صورة وذكريات: عندما كنا صغاراً.. وكان يا ما كان!

كتاب

مستعيدةً ايام الطفولة، كتبت الناشطة بيبا بيضون عبر حسابها على “فايسبوك”:

“صورة وذكريات: عندما كنا صغاراً وكان يا ما كان، كان في عندنا بستان بعيداً عن الدار وكانت هناك حاكورة أمام الدار وكان مزروعاً في الحاكورة شجر أكيدنيا ولوز وحامض ومشمش وخوخ ودراق ولا ننسى شجرة أبو صفير عطر الدار وزينة المكان وكانت هناك شجرة جوز عظيمة جداً ودالية عنب ضخمة جداً لا مثال لها ولا أطيب من حصرمها ومن عنبها ولا ورقها للف ورق العنب الذي لا مثيل له.

كان مكاني المُفضل للجلوس هو في ظل دالية العنب العظيمة على حافة حوض الورد وهذه الأحواض كانت عزيزة جداً وغالية على قلب والدي الذي كان كلما رآني جالسة أستمع للأغاني عبر أثير الراديو الأحمر الصغير خاصتي على حافة الحوض يقول وهو يبتسم ويُقطب ما بين حاجبيه في الوقت ذاته: “يعني لا تحلو القعدة إلا على حافة حوض الزريعة، من قِلة الكراسي في هذه الدار!!؟؟”

لا بُدَّ أيضاً ومن الواجب من المرور على مساكب النعنع والبقدونس وإلقاء التحية على الحبق والمردكوش حتى لا نُزعل أحداً!
البستان والذي كان بعيداً عن الدار نوعاً ما، كان مزروعاً تفاحاً وإجاصاً وكرزاً منه الكرز الأحمر ومنه الكرز الزهري اللون ومنه الكرز الذي كان بلون اللؤلؤ الذي لم أعد أراه ولا أراه ولا في أي مكان وكان هناك أيضاً عنباً وتيناً وكان سياجه مطرزاً بدوالي من ناحية بالعنب والذي كان يُعرف بإسم العنب المُر و من ناحية ثانية بأشجار الرمان اللفاني الشهي والذي كانت أزهاره وأكوازه تتدلى منه كما الجواهر بغنحٍ ودلال في مواسم الرُمان.

كان هناك في وسط البستان بئراً صخرياً عميقاً من نوع بئر النبع وكان أبو سالم الذي كان يُساعد أبي في الإهتمام والعناية بشؤون وشجون البستان يُخبرنا أن هناك حيّة سوداء ولها قرون عمرها آلاف السنين تعيش في داخل البئر وتحرسه، إسمها “أم قرون” ولا تسمح لأحد بالأقتراب منه ولكن لا تخرج منه أبداً ولا تؤذي أحداً إلا من يقترب من البئر ومن يحاول أذيتها وتعكير مكان عيشها وكنا نحن نُصدق ذلك ولا نتجرأ على الإقتراب من البئر ونخاف حتى من المرور من جانبه وربما كانت هذه طريقة أبو سالم ليُنقذنا من حُشرية الطفولة التي قد تكون مؤذية جداً في بعض الأحيان.

كنا نخشى حتى النظر إلى البئر أو النظر ناحيته ونعتقد أن ذلك قد يُزعج “أم قرون” ويجعلها تغضب وتخرج من البئر وتُهاجمنا.
كنا إذا إضطررنا للمرور بموازاة مكان موقع البئر نمر على خط أبعد ما يُمكن عنه ونُشيح بأنظارنا بالإتجاه المُعاكس كي لا نُزعح “أم قرون” وكي لا نُغضبها وكانت “أم قرون” بالنسبة لنا كائناً حقيقياً موجوداً ولا مجال للتشكيك به وبوجوده.

مقابل بستاننا كان هناك بُستان الحاجة أم عبد الكريم وكان مزروعاً أكيدينا وكنا وصديقات العمر والطفولة رويدا وفاديا اللواتي غادرننا باكراً جداً وعلى عجل نشن غزوات منظمة وسريعة جداً على بستان الحاجة أم عبد الكريم ونسرق الأكيدنيا من بستانها وكنا نقطف الحبة التى نقدها العصفور وأكل جانباً منها ونأكلها لأنها كانت الحبة الأشهى والأطيب فالعصفور يعرف وأهم خبير في طيب المذاق.
كانت الحاجة أم عبد الكريم من المفروض أنها تعاني من ثقل السمع ولا تسمع جيداً ولكن بسحر ساحر كانت تسمع حركتنا داخل بستانها وتأخذ وبأعلى صوتها بالصراخ وكنا نحن وبملعنة وشيطنة الأطفال نلتف عليها من جهة الطريق العام لنسألها وبراءة الأطفال في أعيننا عن أسباب كل هذا الصُراخ لتشكو لنا حرامية الأكيدنيا الذين لو عرفتهم وتمكنت منهم فالسوف تقصف لهم أعمارهم.

كانت أيام وكانت حياة باتت هي وساكينها صوراً وذكريات تُشعل حنيناً لا ينطفىء لسكان ذاك الزمن وشوقاً لهم وللأمكنة التي سكنوها والتي لم تعد تُشبهنا ولم نعد نُشبهها وباتت عنا وبتنا عنها وكأننا أغراب ولكل الذين غادرونا دون وداع في زمٍنٍ لم يكن يُشبه أبداً هذا الزمان ولا يشبهه هذا الزمان وكما يقول الشاعر العظيم أبو تمام: “لا أنتَ أنتَ ولا الدِيارُ دِيارُ!”.

لا أَنتَ أَنتَ وَلا الدِيارُ دِيارُ

خَفَّ الهَوى وَتَوَلَّتِ الأَوطارُ

كانَت مُجاوَرَةُ الطُلولِ وَأَهلِها

زَمَناً عِذابَ الوِردِ فَهيَ بِحارُ

ملاحظة: العنب المُر لم يكن مُراً أبداً وكانت دواليه صغيرة وعناقيده صغيرة وحبات عناقيده صغيرة وكان لذيذ الطعم جداً وربما عُرِف بالعنب المُر لأنه كان شديد المراس قادر على مقاومة العوامل الطبيعية الشرسة والأمراض..”.

السابق
اطلاق نار على سيارة رب عائلة في عكار.. والرصاص يقتل ابنه!
التالي
الدولار يهبط.. كيف أقفل مساءً؟