حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: لا زعماء.. بل مدراء!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

لبنانُ ليسَ بحاجةٍ إلى زعماء، لا نُريدُ زعماءَ، لا زعماءَ قُدَماءَ ولا زعماءَ جُدُدٍ، الزعماءُ لا يصنعون زعاماتِهم إلا عبر الموتى؛ موتى مثل آبائهم الذين قضوا شهداءَ، أو موتى كأتباعِهم الذين قادوهم في معارك وحروب، وصنعوا من تضحياتِ أنصارِهِم والأصحُ ضحاياهم، هالةَ قداسةّ لسياساتِهم وخياراتِهم.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: قصف دبي!

لا نريد زعماءَ على أيديهم دماء، دماءُ من قاتلوه، أو دماءُ من جنَّدوه ودرَّبوه وسلَّحوه، وجعلوه ذْبْحاٌ من أجل قضية، لأنَّ هؤلاءَ وفي الحالتين ؛ المتحدرين من الضحايا، أو صانعي حتفهم، يجعلون من أنفسهم، أصناماً فوق مستوى العامة، فبدل ان نساءلهم عن جدوى خسارة أبنائنا، في معارك لم تُنجِزْ لياقةَ عيشٍ لأحدٍ أو رَغَدَ حياةٍ لشَعْب، أصبحت أرواحُ من قضى، رصيدا في هالة قداستهم، قداسةٌ تضعهم خارجَ أيَّةِ مساءلة.. وترسم لسلوكياتهم وخياراتهم جداراً من الصمت و ترجيعاً لأصداءِ المخادعة..

لا نريد زعماءَ على أيديهم دماء دماءُ من قاتلوه أو دماءُ من جنَّدوه ودرَّبوه وسلَّحوه


سَئِمنا النفاقَ، مَلَلْنَا مديحَ الريَّاءِ، الشهداءُ أبناءُ الناسِ، بذلوا ما بَذَلوهُ من أجلِ إنتصارِ قضايا الناس، والقضايا لا تنتصرُ منفصلةً عن النصر المؤزَّر للناسِ، القضايا لم تتقدم من أجل خَيْرِنا وصالح الوطن، ولمْ يُنجَزْ من أهدافِها إلا نَذْرٌ قليل، وبَدَلَ أن يقومَ الناسُ بمحاسبةِ الزعماءِ، ومطالبتِهم بعائدِ وثمارِ تضحياتِ أبنائِهم، يقومُ الزعماءُ بقمعِ الناسِ وإسكاتهم بذريعة الشهداء؛ أرواحُ ابنائنا التي جرى التضحية بهم، تُستعمل سببا لحراسة صمت أبكم احتراما ووفاء لهم… الزعيم يصادر الشهداء ليصنع حصانته وقداسته، فيصبح الموت حُصنَه، ويحول الموتى من الأحباء، الى حراس قلعة مُهابَة تحميه من أهاليهم…

الزعيم يصادر الشهداء ليصنع حصانته وقداسته فيصبح الموت حُصنَه ويحول الموتى من الأحباء الى حراس قلعة مُهابَة تحميه من أهاليهم


البديل عن غابة الزعماء هو منظومة المدراء، نريد مدراء لا زعماء، مدراء يتولُّونَ حلَّ أزمة، معالجة مشكلة، ادارة مرفق، أو تطوير مؤسسة، اصطفاء المدراء يتم بناء لعلمهم وخبرتهم ومهاراتهم، لا أكثر ولا أقل، لا قداسةَ لهؤلاء، لا عصبية لهم، يتولون المُهمَّةَ ضمن مُهَلِ إنجازٍ محددة، فإن نجحوا تابعوا، وإن فشلوا تم استبدالهم، المدراء لا دماءَ على ايديهم، ولا شهداء في عائلاتهم، ولا جثثا في نعوش حية في الذاكرة، أو محمولةً تتجولُ على أكتافهم، أو معارك وبطولات مزعومة في تواريخهم.

نريد نوابا يأتون ليدافعوا عن حقوقنا العادية حقوقنا اليومية كبشر


تلك سمة الادارة والدولة الحديثة، التي انتقلت من الحكومة السياسية السيادية إلى الحكومة الإدارية. الأحزاب الجديدة هي أيضا أحزابٌ لا شهداء فيها، وليس مطلوبا أن يستشهد منها أحد. الموت ليس خيارا أبدا، قد يكون قدرا محتوما لسبب أو لآخر، لكن لا نذهب إليه لا تضحيةً ولا انتحارا وبدرجة أكثر صدقا ولا اغتيالا، والزعماء الذين اعتلوا سدة منابرنا، وتولوا شؤون أمورنا بامتهان الموت، وجعله لغتهم ووسيلتهم، وسبب ارتقائهم، ومانع محاسبتهم، وذريعة قداستهم، الموت هذا ليس خيار الناس ويجب أن لا يبقى خيارا لأحد.

