حركة عقارية نشطة في مناطق لبنانية..تلاعب بالتوازن الديموغرافي؟

لبنان

في إحدى الضواحي البيروتية العريقة التي كان يطمح الأثرياء إلى سكنها، بيعت شقة ثمنها في أيام الفورة العقارية نحو 500 الف دولار، بمئة وخمسين ألف دولار نقداً.

صاحب الشقة من الذين فقدوا مدخراتهم في لعبة المصارف وهو حزم حقائبه تاركاً لبنان إلى غير رجعة. بالنسبة إليه الحصول على المبلغ النقدي في الظروف الراهنة مهما كانت قيمته، يعادل قبض ثمنها في أيام الدولار الذي كان يوازي 1500 ليرة، وهو بديل عن ان يقبض ثمنها شيكاً مصرفياً بـ 500 الف دولار، من المصرف الذي لن يعطيه منه إلا أقل من ربعه.

في أيام الحرب العالمية الأولى حين ضربت المجاعة جبل لبنان، إضطرت عائلات كثيرة إلى بيع أملاكها بالقروش القليلة من أجل تأمين الطحين والطعام لأبنائها. في تلك المرحلة كُتب الكثير عن الفورة التي عاشتها عائلات من أغنياء جبل لبنان، تمكّنت بفعل المجاعة من تحصيل مساحات واسعة من الأراضي وعقارات ومنازل ما زالت إلى اليوم تتوارثها أجيال هذه العائلات منذ أكثر من مئة عام.

إقرأ أيضاً: أول «نقابة ونقيبة للنفسانيين» في لبنان..ديراني لـ«جنوبية»: إنجاز كبير لتحصين المهنة

ولم تكن العائلات وحدها التي حققت ثروات طائلة بفعل المجاعة والمضاربات الإقتصادية وسوق القمح والطحين. فهناك مؤسسات دينية أيضاً وهي معروفة بأملاكها الشاسعة تمكنت من شراء أراضٍ مقابل تأمين الطعام للعائلات التي تقصدها لرد الجوع عن أبنائها.

كان جنبلاط أكثر الذين تخوّفوا من الإمتداد الشيعي إلى مناطق الوجود الدرزي عبر شراء متموّلين شيعة أراض فيها

منذ أن ضربت الأزمة المالية – الاقتصادية الهائلة لبنان قبل أكثر من عامين، والكلام عن الأموال النقدية «الكاش» هو السائد بعدما تنوّعت الإجراءات المصرفية في التضييق على أموال اللبنانيين وعدم تمكنهم من سحب مدخراتهم.

ونشطت على وهج الإنهيار المالي المتمادي سوق العقارات في بعض المناطق، فبدأت حركةُ بيعٍ خفيفة ومن ثم إرتفعت وتيرتها تدريجاً بعدما بدأ لبنانيون ممن يودعون أموالهم في الخارج أو يعملون في أفريقيا ودول خليجية بشراء عقارات من أرضٍ وشقق.

ويستفيد هؤلاء من التفاوت بين أسعار الدولار والليرة اللبنانية، وبين الشيكات المصرفية التي فقدت أكثر من ثمانين في المئة من قيمتها الحقيقية.

ولأن الرهان على أن الوضع اللبناني لا يمكن إلا أن يستقر يوماً ما، ولو بعد حين، فإن رجال الإعمال والمطوّرين العقاريين، يعملون مسبقاً على إستثمار أموالهم في مشاريع عقارية، مستفيدين من رغبة لبنانيين في الإستثمار في عقارات كإستثمار آمن بعدما فُقدت الثقة في المصارف. وهؤلاء ليسوا وحدهم.

لكن سوق العقارات في لبنان ليست إقتصادية فحسب، بل سوق سياسية وطائفية. من هنا تتفاعل بعض المخاوف من أن تؤدي حركة الهجرة مصحوبة بضياع المدخرات وفقدان السيولة، إلى مزيد من حركة البيع والشراء غير الصحية على الإطلاق، ولا تعبّر عن إزدهار إقتصادي.

فخلال الحرب اللبنانية ورغم موجات التهجير، ظلت حركة البيع في المناطق اللبنانية مقيّدة، ولم يُسمح ببيع أراضٍ من طوائف لمصلحة طوائف أخرى، ولم يكن هذا القرار رسمياً إنما جرى إعتماده تلقائياً بفعل بعض موجات التهجير كما حصل في مناطق الشوف وعاليه حيث منع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط بيع أملاك المسيحيين المهجّرين لأي طائفة أخرى بما في ذلك الدروز.

