الجمهورية المهجورة

انفجار مرفا بيروت

لم يكن هناك أحد. الخيم البلاستيكية البيضاء والكبيرة التي نُصبت في باحات مستشفى رفيق الحريري مع بداية حملات التلقيح، ما زالت هنا. لكنها مهجورة الآن، وآثار العواصف التي خلّعتها ومزقت بعض أطرافها، توحي أنها ستظل هكذا مهملة حتى تتحول إلى كومة “ميتة”. الطاولات والكراسي المبعثرة أيضاً كأنها أمام نظري تصير خردة شيئاً فشيئاً.

اختفى الموظفون والممرضون. لا أحد هنا في هذا المكان الشاسع. أتجه نحو المبنى القريب. موظفة تقف عند المدخل متلهّية بهاتفها، وممرضة تمشي بتثاقل صباحي ولا مبالاة. أين مركز التلقيح؟ أسألها. تجيب ببطء: نحن في إضراب من زمان.

مشهد المستشفى على مثال تلك الخيم التي كانت ناصعة ذات يوم قريب، وها هي آيلة للسقوط. خراب عنيد يزحف كقدر لا راد له. إنه مستشفى المدينة وعلى صورتها.
***
اقرأ أيضاً: مع تكرار التفجيرات «الغامضة» في الجنوب..فرضية البصمات الإسرائيلية تتعزز!


كان مجمع “الجفينور” في رأس بيروت، أيقونة عمرانية للمدينة، ورمزاً لنجاح اقتصادي باهر، وتجسيداً لطموحات العاصمة كمركز إقليمي دولي. إنه واحد من أهم نماذج الحداثة في بيروت في أواخر الستينات، بأناقته الهندسية ودوره في عالم الأعمال وشركاتها الكبرى.

لم يُخدش ولم يتأذ تقريباً طوال 15 عاماً من الحرب. واستعاد وهجه في التسعينات، والعشرية الأولى. واليوم، المرور به مقبض للنفس، متاجر مهجورة ومكاتب فارغة. عمال يفككون ديكورات المحال والواجهات كإعلان نهائي عن سيطرة الخلاء والفراغ. في باحته المهيبة ببياضها الرخامي انتشرت بسطات بيع الخضر، فيما العتمة تهيمن على كل طوابقه تقريباً. وبالقرب منه كان الهجران أكثر صراحة في المبنى الذي كان شققاً سياحية مفروشة، وقد أقفلته الشركة الفندقية العالمية التي كانت تشغّله، ووضعت سلاسل معدنية على أبوابه. أقف وأحاول الإنصات لأشباح ماضيه السعيد. صمت وغبار وحسب.
***

كان وسط بيروت للكثيرين منا بعد العام 1998، أي حين ظهرت معالمه الجديدة والمعاد بناؤها، غريباً أو مستجداً ومستعصياً على دورة حياة المدينة وسكانها، أشبه بجزيرة سياحية. مع ذلك، بدأ يفرض نفسه على صورة العاصمة ودورها وعمرانها وتركيبتها الاجتماعية. خصوصاً مع تحوله ميداناً سياسياً عمومياً في ثلاث مناسبات مصيرية: تظاهرات 8 و14 آذار 2005، اعتصام أيلول 2006-أيار 2008، ثم انتفاضة تشرين 2019.

اليوم، يرتجف كل عابر فيه، بل وقد يستغرب واحدنا تحسّره على ما حلّ به إن كان من الذين لم يحبذوا مشروع سوليدير أصلاً. الشعور بالخسارة الفادحة لا يمكن تجنبه. ثمة إيحاء مفزع أن الوسط عاد على نحو تراجيدي إلى ما كان عليه في العام 1990: أرض خراب. لا قذائف ولا رصاص ولا محاربين. إنه “مرض” الهجران الذي فتك بالأبنية والأرصفة والفضاء والساحات الصغيرة المشجرة التي تتبوّر يوماً بعد يوم.
***

المصارف “العدو رقم واحد” للشعب اللبناني الآن، يمكنها أيضاً بلحظة زيارتها أن تكون موضع شفقة. هذا الإهمال الذي يشبه رثاثة الفقر يزحف في داخلها. هذه الكآبة على وجوه موظفيه. هذا الغيظ المكتوم والتوتر بأصوات الزبائن. هذه الإضاءة الشحيحة. هذا العتق في القرطاسية والماكينات والكمبيوترات. هذا الخوف الغامض من شجار ما قد يندلع بأي لحظة. هذه الأكداس من الأموال عديمة القيمة. العدو أيضاً يمكنه أن يكون بائساً.
***

السلوك الجديد في السوبرماركت لا يمكن تحديده ووصفه بدقة. ذاك البريق أو الاحتفال الدائم بالوفرة انطفأ. الزبائن الذي يتجولون فيه كأنهم على حذر من أي إغراء لشراء ما لا لزوم له، كما لشراء ما هو أقل جودة أو مجهول المصدر لبضائع مستجدة تبدو “رخيصة” نسبياً. برادات بأكملها تمت إزالتها. فراغات تكبر في الصالة. كإنما ذاك يذكرنا بتلك الصور عن السوبرماركت في دول الاتحاد السوفياتي قبيل انهياره. كأنما السوبرماركت خسر من اسمه عبارة “سوبر”. براد اللحوم يختصر كل شيء: الضمور والقلّة.

السوبرماركت هو فقرنا الوطني.
***

من المحرج راهناً التكلم عن ثياب اللبنانيين، وهندامهم. كانت الأناقة هي “جهاد اللبنانيين الأكبر” في كل زمن. هي هوسهم القومي. أولويتهم اليومية. كل لبناني حسب قدرته كان يشغله باستمرار مظهره، صورته في أعين الآخرين. وربما بعض التشاوف الذي يحبه اللبنانيون إزاء الشعوب الجارة مصدره ذاك التفنن الدائم بالملبس والذوق وحسن الهندام.

هذا بالضبط ما بدأنا نخسره بسرعة مذهلة في السنوات الأخيرة. وأمام ما هو أهم في الخسائر التي أصابت اللبنانيين حتى الإذلال، بات ترفاً غير لائق التحدث عن الهلهلة التي تغلب على مظهر اللبنانيين في الفضاء العام. مع ذلك، هي الحال الأكثر تعبيراً عن الانقلاب التراجيدي في “نوعية” الحياة.
***

ما نقوله عن المستشفى ينطبق على المطار أو على دائرة حكومية أو فندق. ما نقوله عن المركز التجاري ينطبق على عيادة طبيب أو مزرعة. كل لبنان يقترب ليكون شبيهاً بأرض مرفأ بيروت بعد 4 آب 2020، الحدث “التأسيسي” للجمهورية المهجورة، على مثال قصص التوراة المفزعة.

السابق
انتخابات لبنان… التكليف الوطني في مواجهة التكليف الشرعي…
التالي
الإفطار الرمضاني الأول للقاء المعروفي : رمضان للإنسان ولبنان