في الانتخابات النيابية لا نريد نوابا عظماء، لا أولاد شهداء ولا أولاد زعماء، ولا منتحلي صفة الدفاع عن من قضى ومات من الأحباء، نريد نوابا يأتون ليدافعوا عن حقوقنا العادية، حقوقنا اليومية كبشر، حقُ كل واحد منا بأن لا يجوع دون مأكل، وان لا يمرض دون دواء، وان لا ينزف دماءً دون مشفى، حقُ أولادنا بأن يتلقوا علماً وأدباً ومهاراتٍ ولغات، تمكِّنهم من العمل في مُدُنِهُم وقُراهُم، حقُنا بأنْ تكون لنا خدماتٌ كأي دولة من دول العالم، فيكون لنا كهرباءٌ تنير عتمة ليالينا، وأن يكون لنا طريقٌ ومواصلاتٌ ودروبٌ تؤمِّنُ حاجات انتقالنا وسعينا إلى أرزاقِنا وأعمالِنا، حقُ أن ننفتحَ على عالم الحداثة ونستعملَ تقنياتِه وسِلَعَهُ الجديدة واختراعاتِه المبتكرة باقتصاد منتج ومنافس وحديث، حقُ أن تكون لنا أجهزة أمن تنفذ القانون، وتحفظ السلامة العامة وتصون حقوق الأفراد جميعا، صغيرهم وكبيرهم، فقيرهم وميسورهم، ضعيفهم قبل قويِّهِم، حقُ ان تكون لنا عدالة تنصف اصحاب الحقوق وتزيل ضيم الظالمين بجدارة وسرعة…حقنا بوطن ودولة ككل دول العالم وأوطانه…

لا نريد نوابا انتخابهم يكون فحصُ دمٍ أو جوابا عن سؤال لأي هوية ننحاز، أو إلى أية عصبية ننتمي


لا نريد نوابا انتخابهم يكون فحصُ دمٍ، أو جوابا عن سؤال لأي هوية ننحاز، أو إلى أية عصبية ننتمي، ولا أنْ تكون أصواتُنا وفاءً لمن ضحى بنفسه من أجل قضية، أية قضية، أوراق الإقتراع، هي مفاضلة بين أحياء في مقابل احياء، وانحياز لبرامج وخيارات في مقابل خيارات وممارسات، لا نريدها تسديداً لدَيْنِ في رقبتنا، زعموا أننا استلفناه منهم و أنَّ علينا ايفاءه، لا نريد ان نختار نوابنا تسديدا لأي دين مضى، بل خيارا حرا لمستقبل نريد بناءه، لقد أوقفنا إيفاءَ نذورنا، ومَللْنا نحر حياتنا كذبائح توفى، وأُضْحِيات تعيد تطهير ذواتنا وغسيل قلوبنا، سنحتفظ بخطايانا لأننا بشر، ولا نريد أن نتحول الى قديسين وملائكة، كما لا نريد طرد الشياطين من أرضنا ومجالنا، نريد فقط ان لا يحكمنا الشياطين وان لا تستعبدنا ملائكة، بدعوى خلاصنا لإنقاذنا من عفاريت قد يتسللون الى صفوفنا، نريد رجالا عاديين أسوياء فقط أسوياء، لا ملائكة ولا شياطين، لا أغبياء ولا ملهمين، لا عباقرة ولا مجانين… نريد بشراً عاديين يديرون حياة عادية لبشر عاديين.

لا نريد من يصنع المعجزات ولا من يجترح العجائب ما نريده إنهاء النهب والتفاهة

نحن من صنعناكم أصناماً من تمر، وتماثيلاً من خشب، وقد ضرب الجوع كل نفس، وآلاف الجوعى يشتهون أكل تمر طالما حفظوه، وسيأكلونكم بنهم ولذة، حتى لو كانوا قد عبدوكم اصناماً وآلهة، وسجدوا يصلون أمامكم، تضرعاً لبركاتكم، وسيحرقونكم حطبا في مدافئهم يقيهم برداً وصقيعاً، صنعته أياديكم وأصبح في كل بيت، بعد أن أصبحت أسعار الوقود لا يقوى عليها إلا أفرادُ قلائل..

لا نريد من يصنع المعجزات، ولا من يجترح العجائب، ما نريده إنهاء النهب والتفاهة، كل نهب وكل تفاهة، نهب كل ما جنينا في ماضي اعمارنا، ونهب الأمل بالنهوض مجددا، وهو أمل معقود على وجوه أولادنا وأحفادنا، نريد إنهاءَ التفاهة؛ تفاهة الفعل وتفاهة القول، تفاهة الخطاب وتفاهة السباب، تفاهة الذريعة، وتفاهة النفاق، انهاء كل التفاهات.. افرادا وجماعة.

السابق
«الثنائي».. إما إنفجار المرفأ وأما «تفجير» البلاد!
التالي
صباح فخري.. صوت لا يغادر الحياة!