أصداء من سيمفونيا «الجريمة والعقاب»

نزوح في اوكرانيا

1

خطوة مهمة أقدّم عليها لبنان

فيها الكثير من المجازفة لكنْ فيها الكثير من الشجاعة هي البيان الذي صدر عن وزارة الخارجية في بداية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا و أدان هذا التدخل. ما ظهر وكأنه مجازفة وعمل خاطف من جهات في أعلى هرم الدولة تحوّل إلى سياسة الدولة بعد التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة برفض الاستخدام الروسي للقوة في أوكرانيا.
هكذا يبدو البلد الصغير المثقل بحرّاس انقساماته الداخلية وقد أفلت في لحظة غير محسوبة من هؤلاء الحراس الخارجيين والداخليين ليقوم بلعبة بين الكبار ولكنها تتطابق مع شخصيته العميقةِ الانحيازِ الثقافي والسياسي للغرب.
إنها لحظة أصيلة ولو على أرض سائلة.

اقرأ أيضاً: «سيناريوهات صعبة»..كيف تُرسم نهاية الغزو الروسي لأوكرانيا؟

بهذا المعنى غامر البلد الصغير الذي صعدت جروحه الاجتياحية إلى حيث تدفعه نحو نوع من “الانتقام”، لا من قوة كبرى كروسيا التي يكنّ لها اللبنانيون فعلا مشاعر الود والصداقة ولكن لينتقم من نفسه إذا جاز التعبير على ماض وحاضر ارتهانيّين يتفنّن فيهما المدجّجون بكل أنواع الأخوّة الخانقة ليمنعوا البلد الصغير من نفسه وبشكل دائم ومنهجي.
لكن “الثورة” التي مثّلها بيان وزارة الخارجية، ولاشك أن رئيس الجمهورية ميشال عون وافق عليه عبر وزيره عبدالله أبوحبيب وبدعم من رئيس الوزراء نجيب ميقاتي وتأكد ذلك في التصويت الأممي، هذه “الثورة” تحمل مأساةً مؤجلة. فقد تخلخلت فكرة الحياد اللبناني وانكشف لاحيادها. على هذا المستوى طغت روح الدولة الصغيرة المعذَّبة على حكمة الحياد المطلق وظهر الشبق الانحيازي للغرب في لحظة حقيقيّة جدا ويريدها معظم الشعب اللبناني.
ضرب بعض لاعبي البلد الصغير ضربتهم في لحظة غفلة أو تجلّي لا فرق. سيأكل الولد الصغير علقة وينال جزاءه على لعبة أكبر منه ولكنها لعبة ستبقى في تاريخه المضطرب.

هو ليس بيانا ضد، بقدر ما هو بيان مع الذات في اللاوعي الجَماعي اللبناني.أنا أجد فيه شخصية البلد، “حماقته” المحترمة والطريفة والضرورية، وعجزه غير المحسوب في لحظة كبيرة من حطامه الزجاجي المنثور. لقد مشى لبنان في نومه وكما يفعل الأطفال المصابون بعارض المشي خلال النوم، قال ما يكمن في أعماقه، في لاوعيه، من خوف ورغبة. ثم بعد ذلك استيقظ في أروقة الأمم المتحدة وتابع في الوعي التام ما يريده في “اللاوعي”.
سبق للبنان الحديث الاستقلال، أن أعلن الحرب على ألمانيا واليابان عام 1945 بعد خسارتيهما الحرب (طبعا)، وكانت تلك نصيحة تحظى بإجماع المنتصرين لكي يتمكّن من المشاركة في مؤسسات ما بعد الحرب، ولاسيما مؤتمر سان فرنسيسكو، وليصبح أحد الأعضاء المؤسسين للأمم المتحدة، أما اليوم فهو يقتنص فرصة جزء من سلطته ليرسل رسالة إلى حيث يحب أن يكون. فعلها. ونحن مع هذه “الحماقة” الحكيمة والشجاعة.

2
عالم مختلف بين ليلة وضحاها

” نمنا في عالم واستفقنا على عالم مختلف” قالت وزيرة الخارجية الألمانية صباح اليوم التالي للغزو، “ولن يكون العالم نفسه بعد الآن” قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. عالم مختلف إذن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا؟
عالم مختلف؟ هل هي زلة لسان أن يقول الناطق باسم الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن الفارق بين الغزوتين الأميركيتين لأفغانستان والعراق وبين الغزو الروسي لأوكرانيا هو كون الأخيرة تجري “في بيتنا” و ” و”على بعد كيلومترات من بولونيا ورومانيا” العضوتين في الاتحاد الأوروبي وفي أوكرانيا التي هي في قلب القارة الأوروبية شرقها ووسطها وجنوبها؟
سنرى إذا كنا أصبحنا في عالم مختلف وسيكون ذلك اختبارا طال انتظاره لمعنى الوجود الروسي وحجمه الممتد بين في أقصى الشرق بين المحيط الباسيفيكي وفي أقصى الشمال الأوروبي بحر البلطيق.

