«برلمان 2022» من دون سعد الحريري..المأزق سنّي والأزمة لبنانية!

سعد الحريري

لم يكن موقع «السنّة» ومكانتهم في العملية السياسية في لبنان تحت المجهر كما هو الحال اليوم مع العدّ التنازلي للانتخابات النيابية المقررة في 15 مايو المقبل.

وهذا الفائض من «الاستثنائية» في واقع واحدةٍ من الطوائف الكبرى المؤسِّسة، لا يعود فحسب إلى التطاحن السياسي في البلاد المنكوبةِ كواحدٍ من تجليات الصراع المحلي – الإقليمي بين مشروعيْن يتناحران على طول المنطقة وعرضها، بل هو نتيجة للقرار الصادم الذي اتخذه زعيم التيار السني الأبرز «تيار المسقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بتعليق العمل السياسي والعزوف عن المشاركة في الانتخابات النيابية، وتالياً الغياب عن برلمانٍ سيَنتخب رئيساً جديداً للجمهورية الخريف المقبل.

ولم يُوازِ دراماتيكية القرار الذي اتخذه سعد الحريري بـ «شطب» وجوده السياسي وخروجه من البرلمان العتيد، إلا الزلزال الذي انفجر مع محاولة شطْب والده رفيق الحريري من المعادلة عبر اغتياله المدوي في 14 فبراير 2005… وإذا كان اغتيال الحريري – الأب أدى إلى نتائج عكسية مع ما عُرف بـ «انتفاضة الاستقلال»، فإن تعليق الحريري – الإبن عمله السياسي جعل «الحال السنية» التي يتزعّمها في متاهةٍ لم يسبق أن عاشتْها.

لم تترك طرابلس، عاصمة الشمال، العاصمة – الأم بيروت يوماً من الأيام، ولا تركتْها عاصمة الجنوب صيدا، ولا البقاع المترامي. فبيروت مثّلت بالنسبة إلى السنّة تاريخياً زعامة واقتصاداً ومجتمعاً تجارياً واقتصادياً ومالياً.

لم تحجب حركةُ السنيورة واقعَ التضعْضع السني في ظل خلافات بين حلفاء الحريري السنّة والمسيحيين والدروز

هكذا انتقل الرئيس رفيق الحريري إلى بيروت رئيساً للحكومة وزعيماً بيروتياً آتياً من صيدا. وهكذا أقام مشروعه الاقتصادي والإعماري انطلاقاً منها. لكن العاصمة شهدت اغتيال الحريري، فزحف إليها سنّة طرابلس وعكار والبقاع والجنوب والجبل. وحين التأمت الحشود في 14 مارس عام 2005، فعلوا الأمر نفسه، وكذلك فعلوا يوم اندلعت تظاهرات الثورة في 17 أكتوبر 2019.

مشهد التآلف السني تحت راية موحّدة منذ عام 1990، أي بعد اتفاق الطائف، وفي رحاب زعامة الحريرية منذ 1992، كان السمة السائدة لحقبة طويلة. ولم يشذّ المشهد الانتخابي في الدورات التي تلت الحرب اللبنانية، وتحديداً منذ 1996، عن هذه الوحدة وإن خرقتْه أحياناً أصوات سنية معارضة للرئيس الحريري كالرئيسين عمر كرامي وسليم الحص، وتمام سلام في بداية الأمر.

بعد 2005، تَكَرَّرَ هذا التآلف في الانتخابات. ورافق السنّة سعد الحريري في بيروت فلم يتركوه، بايعوه وريثاً لوالده وللخط السياسي الذي رسمه مع رفاقه في «14 مارس». وحين كان يطلّ عليهم في جولاته الانتخابية في دورات 2005 و2009 و2018، من طرابلس أو عكار أو البقاع أو صيدا وإقليم الخروب، كانوا يحتشدون تحت راية «تيار المستقبل» ويقترعون له. ومع ذلك ظلت خروق محدودة في الوسط السني، أيّدت قوى «8 مارس»، التحالف الموالي لسورية وإيران بقيادة «حزب الله».

