وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الانتخابات مناسبة لسيادة المجتمع لا بيعة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

يُعرِّف لبنان نفسه بأنه بلد ديمقراطي، ويؤكد على أن قادته وكل صانعي القرار فيه، يستمدون شرعيتهم من الشعب عبر الإقتراع العام، الذي يحدده نظامه البرلماني، بانتخاب مجلسه النيابي، الذي يقوم بدوره انتخاب رئيس البلاد، ويمنح الثقة للحكومة، ويملك حق محاسبتها.

نتيجة لذلك باتت الانتخابات الدورية للمجلس النيابي، هي المناسبة المفصلية في الحياة السياسية في لبنان، لأنها تحدد وجهة ولون قوى السلطة الممسكة بالقرار السياسي، بل تحدد الجهة المستفيدة من موارد الدولة المتنوعة، بحكم صيرورة الاقتصاد اللبناني اقتصاداً ريعياً، وتحول العلاقة بين السلطة والمواطن، علاقة زبائنية تتقوم بالولاء والطاعة مقابل المنفعة والحماية.

كون الانتخابات النيابية، أهم علامة أو سمة لفكرة الديمقراطية، فإن الانتخابات لا يقتصر هدفها على منح الشرعية لمن هم في السلطة، بل غرضها الأهم هو التأكيد على مرجعية المجتمع الحصري، في صناعة القرار السياسي، وعدم وجود جهة خارجه تملك حق التنصيب الذاتي، أو حق الملكية أو الوراثة أو التوريث لأي موقع سياسي. أي سيادة الشعب، الذي هو مجموع أفراد المجتمع.

هنا تقع المفارقة، بين حقيقة الانتخابات ووظيفتها، بصفتها نشاطاً ومظهراً ديمقراطيين من جهة،  وبين ممارستها على أرض الواقع والخطاب الانتخابي الذي يُتداول في لبنان، ومنطق الاصطفاف والتعبئة الذي يتبع من جهة أخرى.

فالانتخابات ليس غرضها تثبيت واقع قائم، أو الكشف عن الرضا به،  بل إعادة إنتاج الواقع

فالانتخابات ليس غرضها تثبيت واقع قائم، أو الكشف عن الرضا به،  بل إعادة إنتاج الواقع، وتغيير موازين القوى بأسرها.  في الحق بنزع الشرعية، عن الجهات والأشخاص والأحزاب، وكل الترتيبات المعدة مسبقاً. هي الحق بقول لا مطلقاً، التي ترمز إلى رفض أية مسبقة أو ثابتة، أو قيادة ذاتية تسبق قول المجتمع ورأيه وموقفه.  وهي الحق بالاختيار من بين عدة خيارات واحتمالات، لا نعم الخيار الواحد، الذي ليس سوى نعم الطاعة والولاء المطلقين. 

هذا يفسر ضرورة تداول السلطة في الانتخابات، التي تعني عملياً ضرورة تغير وجوه المسؤولين باستمرار، وتعني أن المجتمع  قادر على تنظيم أمره، ولا يحتاج إلى قائد أو زعيم يمارس دور الوصاية عليه. أي يبقى المجتمع ويذهب القادة،  يبقى المواطن وتذهب الأحزاب، يبقى الوطن وتذهب الأيديولوجيات والعقائد.

بذلك، تختلف الانتخابات عن البيعة، لجهة أن الانتخابات تُعيِّن من يمثل أفراد المجتمع ومكوناته المتعددة، أما البيعة فهي نوع من الإرغام المغلف بالرعب، لا لتحقق السلطة شرعيتها، بل لتنتزع ولاء خالصا لها، هي فعل انتزاع قهري من عموم الناس بسلطة الامر الواقع، وتنازل علني عن حق مطالبة هذه السلطة، أو مقاومتها أو عزلها أو حتى انتقادها. فالبيعة إقرار بواقع سياسي لا إنشاء له، هي تنازل عن المشاركة في مجرياته، وتلقي تعليماته والتكيف مع كل ما يصدر منه، وقبول نتائجه وآثاره، لا تعيين أو تقييد أو وضع شروط لها.

ما يحصل في لبنان هو على العكس من ذلك، حيث تكاد الانتخابات في الكثير من شعاراتها وبياناتها إما: إعلان ولاء لزعيم، بيعة لقائد، تفويض كامل لقوى الأمر الواقع.  أي هي عملية مدروسة لإعادة إنتاج السلطة، بنفس توزيعها وتنوع رموزها وشخصياتها. هي مناسبة، لا للاعتراف بمرجعية المجتمع في كل فعل سياسي أو نشاط أمني، بقدر ما هي مسعى مدروس، لتثبيت الوصاية على المجتمع وزرع الشعور بالقصور فيه.

اعتبرت قوى السلطة، وفي مقدمهم حزب الله، أن التنافس السياسي ضدها:  خيانة لأنه خروج عن الطاعة

لهذا  اعتبرت قوى السلطة، وفي مقدمهم حزب الله، أن التنافس السياسي ضدها:  خيانة لأنه خروج عن الطاعة،  هو عمالة لأنه يرفع سقف التشكيك بكفاءتها، ويكشف عمق الفساد الذي وصلت إليه، هو سقوط أخلاقي لأنه يفضح لعبة القداسة المزيفة، التي يلعبها قادة ورموز هذه القوى.

باختصار، ليست الإنتخابات بالنسبة لقوى السلطة، معركة شرعية شعبية، لأن الشرعية لم تكن يوماً همها أو هاجسها أو غرضها، بل هي حرب سلطة ضد المجتمع كله. هي معركة لانتزاع التفويض المطلق من المجتمع، وسلبه قدرة قول لا عبر تفتيت طاقته، وتفكيك قواه وتوهين قدراته، ليكون بالإمكان تأبيد وصاية، يعجز المجتمع عن الاعتراض عليها أو مقاومتها.  

السابق
سروع لـ«جنوبية»: «الكابيتال كونترول» لا يمت بصلة الى المصلحة الوطنية العليا
التالي
اليكم أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الثلثاء في 19 نيسان 2022