تركيا وإسرائيل.. عودة العلاقات إلى ما كانت عليه

اردوغان

أثارت زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هيرتسوغ، تركيا، الأسبوع الماضي، ولا تزال، جدلاً سياسياً وصخباً إعلامياً، خصوصا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كان مصطلح التطبيع الأكثر شيوعاً واستخداماً في مقاربة الزيارة أو رفضها، علماً أنّ الأمر ليس كذلك، خصوصا مع تجاهل السياق التاريخي لها وللعلاقات التركية الإسرائيلية بشكل عام، وحيثيات البرودة والقطيعة السياسية الرسمية خلال العقد الماضي، على الرغم من استمرار العلاقات الاقتصادية بين الجانبين. كما جرى تجاهل التوقيت الذي حدثت فيه الزيارة ضمن أسبوع سياسي ودبلوماسي حافل، شهد استقبال تركيا الرئيس الأذري إلهام علييف، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ووزير الخارجية الأرميني آرارات ميرزويان، إضافة إلى رعاية لقاء رفيع المستوى بين وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا، سيرغي لافروف وديمترو كوليبا، على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي.

اقرأ أيضاً: زوبعة في فنجان «أربيل»

إذن، جرى استسهال استخدام مصطلح التطبيع في رفض الزيارة، ولوضعها في سياق الموجة نفسها من التطبيع العربي مع إسرائيل، التي قادتها الإمارات وشملت البحرين والمغرب، ثم السودان، وهذا خطأ كبير ومنهجي، كوننا نتحدّث عن علاقات قائمة بالفعل ومنذ عقود طويلة بين تركيا وإسرائيل حتى مع انخفاضها خلال العقد الأخير إلى مستوى قائمين بالأعمال. وعلى الرغم من القطيعة أو البرود الرسمي والسياسي والدبلوماسي والإعلامي والأمني والعسكري، إلا أنّ العلاقات الاقتصادية لم تتوقف، كونها تدار من القطاع الخاص في الجانبين أساساً، بينما يلامس التبادل التجاري حدود خمسة مليارات دولار سنوياً، وهو رقم ليس بسيطاً، علماً أنه يقتصر على المنتجات الزراعية والغذائية والصناعية من دون قطاعي الطاقة والسياحة، مع عزوف سياح إسرائيليين كثيرين عن القدوم إلى تركيا، في ظلّ البرود الرسمي بين البلدين، وتحذيرات ما تسمّى هيئة مكافحة الإرهاب التابعة مباشرة لمجلس الوزراء من أخطارٍ وتهديداتٍ قد يتعرّضون لها في تركيا.

ذلك يعني ببساطة أنّ ما نحن بصدده يجري في سياق مختلف تماماً، ولا ينطبق عليه مصطلح التطبيع في أي حال. وهنا لا بأس من التذكير بأنّ المصطلح السائد حالياً في العالم العربي ظهر أول مع معاهدة كامب ديفيد مع مصر ثم معاهدة وادي عربة مع الأردن، وقصد به إنهاء حالة الحرب وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الدول العربية وإسرائيل، ومحاولة تعميمها على المستوى الشعبي، خصوصا في السياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية، علماً أنّ هذا الأمر قائم أصلاً بين إسرائيل وتركيا، على الرغم من التعقيدات التاريخية والمعاصرة التي شابتها، وكانت القضية الفلسطينية حاضرةً ومركزية ومتسبّبة بها دوماً.

