كييف… شوارعها مقطّعة بانتظار «المعركة الكبرى»

كييف

الخميس، العاشر من مارس (آذار) الساعة السابعة والنصف صباحاً. القصف لم يتوقف على محيط كييف. صوت الطائرات الحربية وصفارات الإنذار وصل الليل بالنهار. دوي متقطع للقصف اشتد مع ساعات الصباح الأولى. يتردد صدى القصف في العاصمة وأحيائها الجنوب شرقية.

إلا أن أصوات القصف وصفارات الإنذار لا تعني الكثير لرجل وامرأة من موظفي البلدية، مكلفين كناسة المجمع السكني الكبير قرب شارع بيرزنيكفسكا، إذ يتابعان عملهما كأنه يوم آخر من أيام كييف المستعدة لاستقبال الربيع، ويزيلان عن الأرض نفايات الأمس وهواجسه معها.

المعلومات تتحدث عن سعي الجيش الروسي إلى اقتحام كييف. اقتراب الحشد العسكري من المدينة، وصوله إلى مسافة ستة كيلومترات. ازدحام على نقاط الخروج من العاصمة. اتهامات لروسيا بالتخطيط لاستخدام أسلحة كيماوية في اقتحام كييف. الوقت المتبقي للخروج لا يتجاوز الساعات… وغيرها الكثير من المعلومات وبعضها لا يتعدى كونه تكهنات أو حتى شائعات.

اقرأ أيضاً: لبنان إحدى ضحايا الحرب الأوكرانية

الساعة الثامنة صباحاً. الشوارع الرئيسية في كييف مقطّعة. للعبور بين ضفتي نهر الدنيبر على السائق الالتفاف وقطع ما يقارب ثلث ساعة بالسيارة قبل الوصول إلى الضفة الأخرى. على جانبي جسر المترو الرئيسي، في شرق وغرب العاصمة، تنتصب جدران إسمنتية كبيرة ربما تبلغ ثلاثة أمتار ارتفاعاً. وبينما لا تظهر طبيعة الوجود العسكري خلف هذه الجدران إلا أن جنديين يقفان من كل جهة يرشدان العابرين إلى التحويلات في الطرق وسبل الالتفاف.

الشوارع أيضاً، لا تخلو من تحويلات وتقاطعات جديدة، بعضها أغلق بالكامل أمام حركة المرور. على جانبي الطرق، يمكن أن تشاهد نتائج التحويلات المرتجلة: سيارات مهجورة تعرضت لحوادث سير، بينما التحصينات المرتجلة من أكياس الرمل أو السواتر الترابية المنخفضة ليست مصممة تماماً لمنع توغل القوات الروسية كما يبدو، وإنما لإعاقة التقدم وإبطائه وإعطاء المدافعين عن المدينة نقاطاً للمناورة والعبور بين المجمعات السكنية، أو حتى القتال والتراجع ونصب الكمائن.

يُفتح باب أحد الفواصل الخشبية الموضوعة لحماية المارة من ورشة بناء كبيرة. يخرج شابان يرتدي أحدهما سترة عسكرية ويظهر على جنب الآخر مسدس لم يحسن إخفاءه. يتجهان إلى كشك صغير لبيع الدخان والقهوة، تهز البائعة برأسها، يخرجان ويقتربان من مدخن في الشارع، يطلبان سيجارة، يعطيهما ويلوح بيده إلى مكان بعيد، يبدو أنه المكان الذي اشترى منه السجائر. ومن الباب نفسه يخرج المزيد من الشبان، أغلبهم بثياب عسكرية غير نظامية، يضرب أحدهم الأرض بقدميه لتدفئتهما. يستمر خروج الشبان كل بضع دقائق، ما يشير إلى وجود العديد من عناصر الميليشيا في هذا المبنى قيد الإنشاء قرب جسر مترو سلافوتيش (الجسر الجنوبي في العاصمة).

أمام متاجر التخزين يسير رجل عجوز برفقة كلبه. ينتظر الرجل بصبر ليقضي كلبه الصغير حاجته. للأسف لم يفهم الرجل سؤالي عن اسمه وسنه، لكنه وافق على التقاط صورة له. قريباً منه بدأ طابور التسوق يزداد، وامرأة تسأل إن كان الصراف الآلي القريب لا يزال يعمل.

المواد الغذائية تتناقص. المتاجر القليلة العاملة رفعت الكحول عن رفوفها امتثالاً للقوانين الأوكرانية بحالة الحرب. لم يعد هناك سكر. الكثير من الرفوف خلت من محتوياتها. الأجبان تتناقص. الخبز لم يعد يعرض بالكميات السابقة. ربما لم تبدأ الحالة المأساوية بالسيطرة على هذا الجزء من العاصمة، إلا أن الحرب بدأت تعضها أيضاً.

يتجاوز الباص الأصفر الشهير في المدينة المحال التجارية المغلقة، ويتابع سيره ما أمكن على الطرق السالكة. محطات المترو هنا لا تزال تستقبل اللاجئين من القصف عند صدوح صفارات الإنذار. وفي الشوارع المشمسة ولكن الباردة مجموعة صغيرة من الشبان والشابات يستمعون إلى الأخبار عبر تلفاز صغير. صور الجنود الروس القتلى في المعارك تنقل على الهواء من دون رقابة كما يبدو.

في الميدان، ينتظر الجميع معركة كبرى. كييف تنتظر حصارها. الجيش الروسي يزحف ببطء ليغلق منافذها أو ربما ليحاول اقتحامها مباشرة. ومن مشهد التحصينات في الطرق، وبعض المجمعات السكنية الخالية حيث انتشر شبان من الميليشيات المحلية بأسلحتهم غير الظاهرة، يمكن الاستنتاج ببساطة أن الطرفين يستعدان لمعركة شرسة وقد تكون طويلة.

لا يمكن رصد أي حركة عسكرية نظامية في المناطق السكنية، على عكس بعض الحدائق العامة الكبيرة، حيث ما إن تنزلق على الجليد صباحاً فاقداً هاتفك تجد جنديين نظاميين يركضان باتجاهك. بين محاولة النهوض والبحث عن هاتفك تتساءل من أين ظهرا. يساعدك أحدهما بالنهوض بينما يلم الآخر الهاتف المحمول وهما يتحدثان بالأوكرانية، ثم مع الإجابة بالإنجليزية يبدأ أصغرهما سناً بسؤالك إن كنت بخير، حينها فقط تلاحظ تحت إحدى شبكات التمويه العسكرية، على مسافة عشرات الأمتار، تركن عدة عربات مدرعة وشاحنات عسكرية ثقيلة، بينما تخفي شبكات تمويه أخرى بشراً أو ربما معدات أخرى تحتها.

ورغم عدم وجود الجيش النظامي في المناطق السكنية، وانحصار الوجود العسكري فيها على الميليشيات شبه العسكرية من الشبان المحليين، فإن الوضع الحياتي فيها والانتظام العام لا يزالان متماسكين. سيارات الشرطة تدور في الأحياء السكنية، وقد استبدل عناصرها العصي المطاطية والمسدسات ببنادق الكلاشنيكوف الهجومية، وتجولوا في المجمعات السكنية والشوارع الرئيسية بهدوء. ليلاً وحدها سيارات الشرطة تتحرك في الشوارع لضبط أي مخالفة لحظر التجول.

السابق
استدعاء الصحافي محمد نمر بإخبار من رئاسة الجمهورية!
التالي
عبدالله حداد يعلن لرشحه: «من أجل لائحة واحدة لقوى الثورة والتغيير»