هذا المشهد السني الإنتخابي، تفتقده الآن بيروت وطرابلس وعكار والإقليم والبقاع الغربي كما الأوسط، لأن خروج سعد الحريري من العمل السياسي جاء بمثابة هزّة سياسية، بدأت تترك بصماتها على الحال السنية واللبنانية.

إقرأ أيضاً: قرم ينبه عبر «جنوبية» من الخصخصة لمصلحة السياسة

يخوض السنّة الانتخابات، على وقع موقف الحريري، الذي يُعدّ أول «صدمة» سياسية بهذا الحجم منذ اغتيال والده، ومنذ انتهاء الحرب. وللوهلة الأولى كان الانطباع أن السنّة سيحذون حذو المسيحيين الذين قاطعوا الانتخابات عام 1992. لكن تدريجاً، ظهر أن اعتكافهم سيجعل من السنّة الدائرين في فلك قوى «8 مارس» يملأون الفراغ في المجلس النيابي، الأمر الذي توجّستْ منه قياداتٌ سنية وفي مقدمها دار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقون، فخطا الرئيس فؤاد السنيورة خطوةً أعلن أنها منسَّقة مع الرئيسين تمام سلام ونجيب ميقاتي (عزفا عن الترشح كما فعل الحريري) بالدعوة لعدم مقاطعة الانتخابات، قبل أن يقوم برعاية لوائح في غير منطقة.

ورغم أن السنيورة «استمزج» رأي الحريري وأطلعه على خياره وتَبَلَّغَ من قريبين منه أنه «لا يؤيّد ولا يُعارِض» حركتَه الانتخابية، فإن الأمرَ لم يَرُقْ لبعض مَن هم في «تيار المستقبل» الذي يُشاع أنه يدعم «عن بُعد» لائحةً في دائرة «بيروت الثانية» لمنافسة اللائحة التي يرعاها السنيورة.

ولم يكن عابراً اختيار اللائحة المدعومة من السنيورة اسم «بيروت تُواجِه»، فرئيس الحكومة السابق الذي كان عرضةً لحملةٍ اتهمتْه بـ «منافسة الحريري على الزعامة»، لم ينزلق إلى هذا النوع من المهاترات، وهو الذي يُعْلي شعارات «عدم ترْك الساحة للطارئين والانتهازيين» وتمدُّد «حزب الله» و«الهيمنة الإيرانية».

ولم تحجب حركةُ السنيورة واقعَ التضعْضع السني، في ظل خلافات بين حلفاء الحريري السنّة والمسيحيين والدروز. وتَفاقَمَ المشهد أكثر مع بروز قوى وشخصيات تحاول أن تحجز لنفسها مكاناً في المجلس الجديد.

الفريق السني اليوم يخوض الانتخابات في شكل بعيد عن الصورة الجامعة التي اشتهر بها، موزَّعاً بين السنيورة ومؤيديه، في بيروت والشمال، وبين غيره من «سنّة 14 مارس» المتحالفين مع «القوات اللبنانية» كالوزير السابق أشرف ريفي، والسنّة الطامحين إلى لعب دور بيروتي وحكومي مستقبلي كالنائب فؤاد مخزومي، والأحباش و«الجماعة الإسلامية»، وقيادات سنية كالنائب أسامة سعد مع المعارضة، وسنّة قوى «8 مارس» في البقاع وبيروت، إضافة إلى وجوه سنية مع قوى المجتمع المدني والمستقلين.

الفريق السني اليوم يخوض الانتخابات في شكل بعيد عن الصورة الجامعة التي اشتهر بها موزَّعاً بين السنيورة ومؤيديه في بيروت والشمال

في الانتخابات الماضية سجّل السنّة تراجعاً في الاقتراع الذي بلغت نسبته 49 في المئة، علماً أن معدل الاقتراع العام كان يوازي النسبة نفسها تقريباً. إلا أن التراجع السني أتى على وقع تسوية رئاسية أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ولم ينظر إليها السنّة بعين الارتياح. إضافة إلى تراجع سجّله الحريري في مواكبة شارعه الذي تَرْجَمَ غضبَه من أداء السلطة في تظاهرات 17 أكتوبر. وهذا ما عكستْه تجمعاتٌ حاشدة في بيروت وطرابلس والبقاع الأوسط.

