهتُها مفتوحةٌ على وسعِها. وبَعْدَ أن أخرجَ معاونٌ لهُ ما في جيوبي (ولم يكن بقي فيها سوى بعضِ المالِ وتذكرةِ هويّتي وبطاقتي الجامعيّة) ووضَعَها بين يدي المحقّق دار بينَنا الحوارُ التالي، أستعيدُهُ على التقريب:

اسمك؟

أحمد بيضون
اسم أبوك؟

عبد اللطيف

اسم جدّك؟

محمّد

شو بيشتغل جدّك؟

جدًي متوفّي من زمان وكان مزارع

شو بيشتغل أبوك؟

بَيّي نائب

شو يعني نائب؟

عضو بالكنيست اللبناني!

آ… وين أبوك هلّأ؟

بيًي وأمًي بأميركا بيزوروا إخواتي اللي هونيك

إنت مع مين خملت سلاخ؟

ما حملت سلاح

مين بيدفع لك فلوس؟

الدولة اللبنانيّة: أنا إستاذ بجامعتها.

إستاذ شو؟

علوم اجتماعيّة

أوكي دكتور أخمد! أنا شفت بطاقتك! شو السبب إنت هون؟

ما بعرف! يمكن واحد من سببين. أوًل شي بيّي بيشتغل سياسة وفي ناس بالمنطقة بيحبّوه وناس ما بيحبًوه. ممكن أخصام إلو بدهن يئذوني حتّى يئذوه. تاني سبب أنا كنت بتنظيم شيوعي وتركتو من زمان. في كمان ناس بيكرهو الشيوعيّين، بيجوز بدهن يئذوني.

دكتور أخمد، أنا شيوعي!

آ…بعرف في حزب شيوعي بإسرائيل

دكتور أخمد، إنت ما بيخاف. إنت اليوم بينام عند مرا واولاد. مع السلامة!

شكراً! بقدر قول شي بعد؟

تفضّل دكتور أخمد

نحنا جينا لهون عشرة ورفقاتي ولاد بلدي بعرفهن ما حدا منهن كان مسلّح وما حدا بياخد فلوس من المنظّمات. بسّ هيك!

أوكي، مع السلامة!

لاحقاً راحَ بعضُ “الزُمَلاء” يروونَ (وما زالوا إلى اليوم!) أنّني “اشتَرطتُ” على المحقّقِ الإفراجَ عن الجماعةِ كلّها ل”أقبَلَ” أن يُفْرَجَ عنّي! وهذا هُراءٌ بطبيعةِ الحال، إذ لم أكُنْ في موقِعِ اشتِراطٍ ولا قبولٍ ورفض. وإنّما هي شهادَةٌ جازفتُ بها وكان للمحقّقِ أن يعدّها شهادةَ زورٍ لو كان في يدِهِ ما ينقُضُها. وهي كانت شهادَةَ زورٍ فعلاً لجهةِ أنّني لم يكن لي سابقُ معرفةٍ بمعظمِ هؤلاءِ الزملاءِ ولا كنتُ أعرفُ شيئاً عن ماضيهم السياسيِّ أو العسكريً على التحديد.
فكّ معاونُ المحقًقِ قيدي ثمّ أعادَ تقييدي من الأمام وجعلَ القيدَ أرأفّ عَضّاً للرُسُغينِ ممّا كانَ وأبقى العصابةَ على حالِها وزوّدني تصريحاً بالعودةِ إلى بلدتي ورَدَّ إليّ ما كان في جيوبي غيرَ منقوص. بعدَ ذلكَ، أُلْحِقتُ برفاقي تحتَ خيمةٍ من الشبَكِ ترُدُّ عَنّا بَعْضَ وهجِ الشمسِ لا كلَّه. وبَعْدَ قليلٍ جاءَ من يُبْلِغُنا أنّ علينا انتظارَ وصولِ الشاحنةِ التي سترُدّنا إلى ديارنا فسَرّنا ذلك غايةَ السرور.