وبعد الحرب فلتت الأمور، فسُجّلت عمليات بيع مكثفة ولا سيما في المناطق المسيحية من الجنوب إلى الشمال. لكن بعض المناطق ولا سيما في جبل لبنان سعت إلى الحد من حركة البيع لمَن هم من غير أبنائها أو الذين لا ينتمون إليها طائفياً، بذريعة الحفاظ على النسيج الإجتماعي والديني وعدم فتح الباب أمام إمتداد الأحزاب والطوائف إلى غير مناطقها تَجَنُّباً للتلاعب بالتوازن الديموغرافي.

وفي هذا الإطار كان جنبلاط أكثر الذين تخوّفوا من الإمتداد الشيعي إلى مناطق الوجود الدرزي، وكان متوجّساً من عمليات بيع أراض لرجال أعمال ومتموّلين شيعة.

وكان لافتاً في تلك المرحلة أيضاً منع بلدة الحدث (وهي مؤيدة لـ«التيار الوطني الحر») الواقعة في ضواحي بيروت على مقربة من بعبدا والقصر الجمهوري، عملياتِ بيعٍ لغير المسيحيين، بتنسيق مع «حزب الله» حليف التيار، تفادياً لتغيير هوية البلدة المسيحية. في المقابل سُجلت عمليات شراء في المقابل لمصلحة طوائف بغية الحفاظ على اللون الواحد، كما حصل حين إشترت مجموعة من رجال الأعمال والرهبانية المارونية والمؤسسة المارونية للإنتشار المجمع الجامعي في كفرفالوس شرق مدينة صيدا من ورثة الرئيس الراحل رفيق الحريري، حتى لا يتم بيعه لمَن هم من خارج المنطقة.

ومع الانهيار الاقتصادي الحالي، نشط بعضُ رجال الأعمال في عمليات وصفقات بيع عقارية، وخصوصاً في مناطق يَعتقدون أنها ذات مستقبلٍ إستثماري زاهر. وقد بدأت القصةُ في بيروت بعد إنفجار المرفأ ومحاولة سماسرة بعد أيام قليلة على الإنفجار وتضرُّر آلاف المنازل العمل على تقديم عروض وصفقات عقارية ولا سيما أن المناطق المتضررة كانت في الأحياء القديمة والتي سكنها عجزة تضررت منازلهم ولا قدرة لهم على ترميمها.

وبعد إعادة الإعمار الجزئية ظلت حركةُ العروض الإعمارية مزدهرة، وتركزت أكثر بعد إنخفاض سعر الليرة. وبحسب ما يتردد من معلومات فإنه في مقابل ركود في سوق العقارات بعد نشوب الأزمة، ومن ثم نشاطها بسبب لجوء المدخرين إلى إستخدام الشيكات المصرفية لتسديد ثمن شقق جديدة، عادت السوق تنشط ولكن ليس من باب الازدهار الإقتصادي، إذ أن العروض تتوسع في مناطق جبلية في جبل لبنان وبعض المناطق الساحلية القريبة من بيروت، حيث تكثر حركة سماسرة للتسويق لشراء عقارات أو شقق بالدولار الطازج.

تتحول عمليات البيع إلى فرز سكاني لكن هذه المرة بفعل سلاح الدولار وليس الحرب العسكرية

وهذا الأمر يغري عائلات تفتش عن مصدر رزق أو تبحث عن وسيلة لتغطية تكاليف طبابة وإستشفاء أو تحصيل علمي لأولادها خارج لبنان. وهذا الأمر يثير الريبة كونه يمكن أن يطيح بالخطوط المرسومة طائفياً وسياسياً في منع توسع طوائف وأحزاب على حساب طوائف أخرى. فمَن يملك الدولار الطازج يتحكّم بالسوق اليوم.

والخطورة مع إرتفاع مستوى الهجرة غير المسبوق وتراجع قيمة الرواتب والقدرة المعيشية أن يصبح التسلل في عمليات البيع والشراء أكبر من مجرّد رغبة متمولين أو مَن يعملون خارج لبنان بالإستثمار فيه عقارياً ولو بأسعار مخفضة. فتتحول عمليات البيع نوعاً من «حروب صغيرة» سبق أن عاشها لبنان وأدت إلى فرز سكاني لكن هذه المرة بفعل سلاح الدولار وليس الحرب العسكرية.

السابق
السيد فخر الدين أبو الحسن في ذمّة الله..نصف قرن من التحقيق والعمل الاسلامي
التالي
منازلة إنتخابية في بيروت الثانية..و«الحريرية» متوجسة من حركة السنيورة!