حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: حقائق وتحديات ومهمات التغيير في لبنان

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

شكلت الانتخابات النيابية اللبنانية التي جرت في ١٥ ايار ٢٠٢٢ حدثا مفصليا في تاريخ لبنان، فبعد مرور شهور وسنوات من اندلاع ثورة تشرين سنة ٢٠١٩، وبعد الفعاليات التي نزل فيها مئات الاف اللبنانيين الى الساحات، رفضا لمنظومة الفشل والفساد والارتهان الى الخارج، وبعد ان اخذ علما وأدرك الشعب اللبناني بأن حكامه وزعماء احزابه الطائفية وكبار الشريحة الاوليغارشية الميليشياوية في الطبقة السياسية وادارة النظام المصرفي اللبناني، قد سرقت ودائعه ومدخراته الوطنية واستباحت الاموال والاملاك العامة، وجرى تخفيض القدرة الشرائية لمعظم شرائح العاملين في لبنان بشكل كارثي، بما دفع اكثر من ٨٥% من اللبنانيين الى ما دون خط الفقر، وبعد ان شلت وانعدمت خدمات المرافق العامة في النقل والاستشفاء والرعاية الصحية، وتأمين الدواء والكهرباء وامدادات المحروقات والطحين والغذاء، وانهارت قطاعات النقل والتعليم والاتصالات، بعد كل ذلك اعتقدت المافيا الحاكمة ان الشعب اللبناني، قد كسرت ظهور افراده، وانه سيذهب الى مواقف اليأس والخيبة، فيستكين للبحث عن خبزه اليومي ودوائه، مرتضيا التسول على ابواب زعمائه صندوقة اعاشة من هنا وعلبة دواء من هناك…

لجأت المنظومة النافذة الى الاعلام المرئي والمسموع، الذي كانت قد تقاسمت محطاته التلفزيونية خلال الوصاية السورية، والى علب الاحصاءات وشركاته، ليروجوا لاستحالة التغيير في لبنان

كما لجأت المنظومة النافذة الى الاعلام المرئي والمسموع، الذي كانت قد تقاسمت محطاته التلفزيونية خلال الوصاية السورية، والى علب الاحصاءات وشركاته، ليروجوا لاستحالة التغيير في لبنان، ولعدم قدرة اللبنانيين على تقرير مصيرهم ورسم مستقبل خياراتهم، وان ثورة ١٧ تشرين لم تكن الا زوبعة في فنجان انتهت أحداثها، وهدأت فعالياتها، وعاد كل مواطن الى قطيع زعيمه معتذرا وخائفا.

وقد جاءت نتائج الانتخابات النيابية لتثبت زيف ونفاق هذه المشهدية، التي تم تزويرها امام اللبنانيين، وامام العرب، وامام دول العالم اجمع، لدرجة ان سفراء دول غربية وعربية اساسية وعديدة ومعنية بالوضع اللبناني، بدأوا يروجون ليس لانتهاء مفاعيل ثورة ١٧ تشرين فحسب، بل لسيناريوهات استيعاب انتصار جديد لحزب الله في لبنان وتجديد اكثريته النيابية.

اثبت نتائج الانتخابات اللبنانية استمرار حالة الرفض للمنظومة وتجذرها في وعي جديد

وقد اثبت نتائج الانتخابات اللبنانية استمرار حالة الرفض للمنظومة وتجذرها في وعي جديد، لدى قطاعات واسعة من الشعب اللبناني، وان ممارسات السلطة القمعية في ضرب الثوار وفقئ عيونهم وتجريد حملات اعتقال لناشطي الثورة، ولجوء ميليشيات حزبية الى اجتياح ساحات الاعتصام وحرق خيم الثورة فيها، والتهديد بالحرب الاهلية واطلاق شعارات طائفية، ان كل تلك الممارسات، لم تنتج الا ثباتا واصرارا هادئا وقويا، على معاقبة المنظومة واضعافها، والسعي الى ترحيلها من مواقع السلطة. ولذلك فقد كشفت الانتخابات حقائق راسخة وطرحت تحديات جديدة واستوجبت مهمات ضرورية وراهنة.

• حقائق اكدتها الانتخابات

  1. اول الحقائق التي ولدتها واكدتها الانتخابات النيابية هي وجود تيار مدني ديموقراطي عابر للمناطق والدوائر والطوائف، يواجه المنظومة بكل اطرافها ومواقعها، ويسعى الى اسقاطها وترحيلها، ويتبنى خيار التغيير السياسي.
  2. الحقيقة الثانية أن هذا التيار وازن ومترسخ في وجدان الاجيال الجديدة، والنخب التي ولدت وتعلمت وانخرطت في الشأن العام بعد نهاية الحرب الاهلية.
  3. ثالث هذه الحقائق ان الناس في عمليات اقتراعها عالجت عجز المجموعات عن صناعة وحدتها، وداوت داء شرذمة الحراك وارتباكاته، واستبقت الناشطين، الى فرز اللوائح الجدية المؤهلة للتغيير، عن اللوائح العائدة لظواهر صوتية او غواصات حزبية، فاختارت الاقتراع المجدي حيث امكن ذلك، وبالتالي فان الناس صنعت الخرق في مواجهة المنظومة، كما صنعت الفرز داخل مجموعات الثورة فأوصلت من يستحق، وهمشت حراك الشخصيات والمجموعات المنتفخة والاقصائية.