وهذه المناطق إضافة إلى عكار ستكون على المحكّ في 15 مايو المقبل كونها مراكز الثقل السني. ونسبة اقتراعها في هذا الإستحقاق تحتلّ أهمية أكبر من الأعوام الماضية، لأن الامتناع السني سيكون مؤشراً أساسياً، في ظل ترقب وضع الحالة السنية محلياً وإقليمياً. فتدني نسبة الاقتراع يعني أن الحريري تمكّن من فرض إيقاعه كـ «تيار» وكزعامة سنية. وهذا التدني مؤشر إلى أن العوامل الإقليمية لن تكون مؤثّرة كما يفترض.

علماً أن السنّة بلغوا في المقابل نحو 20 في المئة من نسبة المسجّلين في الاغتراب من أجل المشاركة في العملية الانتخابية، وأتوا في المرتبة الثانية بعد الموارنة. وهذا الرقم الذي سجّله السنّة يفترض التوقف عنده ملياً لأنه سيكون مؤثّراً في نتائج الاقتراع، لا سيما أن نسبة المسجلين في بيروت الثانية حيث الانتشار السني جاءت مرتفعة وحلت في المرتبة الثانية بعد دائرة الشمال الثالثة.

وهناك شق آخر في مقاربة الواقع السني في الانتخابات، يتمثل في الإطار الذي يحكم علاقة السنّة مع الأفرقاء الآخرين. فالعلاقة الانتخابية والسياسية بين السنّة والحزب التقدمي الاشتراكي (بزعامة وليد جنبلاط) تأثرت سلباً باعتكاف الحريري، كما العلاقة مع «القوات» و«التيار الوطني الحر». أما «الثنائي الشيعي» فتتأرجح العلاقة معه بين السياسة والانتخابات.

في الانتخابات هناك افتراق مُطْلَق في العناوين السياسية التي يخوض المُعارِضون السنّة المعركةَ الانتخابيةَ على أساسها في وجه «حزب الله». لكن هذا الافتراق لا يُترجم في السياسة بمعنى المقاطعة المطلقة، وهذا ما كان الحريري حريصاً عليه حتى لا يترك أي تداعيات تؤدي إلى توتر سني – شيعي.

يُعوَّل على الانتخابات النيابية كاستحقاق دستوري، لكن لكل طائفة في لبنان هواجسها، والفريق السني يتطلع إلى الاستحقاق المقبل على أنه محطة أساسية تتعلق بما سينتج عنها بالنسبة إلى الحكومة. فرئيس الوزراء المقبل سيُكلَّف بحسب ما ستسفر عنه النتائج ولا سيما في الشارع السني، إلا إذا تم اللجوء مجدداً إلى خيار إعادة تكليف شخصية وسطية من خارج المجلس النيابي كالرئيس نجيب ميقاتي.

الفريق السني يتطلع إلى الاستحقاق المقبل على أنه محطة أساسية تتعلق بما سينتج عنها بالنسبة إلى الحكومة

وكما تشكل الانتخابات مرحلة مفصلية بالنسبة إلى المسيحيين لأنها ستكون معبراً إلى الإنتخابات الرئاسية، فإن السنّة أمام تحد أساسي في المشاركة بالانتخابات، من أجل أن يكونوا حاضرين في الاستحقاق الرئاسي، لأن أي تَراجُع في عدد مقاعد النواب السنّة الذين ينتمون إلى المعارضة يعني تغييب هذا الفريق عن استحقاق الرئاسة للمرة الأولى منذ عام 1990.

السابق
«حزب الله» يُحاصر الإتفاق مع «الصندوق» نيابياً..وباسيل «يَحشد» إنتخابياً!
التالي
تشتت المعارضة على لوائح متنافسة يُقلص حظوظها الإنتخابية!