تاريخياً، لم تكن تركيا أول دولةٍ مسلمةٍ تعترف بإسرائيل، بل الثانية بعد إيران، وطوال نصف قرن تقريباً، وحتى زمن تركيا الأتاتوركية القديمة، جرى تخفيض مستوى العلاقات أكثر من مرّة، ودائماً بسبب القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، أولاً بسبب العدوان الثلاثي، منتصف خمسينيات القرن الماضي (كانت على مستوى منخفض في أثناء حرب يونيو/ حزيران 1967)، ثمّ بسبب ضمّ إسرائيل مدينة القدس واعتبارها عاصمة موحدة أبدية 1980، ما أدى إلى خروج واحدةٍ من أضخم التظاهرات الشعبية في تاريخ تركيا، وكانت  من أسباب الدعم الغربي لانقلاب كنعان أيفرين في العام نفسه، خصوصا لتزامنها مع الغزو السوفييتي أفغانستان، والرغبة في استخدام تركيا كمخلب قط أو ذراع غربي، كما كان الحال زمن الحرب الباردة التي طويت عملياً إثر بدء سيرورة تركيا الجديدة مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة منذ عقدين تقريباً.

حصل تحوّل بعد اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في تسعينيات القرن الماضي، وانطلاق المفاوضات الإقليمية متعدّدة الأطراف مع إسرائيل التي انخرطت بها معظم الدول العربية، وشملت حوارات حول ملفاتٍ متنوعةٍ ذات طابع اقتصادي واجتماعي، ما مثّل تجسيداً عملياً للتطبيع بمعناه المعاصر.

انعكس هذا مباشرة على العلاقات التركية الإسرائيلية التي أخذت طابعاً استراتيجياً عبر اتفاق عسكري وأمني، شمل إجراء مناوراتٍ مشتركة وقنوات أمنية مفتوحة وصفقات تسلّح، حيث اشترت أنقرة معدّات عسكرية من تل أبيب، إضافة إلى تحديث دبابات وطائرات وأجهزة استشعار ومراقبة وما إلى ذلك.

انتهى هذا البعد الاستراتيجي في العلاقات مع بداية حقبة تركيا الجديدة، ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة من دون أن يعني ذلك قطيعة، وإنّما علاقات معقولة أو جيدة بشكل عام بين الجانبين. وفي هذا الصدد، لا بد من لفت الانتباه إلى حقيقة أنّ انخراط تركيا الجديدة بشؤون المنطقة جرى أولاً عبر بوابة الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال زيارة رئيس الوزراء آنذاك، أردوغان، فلسطين المحتلة لدعم عملية التسوية والمفاوضات مع الفلسطينيين، ثم توسّطه بين سورية وإسرائيل عبر شق قناة اتصال بين رئيس النظام السوري بشار الأسد، ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت.

طويت تلك المرحلة عملياً مع شن إسرائيل حرب غزة الأولى 2008، والتي عدّها أردوغان خيانة وطعنة لجهوده ووساطته، ثم سجال دافوس الشهير مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز 2009، وجريمة أسطول الحرية 2010، حيث تمّ تخفيض مستوى العلاقات، مع إبقاء السفارات مفتوحة بين الجانبين وإدارتها عبر قائمين بالأعمال، وسادت القطيعة لكن على المستوى الرسمي فقط، مع استمرار العلاقات الاقتصادية المدارة أصلاً من القطاع الخاص. وخلال هذه الفترة، أجرى الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، وساطة لعودة العلاقات إلى ما كانت عليه، وأثمرت اعتذاراً إسرائيلياً وتعويض أسر ضحايا جريمة الأسطول، ما أدّى إلى إعادة السفراء إلى مناصبهم، ولكن مع بقاء العلاقات في سياق رسمي وبارد.

وكنت تركيا قد طرحت ثلاثة شروط لعودة العلاقات إلى ما كانت عليه، وتضمّنت إضافة إلى الاعتذار، التعويض ورفع الحصار عن غزة، بينما تداخلت عوامل وأطراف أخرى، وعرقلت هذا الشرط، علماً أنه متعلقٌ مباشرة بالانقسام الفلسطيني الذي يمثّل السبب والعامل المركزي وراء الحصار متعدّد الأطراف (إسرائيلي ومصري) وغير المبرّر بأيّ حال. وهنا تشرح قصة المستشفى التركي في غزة المشهد برمته، وهو كان جزءاً من حزمة المصالحة مع إسرائيل، حيث رفضت السلطة في رام الله تشغيله، رغم الانتهاء من بنائه وتجهيزه بأحدث المعدّات. ولذلك ظلّ مغلقاً سنوات، قبل أن يجري افتتاحه استثنائياً وبشكل مؤقت ومرحلي لمواجهة جائحة كورونا.

