«حزب الله».. عندما تكون السياسة «أمضى» من السلاح!

ياسين شبلي

في مطلع شبابي، وفي غمرة الحماس الثوري ” الممانعاتي”، لم تُتح لي فرصة قراءة “الكتاب الأخضر” للعقيد معمر القذافي, الذي كان يومها يمثِّل “قبلة” للثوريين العرب بإعتباره “الأمين على القومية العربية”، هذا اللقب الذي كان قد أغدقه عليه – كما أشيع يومها – الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر.

اقرا ايضا: القصة الكاملة لـ«المقاومات» اللبنانية على «مد الوطن».. إختلاف واتفاق ودماء!


بعد الثورة الإيرانية بقيادة الإمام آية الله الخميني، وفي حمأة البحث عن معرفة كل ما يمت للخميني والثورة بصلة، وقع بين يدي كتاب “الحكومة الإسلامية”، وهو عبارة عن عدد من المحاضرات، كان قد ألقاها آية الله الخميني على طلابه في مدينة النجف، تطرح رؤيته للحكم الإسلامي تحت عنوان “ولاية الفقيه”، وهي الرؤية التي تم على أساسها، قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بعد ذلك.

من هنا وجدت نفسي تلقائياً ضد الأحزاب الدينية بمختلف فئاتها وطوائفها وقريبا من الفكر اليساري الديمقراطي الذي يدعو للمساواة بين الناس في مجمل الحقوق والواجبات


لا أخفي بدايةً أن عنوان هذا الكتاب سبب لي يومها – على صغر سني – “نقزة” من الثورة الإيرانية ومسارها، سيما وأن منطلقاتي كانت يسارية وقومية عربية وليست إسلامية، وذلك من منطلق واقعي ومنطقي – من وجهة نظري بالطبع – بإعتبار أنني كنت ولا زلت معارضاً للنظام الطائفي اللبناني، غير العادل والتمييزي ضد المواطنين، فكيف والحال هذه يمكن أن أتبنى فكراً دينياً، يميز بين مواطن وآخر بسبب الدين، مع ما يجره هذا التمييز من تفرقة وتشتت، خاصة في ظل الحرب الأهلية التي كانت قد عصفت بوطني لبنان، وإتخَذَت – بغض النظر عن الأسباب – منحىً طائفياً بغيضا. من هنا وجدت نفسي تلقائياً ضد الأحزاب الدينية بمختلف فئاتها وطوائفها، وقريبا من الفكر اليساري الديمقراطي الذي يدعو للمساواة بين الناس في مجمل الحقوق والواجبات، متأثراً بكتابات وأفكار كمال جنبلاط قائد الحركة الوطنية اللبنانية يومها، والذي مرت ذكرى إستشهاده ال 45 إغتيالاً، على يد النظام السوري المجرم ، منذ أيام قليلة.


بالعودة إلى كتاب “الحكومة الإسلامية”، وبعيداً عن الإنطباع الأول الذي تكون لدي جراء العنوان، فإني بعد قراءتي له إزددت نفوراً من هذا الفكر، الذي لم أجد فيه أي جديد “جوهري” خلاف السائد يومها، الذي كنا نعاني منه ونسعى لتغييره ولا زلنا، سوى بإستبدال العناوين السياسية والفكرية الموجودة بالعنوان الإسلامي، إضافة إلى فرض الأحكام الإسلامية في باب العقوبات. فمثلاً في نظام الحكم – وهو ما يهمنا في نهاية المطاف – يتحول الحاكم من ديكتاتور عسكري تحت إسم القائد، أو ديكتاتور حزبي إيديولوجي تحت إسم الرفيق، أو حتى ديكتاتور ملك أو سلطان، في نظام قبلي أو عشائري غير دستوري، إلى ديكتاتور معمم بإسم “الولي الفقيه”، لديه كل السلطات والصلاحيات، ما يسمح له بتقرير مصير شعب بل أمة بأكملها، وإذا كان الديكتاتور في الأنظمة السياسية السائدة، يستمد قوته و “شرعيته” من سلطاته السياسية فقط، فإن قوة “الولي الفقيه” إنما يستمدها علاوة على سلطاته السياسية، من سلطته الدينية – وهنا مكمن الخطر – على إعتبار أنه هو نائب “الإمام الغائب”، الذي هو في الفقه الشيعي “حجة الله” على الأرض، ما يعني أنه – الولي الفقيه – لا حدود لسلطاته وصلاحياته، فهي مطلقة سياسياً ودينياً.