على أنّ هذا الانتظارَ طال! وأخذَ يمُرُّ بنا عسْكرٌ يحاولونَ محادثَتنا بلغاتٍ مختلفة: بالإنكليزيّةِ أو الفرنسيّة أو العربيّةِ المشوبةِ باللكنةِ المعلومة. كانوا يسألون من أين نَحْنُ وماذا نفعلُ في هذهِ الحياة. وكانَ أحدُهم يمُرّ كلّ ساعةٍ تقريباً ليسأل: “مين بدّو بيدَخّن؟ مين بدّو بونبون؟ مين بدّو بيشُخّ؟”
وذاتَ مَرّةٍ أجبْتُه: “أنا بَدّي بيشُخّ” فأخذَني من يدي وقادني نَحْوَ المَشَخّةِ البعيدةِ التي كانت عبارةً عن ألواحِ خشَبٍ مرصوفةٍ فوق حفرةٍ وتنفَرِجُ عن شِقٍّ يتعيّنُ التصويبُ إليه. ولم نكن وصلنا حين سألَني العسكَرِيُّ (بفرنسيّةٍ لا غُبارَ عليها، هذه المرّة) “ما رأيُكََ بالإنسانِ الإسرائيلي؟”
باغَتَني السؤالُ فوقفتُ حتّى تمالَكتُ نفسي وأجَبْتُه “تَرى في أيِّ موقعٍ أنا وفي أيِّ موقِعٍ أنتَ وتَعلَمُ إلى أين نَحْنُ ذاهبان فهل يسَعُني أن أبني على غيرِ هذا رأياً في الإنسان الإسرائيلي؟” لزِمَ العسكريُّ الصمتَ وأكْمَلْنا الطريقَ إلى المشَخّة.
هبطَ المساءُ ولم تحضُر الشاحنة. ثمّ جاءَ من يبلغُنا أنّها لن تحضُرَ حتّى الغدِ وأنّنا سنبيتُ ليلَتَنا “في ضيافةِ جيشِ الدفاع الإسرائيليّ” وسيُقَدّمُ إلينا عشاء. وبَعْدَ قليلٍ جاءَ العّشاءُ : وكان عبارةً عن رغيفٍ ضيّقٍ عليهِ قرصُ كفتةٍ وحيدٌ رحنا نتجادّلُ في مساحتِه ومعهُ حبّةُ بندورة اتّفَقْنا على أنّ الوحدةَ المناسبةّ لوزْنِها هي الملًيغرام! قلْتُ: سَقْياً لتُرابِكِ يا عيثا الشِعْب!
ومَعَ تقدُّمِ الليلِ راحت تتناهى إلى أسماعِنا جلّبةٌ مصدَرُها جماعةٌ أخرى بعيدةٌ نوعاً. كانَ مّن بَدا مُرْشِداً سياسيّاً يصيحُ بالجماعة: “عرفات مَنْيَك! يعيش بيغن!” فتَرُدُّ الجماعةُ بصوتٍ واحدٍ: “عرفات مَنْيَك! يعيش بيغن!” وهكذا دواليكََ إلى أن أذِنَ اللهُ بالفرَج. كانَ في جعبتي شكوكٌٌ قديمةٌ في قدرةِ إسرائيل على ضمانِ موقِعٍ ومستقبلٍ مستقِرًينِ لنَفْسِها في المحيط. ولكن لم أكُنْ آملُ أن أجدَ لشُكوكي تلكَ مرتكَزاً لهُ صَلابةُ هذا الإسفاف.
لفَفْتُ حذائي بالمنشفةِ واتّخَذْتُه مخدّةً ونمت. كنتُ قد بدَأتُ أعتقِدُ أنّ مَزايا هذهِ المنشفةِ لا حَدَّ لها فيسعُني مَثَلاً أن آكُلَها إذا جعتُ!
كانت تلكَ ليلةَ سعادةٍ في موقِعِ بؤس. فكّرتُ في أسرتي وأنا أغالِبُ النعاسّ واستذكرْتُ خيمةً كنتُ أنصُبُها في بستانِ أهلي وأقضي الصيفَ فيها أيّامَ كنتُ أغازِلُ العشرينَ وجارتي… كانَت نسائمُ الليلِ في الصيفِ العامليِّ هي نَفْسَها هنا وهُناكَ وكانت تعودُ إليَّ في تلكَ الليلةِ بعدَ فْراقٍ طال…
في الغَداةِ حضَرَت سَيًارتا جيب كبيرتان عوضّ الشاحنة. ولم يرُدّنا الجنودُ إلى ديارنا بالضبطِ بل وجدْنا أنفُسَنا عندّ نزعِ القيدِ والعصابةِ في سوقِ النبطيّة! أهلاً بالنبطيّةِ! ولكنّها كانت شبهَ مقفرة! وكانَ أوًلُ ما استوقَفّنا في السوق حنفيّةُ ماءٍ متًصلةٌ بنربيشٍ وقعنا عليها في محطّةِ وقودٍ كانت مقفلة. وكان هذا جُلَّ المأمول فتَرَكنا الماءّ يغمُرُنا ونحنُ في ثيابِنا من الرأسِ إلى الأخمص. ثمّ رحنا نبحثُ عن سيًارتين عموميّتين ترتضيانِ نقلنا إلى بنت جبيل فوجدنا المطلوبَ ولَكِنْ ببَدَلٍ فاحش.

