في لبنان..بقعة الدم كـ «بقعة زيت» آخذة بالانفلاش!

جريمة قتل

. تُضبط السلطة في لبنان، يوماً بعد يوم وبـ «الجرم المشهود»، متلبّسةً بفظائع اقتياد الناس إلى ما بات يُعرف في بيروت بـ«جهنم» المالي – الاقتصادي والاجتماعي – المعيشي وكل ما يتصل بميادين الحياة، من صحة وتعليم وتَنَقُّل وما شابه.

لبنان، الذي تَمَرَّدَ على دمه ودموعه مراراً وتكراراً يوم غَزَتْهُ حروبُ الآخَرين وحربُ «قبائله» السياسية والطائفية، ها هو يسقط اليوم، بـ «الضربة القاضية» بعدما استشرس مَن بيدهم «الحل والربط» في جعله لقمة سائغة بفم الشرّ المستطير.

ولم يكن أدلّ على الانهيار المخيف الذي يعصف بلبنان، من الأرقام الصادمة عن الجوع والبطالة والهجرة والتسرّب المدرسي وفقدان الأمل، وهي مؤشرات تحصد نتيجة أكثر مأسوية وإيلاماً اسمها الجريمة ومعدّلاتها المتزايدة والمرعبة.

بلادُ الشِعر والموضة والابتكارات العلمية والاقتصاد الحرّ والحداثة و«السابقة عصرها»، تكاد أن تتحول بؤرة إجرام. فمع كل طلعة شمس أخبار عن جريمة مروعة تُرتكب بدافع الهستيريا الاجتماعية الناجمة عن واحد من مظاهر سقوط الدولة التي ينحرها المُمْسِكون بقرارها بـ… دم بارد.

إقرأ ايضاً: خاص«جنوبية»: لوحات السيارات في الضاحية «تطير» .. وتخوف من سيناريو أمني خطير!

في نشرتها الشهرية تفيد «الدولية للمعلومات» بأن نسبة البطالة في لبنان أصبحت تقارب نحو 35 في المئة من حجم القوى العاملة، أي أنّ عدد العاطلين عن العمل يراوح بين 470 ألفاً و500 ألف.

وفي دراسةٍ نشرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا «الإسكوا»، تبيّن أن الفقر بات يطول 74 في المئة تقريباً من مجموع السكان، والفقر المدقع وانتشار الحرمان يطول 34 في المئة، وفي بعض المناطق اللبنانية يطول أكثر من نصف السكان.

وإلى هذه الأرقام، لوحظ ارتفاع كبير في أعداد المدمنين الذين يطلبون المساعدة، وفي حالات الانتكاسات للمدمنين السابقين أيضاً. وبحسب التقارير وصلت نسبة ارتفاع عدد المدمنين على الممنوعات إلى 20 في المئة عما كانت عليه قبل ثورة 17 أكتوبر 2019.

كل هذه الأسباب مُجْتَمِعَةً ولّدت من رحم المجتمع المقهور ظاهرةَ انتشار الجرائم على أنواعها، وأقساها بلا شك جرائم القتل التي ارتفع معدلها في العام 2021 بنسبة 101 في المئة عن العام 2019، بحسب إحصاءات الدولية للمعلومات.

ويبدو أن سنة 2022 ستكون أكثر سودوية حيث دهمتْها جرائم القتل منذ الشهر الأول لتُلْقي بظلالها القاتلة على المجتمع المتخَم بالأزمات.

وفي حين تبدو الجرائم فرديةً ومتفرقةً ولا يَجْمع بينها خيطٌ، إلا أنها تُرتكب جميعها تحت جنح الارتطام الكبير الذي ينزلق إليه لبنان ويجعل مواطنيه يدورون في حلقة مفرغة بين الفقر والإحباط وتعاطي الممنوعات، وصولاً إلى الجريمة رغم سعي قوى الأمن الداخلي لضبط الأمن قدر الإمكان وتوقيف منفذي الجرائم.