قوة “الولي الفقيه” إنما يستمدها علاوة على سلطاته السياسية من سلطته الدينية – وهنا مكمن الخطر – على إعتبار أنه هو نائب “الإمام الغائب”


وما عزز هذا الفهم، هو ما جرى بعد إنتصار “الثورة” في إيران، من تصفيات للوطنيين من جميع ألوان الطيف السياسي الإيراني، حتى الإسلامي منه، الذي يخالف الخميني رؤيته بالنسبة لولاية الفقيه، وكذلك سيطرة رجال الدين على التعليم هناك، والبدء بنشر الفكر الخميني بالحديد والنار عبر سلطة المحاكم “الثورية” برئاسة أية الله خلخالي، الذي أعدم الآلاف من أبناء الشعب الإيراني، بغرابة أطواره وأحكامه العشوائية، التي إفتقدت إلى أدنى قواعد العدالة والحس الإنساني السليم، وكذلك عسكرة المجتمع عن طريق تشكيل فيالق الحرس الثوري “الباسدران”، التي تعتبر رديفاً إن لم يكن بديلاً، للجيش النظامي المتعارف عليه في الدولة الحديثة، مدعومة بقوات التعبئة المكلفة بالأمن الداخلي “الباسيج” التي تشكل الذراع الأمنية للنظام. هذا في الشق الداخلي، أما الشق الخارجي من الفكر الخميني، فكان يختصر بمصطلح “تصدير الثورة”، الذي كان ولا يزال، يعني التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة – العربية منها – بشكل خاص، بهدف تغيير أنظمة الحكم فيها، وهو ما تسبب بحروب بدأت قبل 40 عاما ولا تزال مستمرة، ما يوحي بأن الأمر أكبر من مجرد “تصدير” ثورة، بل هو حقد قومي فارسي كبير على العرب، يضرب في عمق التاريخ ، ويهدف إلى مصادرة الجغرافيا، عبر مبررات طائفية ومذهبية، يرفده رغبة بإعادة بناء الإمبراطورية الفارسية، وأن بمسميات إسلامية، ما دامت تحقق الهدف المنشود في التحكم والسيطرة.
مناسبة هذا الحديث في الحقيقة، هو ما حصل مؤخراً من إشكالات في معرض الكتاب العربي في بيروت، تارة بمنع عرض موسيقي، وأخرى بوضع صورة قاسم سليماني القائد العسكري الإيراني، في معرض مخصص للكتاب والثقافة، وليس معرضاً عسكرياً للأسلحة، وما تسببت به هذه الصورة من إستفزاز حدا بالبعض من الشباب المتحمس لمحاولة إزالتها، مع الشعار الشهير “إيران برا برا.. بيروت حرة حرة”، هذا الشعار الذي بدأ “عراقيا بغدادياً” قبل أن يصل إلى بيروت، وما تلا تلك المحاولة من التعرض بالضرب لأحد الشبان، مع ترديد كلام مهين وقاسٍ على طريقة “شبيحة الأسد” بأن “تعا لفرجيك كيف بتكون حرة”.

هذا الحدث كان بمثابة تظهير للصورة الحقيقية للمواجهة القائمة بين ثقافتين ومشروعين مختلفين

بغض النظر عن كل التفاصيل والآراء بما حصل من تعرض للصورة، ومدى نجاعة هذه الأساليب في التعبير عن الإعتراض، إلا أن هذا الحدث، كان بمثابة تظهير للصورة الحقيقية للمواجهة القائمة، بين ثقافتين ومشروعين مختلفين، يتنازعان البلد والمنطقة، المشروع المدني القائم على ثقافة الحياة الطبيعية، بكل تجاربها وتناقضاتها من خير وشر، ومن خطأ أو صواب، والمشروع العسكري القائم على ثقافة الموت “إستشهاداً” بإتجاهه الوحيد، الذي لا رجعة ولا مراجعة فيه، بغض النظر عن القضية التي يستشهد من أجلها الفرد، ومدى جديتها وإستحقاقها هذا المصير، وبكل ما يحمله هذا المشروع من دمار وخراب للدول والمجتمعات، تحت شعارات وأهداف وطموحات “شخصية”، بغالبيتها وقد تكون مجرد أوهام، لأنها نابعة وصادرة عن قرار شخص واحد هو “المرشد والولي الفقيه ونائب الإمام”، أو من يمثله في الساحات المختلفة.