اول هذه التحديات هو الارتقاء من المعركة الانتخابية النيابية التي كانت محطة من محطات الثورة، واعادة تكوين السلطة الى متابعة الحراك لتنفيذ المحطات القادمة وانجاز مهماتها

• التحديات جسيمة وملحة
لا يحق لقوى الثورة الاحتفال طويلا، فالتحديات الملحة جسيمة:

  1. اول هذه التحديات هو الارتقاء من المعركة الانتخابية النيابية التي كانت محطة من محطات الثورة، واعادة تكوين السلطة الى متابعة الحراك لتنفيذ المحطات القادمة وانجاز مهماتها.
  2. إن بداية مواجهة التحديات هو قيام كتلة برلمانية من ٢٦ نائبا على الاقل، ( نواب الحراك الجدد مع النواب الذين انحازوا ل ١٧ تشرين) يعكسون تمثيلا نيابيا وازنا كأكبر كتلة برلمانية عابرة للمناطق والطوائف والمذاهب، ومتجاوزة لشتى انواع الانقسامات الأهلية والتاريخية، هي كتلة اطار تنسيق برلماني، يتجاوز الانقسام المسيحي الاسلامي، والخلاف السني الشيعي، كما يتجاوز كافة الشروخ التاريخية، وخطوط الفصل التي طبعت تاريخنا، من خط الشام _ بيروت يوم القائم مقاميتين، الى خط الشرقية والغربية بين الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية ابان الحرب اللبنانية في سبعينات القرن الماضي، الى خط الافتراق بين بين ٨ و ١٤ آذار. ان اطار التنسيق البرلماني يمكن ان يحتوي داخله كتلا برلمانية اصغرعددا واكثر انسجاما وصلابة، لكن وجود الاصغر المتجانس لا ينفي المشتركات العامة مع الاكبر الشامل.
    ان قيام هذا الاطار البرلماني الوطني سيمكن قوى ١٧ تشرين من وضع وتحديد “جدول الاعمال الوطني” للحياة السياسية اللبنانية ومن الدفع قدما بخطوات بناء الدولة المدنية الحديثة، فلا بناء لدولة مدنية الا بقيام قطب مدني برلماني فاعل ومبادر.
  3. اما التحدي الثالث فهو ان يشكل اطار التنسيق البرلماني هذا كقطب مدني، قلب معارضة وطنية شاملة، تضم في صفوفها كل الفعاليات المدنية والمرشحين الذين لم ينالوا مقاعد نيابية او لم ينجحوا على لوائح المعارضة في الانتخابات المنصرمة، بحيث تتكون معارضة تضم كل لبنان بما في ذلك دوائر الجنوب والبقاع وبعلبك وعكار. وتلعب هذه المعارضة دورا رائدا في اعادة صياغة الاجتماع السياسي اللبناني عبر بناء كتلة تاريخية تصنع وتؤسس دولة مواطنة مدنية وحديثة، سيدة على حدودها وداخل حدودها، دولة قانون ودستور ومؤسسات، تحتكر العنف طبقا للقانون، وتقيم العدالة بواسطة سلطة قضائية مستقلة، وتصون لبنان بقوى شرعية مسلحة ومحترفة، وتحترم القوانين اللبنانية كل القوانين وتلتزم احترام الشرعيتين العربية والدولية

لا يكفي ان نحدد خريطة الانتساب والمشاركة في ثورة ١٧ تشرين بل الاجدى والضروري ان نرسم اطارات عملها، وطبيعة ادائها السياسي

• في المهمات واجندة العمل السياسي

لا يكفي ان نحدد خريطة الانتساب والمشاركة في ثورة ١٧ تشرين بل الاجدى والضروري ان نرسم اطارات عملها، وطبيعة ادائها السياسي، وهو اداء يهدف الى اعادة تكوين السلطة عبر بناء سلطة بديلة لتحل مكان المنظومة، وليس الى جانبها، ولكي لا تشاركها مواقع الحكم والنفوذ ولا صفقات الفساد والتنفيعات، معارضة سياسية تسعى لوقف منطق المحاصصة وتقاسم مواقع الادارة ومشاريع الدولة واعمالها كغنائم حرب، معارضة تستبدل نظام تشغيل الدولة واداراتها وملاكاتها وسلطاتها، لا تبغي حصة من السلطة البائدة، بل تقيم سلطتها الشاملة البديلة.

ولذلك فان قيام مؤسسات رديفة وخبيرة لمعالجات الملفات ونقد الخطط والخيارات، ورسم برامج بديلة في السياسات العامة، في مختلف القطاعات والقضايا امر يكتسب اليوم صفة مركزية في اداء المعارضة السياسية، وفي مقاربات نواب المعارضة جميعا في كل الملفات المطروحة، وفي معالجة الازمات وتجديد الخيارات وصياغة البدائل في الاقتصاد والنقد والمال والبيئة والطاقة الخ …

الحقائق ثابتة والتحديات كبيرة والمهمات ثقيلة، وورشة التغيير بدأت ومسؤولية اتمامها ودفعها قدما، هي مسؤولية تاريخية ووطنية من تحملها اعاد للوطن معناه، ومن اهملها سيبقى على رصيف الاهمال.

السابق
سقط ٣٢٤ فردا من قواتها منذ العام ١٩٧٨.. «اليونيفيل» بين جهود فض النزاعات والتخوف من الإنتهاكات!
التالي
كارلوس غصن يدخل ويخرج خلسة من «العدلية».. ماذا عن مصير طلب إسترداده؟!