في تلك الفترة، وصل رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو إلى السلطة، إلا أنّ وجود أوباما في البيت الأبيض كبّل يديه نسبياً، ما اضطرّه لمجاراة وساطة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لاستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية التي انهارت فعلياً في العام 2014 ومعها عملية التسوية، كما شهدناها منذ اتفاق أوسلو. بعد ذلك بدأت فعلياً حقبة دونالد ترامب – نتنياهو، وجرى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وطرح صفقة القرن الأميركية التي فهمتها تركيا، كما الفلسطينيون، وسيلة لتصفية القضية، لا حلّها حلاً عادلاً وشاملاً يرتضيه أصحابها على أساس الشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة. وبناء عليه، كان من الطبيعي أن تتوتر العلاقات التركية الإسرائيلية أكثر، وتشهد سجالات إعلامية حادّة، وصولاً إلى درجة سحب السفراء مرة أخرى (استدعت تركيا سفيرها أولاً من تل أبيب) إثر الجريمة الإسرائيلية بحق مسيرة العودة السلمية في غزة (مايو/أيار 2018)، احتجاجاً على نقل السفارة الأميركية فعلياً إلى القدس.

إلى ذلك، اعترضت تركيا على موجة التطبيع العربي الإسرائيلي أخيرا، وفهمتها أيضاً، كما الفلسطينيون، طعنة في ظهرهم وتخلّ عن قضيتهم، وتساوق مع صفقة القرن الأميركية. وفي العموم، اتخذت تركيا موقفاً من حكومات نتنياهو – ليبرمان مثل بقية العالم، بما في ذلك أوروبا وحتى أميركا نفسها زمن  أوباما. وتوترت علاقات هذه الحكومات مع معظم الدول كردّ على قطيعتها مع السلطة في رام الله ورفض استئناف المفاوضات معها، وبالتوازي شن ثلاث حروب ضدّ غزة، ارتُكبت فيها جرائم موصوفة، وفق تقارير رسمية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

في السياق الفلسطيني، لا بد من التذكير أن تركيا دعمت دائماً عملية التسوية والمفاوضات على أساس حلّ الدولتين، الحلّ الذي ما زال يمثل الموقف الفلسطيني الرسمي، المدعوم عربياً ودولياً، ويمثل إجماعاً فلسطينياً داخلياً، أقلّه حتى الآن. وقد أقامت تركيا علاقات رسمية مع قيادة السلطة الفلسطينية بصفتها القيادة الشرعية التي يعترف بها العالم، مع الانتباه إلى أن تغيير ذلك منوطٌ بالفلسطينيين أنفسهم، كما نسجت علاقات جيدة مع حركة حماس بصفتها حركة سياسية شرعية تحكم قطاع غزة، مع تقديم نصيحة علنية لها بالعمل السياسي والدبلوماسي لانتزاع الحقوق، خصوصا بعد فوزها في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

فلسطينيا أيضاً، لم تتوقف تركيا عن تقديم مساعدات اقتصادية واجتماعية متعدّدة وواسعة للفلسطينيين في الضفة وغزة، مع حضور لافت في القدس لدعم صمود أهلها بالتوازي، ودعم جهود المصالحة وإنهاء الانقسام بما في ذلك استضافة حوارات بين حركتي فتح وحماس لتحقيق هذا الهدف.