هل سيكون بوتين راسكولنيكوف في “الجريمة والعقاب” لدوستويفيسكي حاملاً معه الوزر الرهيب للعقاب حتى قبل اقتراف “الجريمة”، فكيف بعدها ؟ روسيا الباحثة الدائمة عن مكان ثابت والمعبّرة عن قلق كياني وحضاري عظيم لم تستطع لا منتصرةً في الحرب العالمية الثانية أن ولا مهزومةً في نهاية “الحرب الباردة” أن ترتاح منه؟
..كأننا في حلقة جديدة من مسلسل مضت عليه قرون فهل وقعت روسيا، الروسيا مع أل التعريف، في الفخ هذه المرة أم أن علينا أن ننتظر بعد مستقبلا طويلا آخر؟
ما يشغل البال في الأيام القليلة التي انقضت على انفجار الصراع أنه لا بوادر أوروبية أو أميركية تسووية جوهريا فلا أحد في الطرف الغربي يتحدّث الآن عن إمكان التفاوض على إلغاء مشروع (أو نية) عضوية أوكرانيا في حلف الناتو وهي النقطة الجوهرية في الرفض الروسي، فيما هل ستقطف أوكرانيا عضوية الاتحاد الأوروبي التي لم تكن محل إجماع سابقا بين أعضائه؟

3
المستقبل يشاطِئنا لكننا لانشاطئه

عاد المستقبل يتشكّل قريبا من شواطئنا في قبرص واليونان وتركيا ومصر، والدولتان الأوليان عضوان في الاتحاد الأوروبي، ومصر المدماك الكبير للجامعة العربية التي ننتمي إليها هويةً وإطاراً، يمكنها أن تمثل التوازن المنتج والفعال في خياراتنا العربية والمتوسطية.
المستقبل يشاطئنا ونحن فاقدو الإرادة السياسية للمساهمة في رسمه بما ينسجم مع ثوابتنا ولكن في الآن معا بما يطور إجماعا وطنيا على خيار متوسطي طالما رآه قادة سياسيون وقادة رأي ولم توفّر لهم مداهمات التاريخ المحيط فرصة لبلورته في ظروف بنّاءة. ولاسيما الظلامة المريعة التي تعرّض لها ويتعرّض لها الشعب الفلسطيني على أيدي نظام الأبارتايد الإسرائيلي وأنماط استخدامه لتبطيىء عجلة التاريخ التي يشقها طريقها الشعب الفلسطيني طريقها بالمحراث النضالي على أرض تعمل عليها آلة قمع إسرائيلية متطورة تحرث بالكومبيوتر. ولكن من حسن الحظ أنها لا تستطيع أن تتلاعب بالوعي الضميري الحي للكثير من النخب في أوروبا وأميركا وبعض العالم.

أما نحن في لبنان فلقد “جاءتنا” ثروة الغاز البحرية كنعمة من الأقدار. شاطَأْتْنا ولكن دلّت الطريقة والذهنية والاستتباعية التي تعاملنا فيها معها أننا لم نشاطِئْها، بمعنى، بل بكل المعاني، أننا أهدرنا الوقت، تارةً في التفتّت المتواصل لإرادتنا الوطنية، وطورا في العمالة، العمالة الوطنجية، حتى أننا لم نصبح مستعدين بعد سنوات لاقتناص “فرص” عديدة وآخرها التأزم الأوكراني داخل أوروبا، الفرصة التي يمكن أن تعزز الحاجة إلى غاز البحر الأبيض المتوسط، بينما استعدت مصر وإسرائيل لذلك، حتى أن تركيا قدّمت عرضا معلنا لإسرائيل وفي تصريح لرئيسها رجب طيّب أردوغان، غير آبه بصديقه الإيراني، لنقل الغاز الإسرائيلي إلى إوروبا كأنه كان يستشرف نوعا من الصعوبات الآتية في ضخ المزيد من الغاز الروسي إلى الاقتصاد الألماني العملاق.

يمنعنا الاستتباع من استثمار الوقت والثروة فيما نحن جائعون ومؤسساتنا منهارة، وتمنعنا أيضا من اكتناه آفاق الحياد الذي لا تنسجم روحه مع تكوين دولة في المنطقة كما تنسجم مع التكوين اللبناني. الحياد اللبناني في الصراعات العربية والنأي بالنفس العسكري في الصراع مع إسرائيل مع تعزيز الانتماء الثقافي والمدني لخط دعم الشعب الفلسطيني كما تريد وتعبِّر عنه اليوم الأغلبية المحسومة من الشعب اللبناني، مسيحيين وسُنّةً ودروزا وجزءاً مهماً من نخب الشيعة وجمهورهم.

السابق
لبنان يُبرر لروسيا موقفه بتصريح فاضح.. مسؤول أقنع عون بمجاراة الأميركي!
التالي
العرب غير منحازين لكن الحياد له ثَمَن