جرائم متسلسلة

عندما يسود الجوع وتتفكك الدولة ويحكم الطغيان، تطفو الانحرافات ويعلو حس الانتقام وتنتشر شريعة الغاب والنتيجة جرائم هنا وهناك…

مقتل طبيب الأسنان الشاب إيلي جاسر، في منطقة أبلح البقاعية، شكل صدمةً حقيقية للمجتمع اللبناني لأن دوافع الجريمة لا يصدّقها أي عقل… فما أشيع عن أن الطبيب راح ضحية رجل غاضب عنيف من بلدته، لم تعجبه نتيجة عمل الطبيب المغدور على أسنان خطيبته فقام بعد التلاسن معه بطعنه ثماني طعنات في أنحاء مختلفة من جسمه، تسببت اثنتان منها بالوفاة.

وفي أواسط يناير، وفي بلدة بشري الجبلية، وُجدت جثة أحد أبناء البلدة مرميةً على مدخل منزله مصابة بطعنات سكين… ونتيجة الاستقصاءات تم تحديد هوية الجاني، وهو لبناني من مواليد 1993 وتمكّنت القوى الأمنية من توقيفه، في بلدة قريبة. وقد اعترف بارتكابه لجريمته، نتيجة شجار حصل بينه وبين الضحيّة، لأسباب مادّيّة.

بلادُ الشِّعر والموضة والابتكارات العلمية والاقتصاد الحرّ والحداثة و«السابقة عصرها» تكاد أن تتحول «بؤرة إجرام»

وقبل انقضاء العام المنصرم، كشفت القوى الأمنية عن لغز اختفاء ابن بلدة حوش الأمراء في البقاع، جوزف حبيب، بعدما خرج من منزله منتصف الليل ثم اختفى وانتفت أخباره وانقضى أسبوع كامل وعائلته تنتظر ولا سيما بعدما وُجدت سيارته متروكة على طريق شتورا مفتوحةَ الأبواب والنوافذ، إلى أن كانت الفاجعة بعدما وصلها خبر مقتله على يد 3 شبان يحملون الجنسية السورية.

ولم يكتفِ القتلة بخنقه، بل طعنوه طعنات عدة في صدره، قبل أن يضعوه في كيس بلاستيكي ويرموا به في أحد مجاري الصرف الصحي.

فتّش عن الأسباب المادية

مسلسل الجرائم بدأ يرسم طريقه الأسود صعوداً بدءاً من أواسط 2021. ففي بداية ديسمبر الماضي، عُثر على جثّة رجلٍ مجهول الهوية في محلّة الرملة البيضاء في بيروت، مصابة بجروح، ومرمية أسفل الجرف.

واستطاعت القوى الأمنية القبض على مرتكبي الجريمة الذين اعترفوا بتنفيذها، بدافع الانتقام، وأقروا باستدراج المغدور، إلى بلدة الدامور لتناول طعام الغداء، ودسّوا في طعامه مادّة جعلتْه يفقد التركيز والقوة، وأجبرتْه بعدها شريكةٌ في الجرم على تناول كمية أخرى من المادة ذاتها، أدّت إلى وفاته. ثم وضعوا جثّته في صندوق سيارته، وتوجهوا بها إلى محلّة الرملة البيضاء ورموها من أعلى الجرف.

وقبل ذلك بأيام وفي منطقة الدامور الساحلية، أطلق أحد المواطنين عيارَيْن ناريّيْن من بندقية صيد باتجاه شقيقه نتيجة خلاف بينهما، فأصابه في صدره وأرداه قتيلاً، ثم لاذ بالفرار إلى جهةٍ مجهولة.

واستطاعت شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي توقيف المجرم الذي اعترف بقتل أخيه، بسبب خلافات على الميراث وضبطت بحوزته البندقية المستخدمة وسكينَين.

وكأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد هزت أكثر من جريمة مزدوجة لبنان في الفترة الأخيرة، وكان أشدّها هولاً ما جرى في مدينة طرابلس وفي منطقة المنكوبين بالذات، حيث أقدم محمد عبدالناصر إبراهيم، وهو في الثلاثين من عمره، على إطلاق النار على شقيقته ذات الـ13 عاماً وهو في حال سكر وإدمان، ما أدى إلى مقتلها على الفور.

وبسبب هول الصدمة، أطلق والدهما، وهو عسكري متقاعد من الجيش، النار على ابنه الجاني، ليرديه قتيلاً على الفور. وقيل ان الابن، الجاني والقتيل في الوقت ذاته، كان يتعاطى الممنوعات التي باتت السبب الأكبر وراء غالبية جرائم القتل.

وفي جريمة مزدوجة أخرى، فُجعت منطقة فرن الشباك الساحلية بحادثة عنف جديدة من مسلسل حوادث قتل النساء والفتيات في لبنان، حيث أقدم أحد الشبان على إطلاق النار على صديقته وأصابها في خاصرتها، ثم أطلق النار على رأسه، وفارق الحياة على الفور.

وقبل ذلك، وفي جريمة لم يتوقف عندها الرأي العام طويلاً، أقدم مواطن على إطلاق النار من بندقية صيد داخل غرفة فندق في ساحل كسروان على صديقته سورية الجنسية فأصابها بجروح خطرة، ثم أطلق النار على رأسه ما أدى إلى وفاته على الفور… وأكدت وسائل إعلام أنَّ المرأة هي زوجته.

وفي طرابلس، التي تَرتفع فيها نسبة الفقر والتي باتت أحزمة البؤس تشكل الحيز الأكبر منها، قام شاب في محلة ضهر المغر في منطقة القبة، بضرب جدّته بسكين ما أدى إلى وفاتها.

أما في الجنوب، فقد عُثر على أحد المواطنين جثّة هامدة مخنوقاً داخل منزله الذي تَعَرَّضَ للسرقة، وهو مكبّل اليدين والقدمين بواسطة سلك كهربائي ورباط بلاستيكي. وتمكنت القوى الأمنية من توقيف الجانييْن اللذين اعترفا بتنفيذهما جريمة القتل بدافع السرقة، بحيث إنّهما قاما بتكبيل المغدور وخنقه بواسطة ملابسه، ومن ثم سرقة ما توافر في منزله.

النساء:الحلقة الأضعف

في جرائم القتل وفي خضم جرائم القتل، تتوالى تلك التي تطول النساء في شكل خاص، وكان أبشعها في الأشهر الستة الأخيرة من 2021، تلك التي أصابت المواطنة أحكام درباس، التي عثر على جثتها داخل حقلٍ مقابلٍ لمنزلها، ولم يُعلم إن كان المجرم استدرجها من بيتها وجرّها إلى الحقل وطعنها نحو 8 طعنات في ظهرها وضرَبَها بحجر أسفل رأسها وبعصا غليظة، ليدفنها بعدها في الحقل، أم أنه تهجّم عليها في الحقل حيث اعتادت جمع الحشائش.

جريمة مروعة أخرى حصلت أواسط الصيف الماضي، وهذه المرة داخل أحد المخيمات الفلسطينية طالت امرأة أيضاً. وفي تفاصيلها أنّ الضحية كانت تعمل في المنازل لإعالة أولادها السبعة بسبب مرض زوجها وعدم قدرته على العمل، وبعد خلاف مع الأخير بسبب حصص تموينية قامت بتوزيعها على الفقراء، أقدم على إطلاق الرصاص عليها من سلاح حربي أمام ابنتيها القاصرتين اللتين كانتا حاضرتيْن ساعة الجريمة.