كانت الرحلةُ مقدارَ ساعةٍ ولكنّ حينَ بلّغْنا حاجزَ بيت ياحون وقَعْنا على المدعو “أبو اسكندر”. مرّت السيًارةُ الأولى بسلامٍ بعدّ التدقيق وكنتُ في الثانية. وما إن نظَرَ المذكورُ في هويًتي حتّى أفتى بأنّ علينا الرجوعَ إلى صور للحصولِ على تصريحٍ بالدُخولِ من “القيادة”. كانَ واضحاً أنّ هذا البائسّ يوليني “عنايةً” خاصّةً وأنّ رفاقي يوشكون أن يتأذّوا بجريرتي. قلتُ: نَحْنُ كُنّا عشرةً أطلِقّ سراحنا في النبطيّة وأعطينا تصاريحَ بالعودة إلى بيوتنا في بنت جبيل وقد أذنتَ لرفاقِنا بالمُرورِ قبلَ دقيقةٍ واحدة وحالتُنا وحالّتُهُم واحدة. تردَّدّ البائسُ لحظةً ثمّ دخل الغرفةَ البائسةَ المحاذيةَ للحاجز، والأرجحُ أنّهُ لم يّسْتَشِر فيها إلّا نفْسَه، وعادَ بعدّ لحظةٍ ليقولَ “تسهّلوا”!
وصلنا إلى بنت جبيل بعّيدَ الظهر. وترجّلنا جميعاً حيثُ شاءّ أوّلُنا النُزولَ وصرّفنا السائقَ وتبادّلْنا التهنئةّ بما حسبْناهُ حُسْنّ الختام.
كانَ علّيّّ أن أقطعَ نحوّ كيلومتر لأّصِلّ إلى البيتِ وكانَ النهارُ قائظاً والشوارعُ شبهّ مقفرةٍ فلم ألتقِ سوى ثلاثةِ أشخاصٍ أو أربعةٍ جالسينّ أو واقفينَ في فّيْءِ منازلهم وبادَلْتُ بعضّهُم تحيّةً صامتة. كانّ منظَري زرِيّاً، لا رّيْبَ، يَزيدُهُ زِرايةً منظرُ الكيسِ وفيه المنشفةُ مثقَلةً بغبارِ المعتقّلِ المجبولِ بمياهِ المحطًّة.
ثمّ كانَ ما لا أريدُ ذكرهُ من أمْرِ اجتماعِ الشَمل…ما أريدُ ذكرهُ أنّهُ ما مضى على وصولي ساعةٌ أو اثنّتان حتّى راحَ البيتُ يشهَدُ حركةً تعاظمت باضطرادٍ وملَأت الأزقّةَ المفضيةَ إليهِ بالسيّارات. بتنا وكأنّنا في موسمِ تعزيةٍ أو تهنئةٍ أعْلَنّا عنه: فحضَرَ من أعرفُ ومن لا أعرفُ من شيبِ البلدةِ وشُبّانِها. وبَدا الجميعُ متقِناً ما يمليهِ الوضعُ القائمُ من قواعد: فلم يطلُبْ أيٌّ من الزُوّار روايةً لِما جرى أو لبعضه، بل اقتُصِرَ الحديثُ على عبارات المجاملة، ولكنّ النصابَ ظّلَّ يتجدّدُ حتّى آخِرِ السّهرة.