في ضوء المعطيات السابقة: ما الذي تغيّر كي تنتهي حالة التوتر والقطيعة الرسمية بين تركيا وإسرائيل التي استمرت عقداً تقريباً، ويساعد في فتح صفحة جديدة بين البلدين؟ في الإجابة، تمكن الإشارة إلى عدّة معطيات، رحيل نتنياهو ومجيء حكومة أعادت الاتصالات مع السلطة، ولو من دون أفق سياسي، ولكن برضى هذه الأخيرة وتعاونها. ورحيل دونالد ترامب وطيّ صفقة القرن، وإزاحتها عملياً عن جدول الأعمال، وانكفاء خلفه جو بايدن عن المنطقة، وخشية حلفاء أميركا، خصوصا العرب منهم، وحتى إسرائيل من تداعيات الفراغ السياسي والأمني عليهم. وهناك أيضاً اكتشاف ثروات شرق البحر المتوسط وتشكيل التحالف اليوناني القبرصي ضد تركيا المدعوم إسرائيلياً، وحتى فرنسياً وإماراتياً ومصرياً، لتقاسمها بعيداً عن تركيا وحقوقها ومصالحها. وقد سعت تركيا إلى تفكيك هذا التحالف عبر المصالحة مع الإمارات، علماً أنّ الخطوة الأولى جاءت من أبوظبي، ما مثّل اعترافاً بحضور تركيا قوة إقليمية مؤثرة، لا يمكن تجاوزها، وهو نفسه ما يجري تقريباً مع السعودية ومصر.

وفي ما يخص مشروع نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، جرى التفاوض عليه منذ ست سنوات تقريباً برعاية وزير الطاقة السابق، براق البيرق، وهو شبه جاهز تقريباً وناجع اقتصادياً، واكتسب أهمية مضاعفة مع إزاحة مشروع “إيست ميد” الإسرائيلي اليوناني القبرصي، البديل الذي كان موجّهاً ضد تركيا ومصالحها ومناطق نفوذها في شرق المتوسط.

سيرورة المصالحة والانفتاح شملت أيضاً اليونان وأرمينيا والمحيط بشكل عام، ولكن من دون التنازل عن القناعات أو المصالح التركية، ودائماً وفق القانون الدولي والمصالح المشتركة وسياسة حسن الجوار.

إضافة إلى ما سبق، دفعت الأزمة الأوكرانية مزيداً من الهواء في أشرعة الانفتاح والتقارب في المنطقة، علماً أنها أكّدت مكانة تركيا الإقليمية بصفتها قوةً لا يمكن تخطّيها أو الاستغناء عنها لحلّ الأزمات. لذلك لم تكن مصادفةً إطلاقاً أن يتزامن استقبال هيرتسوغ مع تدفق زعماء إقليميين وأوروبيين إلى تركيا ضمن المعطيات والعوامل السابقة.

في العموم، تبدو العلاقات في طريقها للعودة إلى ما كانت عليه أصلاً معظم الوقت. والآن يفترض أن يزور وزير الخارجية، مولود جاووش أوغلو، فلسطين الشهر المقبل، وستتم تسمية سفيرين جديدين، وكما فعل الوفد الدبلوماسي (ضم الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالن ومدير عام الخارجية سادات أونال)، في فبراير/ شباط الماضي، وستكون هناك زيارة إلى رام الله أولاً، للتأكيد مجدّداً على عدم التخلّي عن الفلسطينيين، ودعم الحلّ السياسي العادل لقضيتهم، ومساعدتهم اقتصادياً واجتماعياً قدر الإمكان. وكما قال وزير خارجية السلطة الفلسطينية، رياض المالكي، عن حق، يفترض أن يصب التطوّر الأخير لصالحهم، ولكن إذا ما حصل تصعيد كبير، سنرى حتماً موقفاً تركياً مختلفاً، كون العلاقات مرتبطة بالتهدئة السائدة عملياً، وإنْ بدرجات متفاوتة في الضفة الغربية وغزة، كما بالقضية الفلسطينية بشكل عام، والتي لا يمكن تجاوزها، كما قال الرئيس أردوغان مراراً وعلناً، بما في ذلك للرئيس الإسرائيلي نفسه.

السابق
بعد «فرنسبنك».. الحجز يطالُ خزنات بنك «لبنان والمهجر»
التالي
سارق يقطع المياه عن أحياء صور.. هذا ما فعله!!