وفي متابعةٍ لأخبار الجرائم، تطول اللائحة وتزداد الأرقام التي تسجلها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، فقد شهد لبنان بحسب إحصاءاتها خلال الأشهر العشر الأولى من العام 2021 نحو 163 جريمة قتل، هذا دون أن نذكر شهري نوفمبر وديسمبر اللذين سجلا ارتفاعاً ملحوظاً في عدد جرائم القتل ومثلهما الشهر الأول من 2022. ولكن كيف يشرح علم النفس هذه الجرائم ويبرر أسبابها؟

ظروف قصوى تحفَّز الاستعداد الجرمي

يقول رئيس جمعية Emdr للعلاج النفسي جون داوود، إن «ما يحدث في لبنان من أزمات هو المحفز الذي يدفع ببعض الأشخاص، ممن يملكون شخصية غير قادرة على الانتماء، إلى الذهاب نحو الحلّ الأسهل بالنسبة إليهم وهو ارتكاب الجرائم على أنواعها. فالجوع كافِر، ومَن لا يلقى في ذاته الشجاعة والقوة لمواجهة تحديات الحياة لا بد أن يلجأ إلى حلّ يراه قادراً على تأمين متطلباته».

ويؤكد أن ليس كل إنسان قادر على مواجهة تحديات الحياة وأبرزها العمل، الحياة الاجتماعية والحياة الحميمة لا بل أن ثمة نوعين من الناس «مَن يملك الشجاعة لمواجهة هذه التحديات ويسعى جهده لإتمامها من خلال تبني طريقة بنّاءة وإيجابية ترتكز على التعاون والعمل مع المجتمع وتعميم الخير على الجميع.

والنوع الآخَر مَن يختار، لنقصٍ في الشجاعة عنده، الطريقَ السلبي المدمّر.

وهؤلاء يعتقدون أن الحياة سيئة ولا بد أن يربحوا مهما كان الثمن. لا يقدّرون الخير المشترك ولا يهتمّون بمشاعر الآخَرين ويحاولون تَسَلُّقَ سلّم الحياة على أكتاف سواهم. هؤلاء الأشخاص المحبِطون الذين لا يملكون الشجاعة، قد يصلون إلى حد الإجرام لتحقيق أهدافهم أو لتحصيل لقمتهم».

ويضيف «ما نعيشه اليوم في لبنان، ظروف قصوى تجعل عملية الانتماء صعبة جداً. فالناس فَقَدوا أموالهم وأعمالهم ورواتبهم ولا يستطيعون تعليم أولادهم أو حتى تأمين لقمة العيش لهم، ولذا فهذه العوامل مجتمعةً تحفّز السلبيةَ عندهم وتزيد من عدم قدرتهم على المواجهة. وحتى الإنسان الإيجابي الشجاع حين يجد نفسه محاطاً بالخيارات السلبية، يصبح جاهزاً للسرقة أو الابتزاز إذا كان مضطراً لذلك لإطعام أولاده أو تطبيبهم وتأمين الدواء لهم».

في شكل عام يقول الاختصاصي النفسي، إن «الأشخاص الإيجابيين يفضّلون العمل بأي شغل يجدونه أمامهم حتى أدنى الأشغال على الاتجاه نحو الإجرام. أما السلبيون الذين لا يستطيعون المواجهة فيتّجهون إلى العالم غير القانوني، وكلما صعبتْ الظروف ازداد الأمر تطرّفاً وازدادت صعوبة الانتماء لديهم ليصلوا في النهاية إلى عالم المخدرات والسرقة والقتل، ولينتهوا بالتخلص من حياتهم».

هذا التحليل النفسي هو ما يُلاحَظ اليوم في لبنان، إذ أن غالبية مرتكبي الأعمال الجرمية، بحسب قوى الأمن الداخلي، من المدمنين والأشخاص العنيفين في الأصل، أو يعيشون على هامش المجتمع غير قادرين على التأقلم معه، ويتخذون من الأوضاع المعيشية والظروف الأمنية ذريعة لتلبية إدمانهم وتأمين الممنوعات ويصلون حد السرقة وأحياناً القتل، في وطنٍ يغرق بالصعوبات والتحديات القاسية والظالمة ويرمي بهم بين «براثن الإجرام».

السابق
لبنانيون بلا تغطية صحية بسبب ارتفاع تكلفة عقود التأمين!
التالي
تعقيدات مصرفية تعرقل الترشيحات إلى الإنتخابات