كنتُ معتزًاً بعاطفةِ القريبِ والبّعيدِ هذه. ولكن لم يّفُتْني الترجيحُ أنّها ستُزعِجُ الزبانيةَ المُتَحَكمة. فقط كنتُ حائراً بينّ ان أعتبِرَ هذه التظاهُرةَ حمايةً لي وأن أرى فيها تعريضاً.
لم يتأخّر الجواب. ففي الغداةِ بَكّرَ إليّ الداعي المعتادُ للنزولِ إلى المركز عينِه: يا فتّاح يا عَليم! وعلى جاري العادةِ أيضاً، اكتشفتُ أنّني آخِرُ الواصلين. كانَ الحُضورُ تامّاً وكان عقل هاشم في مقعدهِ فأوجَزَ لنا الوضعَ بحزمٍ ولياقة، قال: اجتمعت القيادةُ في الليلةِ الماضيةِ وقَررَت أنّ عليكم الخروج من دولةِ لبنان الحرّ ولكم الذهابُ إلى حيثُ تشاؤونَ خارجَ حدودِها والمهلةُ للتنفيذِ ٢٤ ساعة. ثمّ أضافَ والكذِبُ يقطُرُ من شفّتيهِ: اتّخًِذَ هذا القَرارُ لاعتباراتٍ عامّةٍ وهو لا يّسْتَهدِفُ أيَّ شخصٍ بالذات!
سألتُ: أين يَقَعُ الحدُّ الشَماليُّ لدولةِ لبنان الحرّ؟ قال: بعدَ حاجز بيت ياحون. وكان هذا الحاجز يبعُدُ عن مجلِسِنا نحوَ ٦ كيلومترات!
صمّمنا، عزّة وأنا، على الخروجِ من البلدة في النهارِ نفسه (٢٥ حزيران) فلا نستنفدُ مُهلةً لا بغيةَ لنا فيها بل نُيَمِّمُ شطرَ صيدا حيثُ خُؤولةُ عزّة وبيوتُهم واسعةٌ والقلوبُ أوسع! وكانَ آخر من زارَنا أبو فاروق، ابنُ عمّي الكبيرُ، وكانَ رجُلاً مسِنّاً أمضى معظمَ عمرهِ مغترِباً في كوبا ثمّ في الولايات المتّحدة. وجَدَنا أبو فاروق نجمعُ متاعَنا وذَكرْنا لهُ ما جَرى… فجَلَسَ وحَجَبَ وجهَهُ براحَتّيهِ وأجْهَشَ بالبُكاء.
(انتَهى)”.

تذييل:
عانَدْتُ أربعينَ سنةً رغبةَ الأقربينَ الذين رويتُ لهم هذه الوقائعَ في أن يقرأوا القصّةَ منشورة. وكانَ الحياءُ داعي هذه المعاندة. كنتُ (ولا أزالُ) أستَحْيي أن يُقارَنَ ما جَرى لي بتضحياتِ آخَرين. وكُنْتُ أخشى أيضاً نسبتي إلى تشَدّقٍ طالَما ازدرَيْتُهُ عندَ آخَرينَ أو عندَ مُريديهِم.
أمّا اليومَ وقد غارت هذه الوقائعُ في ماضٍ باتَ بعيداً وقد بلغتُ من عمري مبلغاً أصبحتُ فيه لا أعْبأُ بما قد يضافُ إلى سيرتي وما قد يُهمَلُ منها: فقد صَمّمتُ على إحياءِ الذكرى الأربعين لهذه الأيًامِ بسَرْدِ وقائعها. عزَمْتُ على هذا وفي خاطري ثلاثةُ أغراض: ١- مجَردُ الاستمتاعِ بالقَصّ. ٢- التلبيةُ المتَأخّرةُ لرغبةِ أحبّاءَ لي. ٣- وضعُ. إشاراتٍ تنطوي عليها هذه الوقائع بتصَرّفِ قُرّاءٍ قد يجدونَها داعيةً إلى التأمّل.
فسّلاماً!

السابق
مُجدداً.. يتجوّل عارياً في طرابلس!
التالي
اليكم أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الأربعاء في 22 حزيران 2022