هذا الفكر، وهذه الثقافة التي يمثلها في لبنان حزب الله بشكل أساسي، وأتباعه من المجموعات والشخصيات الدينية منها وغير الدينية، هي “السلاح” الحقيقي الذي يواجه البلد والناس، ويمنع أي حراك بإتجاه الإصلاح والتغيير والعودة إلى الحياة الطبيعية، وليس السلاح العسكري – على أهميته – الذي هو نتاج طبيعي لهذه “الثقافة السياسية” ومكمل لها، وهذا ” السلاح ” هو الذي يجب أن يُواجَه عبر مقارعته بالحوار الفكري المباشر – إذا أمكن مع معرفتنا بصعوبة هذا الأمر – أو بنشر الوعي وسط الناس، والشباب منهم بشكل خاص، لتبيان مدى خطورة هذا الفكر الشمولي المتزمت، والمتدثر بلباس الدين والمقدسات، والذي ما إنتشر بدايةً، إلا عبر تغييب الكثير من المفكرين إغتيالاً في لبنان ولا يزال – وآخرهم لقمان سليم – وفضح أساليبه في الخلط بطريقة خبيثة بين “ثقافته السياسية”، ومفهوم المقاومة في أذهان الناس لخداعهم، وتصوير الأمر وكأنهم واحد، في حين أن المقاومة هي ردة فعل غريزية طبيعية لدى البشر، بهدف الدفاع عن النفس، وغير مرتبطة بأي مفهوم أو مشروع سياسي معين، إلا من حيث طريقة تنظيمها وإدارتها ربما.

من هذا المنطلق ندعو إلى تصويب النقاش أو لنقل تدعيمه في موضوع نزع السلاح – وقد بات سلاحاً له وظيفة إقليمية – الذي لا طائل منه

من هذا المنطلق ندعو إلى تصويب النقاش، أو لنقل تدعيمه في موضوع نزع السلاح – وقد بات سلاحاً له وظيفة إقليمية – الذي لا طائل منه، ما دامت الثقافة التي ترعى هذا السلاح لم تتغير، ولأن موضوع نزع السلاح، دون ضمانات حقيقية، بإقامة دولة قادرة على حماية أرضها وشعبها من العدوان الصهيوني، لن يلقى آذاناً صاغية لدى المواطن الجنوبي – الشيعي بشكل خاص – الذي عانى الأمَرّين على مدى نصف قرن من الإعتداءات والإحتلال، وهذه قضية قد لا يفقه كل أبعادها إلا من قاسى ويلات هذا الإحتلال وإعتداءاته. لذلك قد يكون من المفيد العمل على محاولة تغيير الذهنية، والتركيز على جذب الشباب، عبر مواجهة الفكر بالفكر، بالإضافة للصراع السياسي حول موضوع السلاح، ومحاولة إقناع الناس بالمنطق، عبر كشف مثالب هذا الفكر، وهي كثيرة لعل وعسى أن تأتي هذه المحاولة بنتيجة، خاصة وأن اللبناني إنسان منفتح بطبعه، ومجبول على حب الحياة، وقد يكون اليوم في حالة فقدان وعي، نتيجة تراكم الأحداث والحروب، التي مرت عليه على مدى سنين طويلة، ونتيجة للظروف الصعبة التي يمر بها اليوم، ولكن لا بد من عودة الوعي إليه، متى توفرت له الظروف الملائمة، التي تساعده على رؤية الأمور بشكل أوضح، بعيداً عن التخوين المتبادل والإستفزاز والتحريض، مع تقديم حلول أو تصورات، لكيفية إقامة الدولة العادلة والقادرة، على حماية الأرض والمياه والسماء اللبنانية، من التجاوزات شبه اليومية.


ندرك تمام الإدراك، أن هذا مسار طويل وصعب وشاق بالطبع، وقد يكون متأخراً بعض الشيء، ولكن كما يقول المثل الفرنسي “أن تصل متأخراً خير من أن لا تصل أبداً”، وهي في نهاية الأمر، محاولات نضالية كغيرها من المحاولات، التي تحمل الكثير من المخاطر والمجازفة التي لا بد منها، وكذلك إحتمالات الفشل، في وجه فكر بات للأسف، يتجذر في عمق الوجدان الشعبي لأكثر من جيل حتى الآن، والآتي قد يكون أكثر وأعظم.
ياسين شبلي

السابق
بعدسة «جنوبية».. المصارف تنهي اضرابها
التالي
مع عودة المصارف.. كيف افتتح دولار السوق السوداء اليوم؟