حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»:إيران.. وعُقدة «النووي الإلهي»!

حسن فحص
يخص الصحافي المتخصص في الشؤون الإيرانية والعراقية حسن فحص "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

اعتادت شعوب الشرق الاسلامي على العموم، والشعوب العربية بخصوص في تاريخها القديم والحديث، على التحايل في وصف الحقائق والوقائع. واعطاء مسميات لاشياء واحداث لا تتطابق مع حقيقة امرها، واللغة العربية تحمل من ذلك الكثير خاصة في باب “المدح في مكان الذم، كأن تقول عن الجبان انه كالاسد” . ولعل الشواهد على هذا الامر في التاريخ المعاصر اكثر واشد تعبيرا عن هذه التركيبة النفسية المعقدة، فالهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية عام 1967 واحتلال القوات الاسرائيلية للضفة الغربية وقطاع غزة واجزاء من صحراء سيناء، لم تعتبر في قاموس الانظمة سوى نكسة، وحاولت هذه الانظمة تكريس هذا المفهوم في العقل الجمعي العربي. اما هزيمة اكتوبر 1973، وعلى الرغم من المنجز الملتبس، الذي تحقق على الجبهة المصرية في عبور قناة سويس، الا ان النتائج العامة والكلية للمعركة كانت هزيمة بكل المعايير، على الاقل، انها اضافت مرتفعات الجولان السورية الى لائحة الاراضي المحتلة بيد القوات الاسرائيلية. وصولا الى الانتصارات التي حققها الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين في “القادسية” مع ايران لمدة ثمان سنوات، وبعدها “ام المعارك” واحتلال الكويت، وما اسست له من حصار وتدمير قدرات ومقدرات العراق، ولاحقا الى احتلاله من قبل القوات الامريكية.

إقرأ أيضاً: حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: «حلال» رئيسي..«حرام» روحاني!

لا شك ان الجوار معدٍ، وما يتعرض له الجار يسير على جاره، في الثقافة والسلوك وتقويم الامور، وفهم الاحداث ومحاولة تغيير الحقائق او اخفائها، او اعطائها صفة لا تنطبق مع واقعها والحيثيات التي انتجتها. ولعل الجوار الجغرافي للمنطقة العربية الاقرب، هو الجوار الايراني، الذي تعايش مع العقلية العربية، وآليات تعاملها النفسي والفكري والسياسي، منذ ما بعد فتح بلاد فارس، التي تعتبر في المفهوم الايراني وقراءته للحدث التاريخي، احتلالا عربيا للاراضي الايرانية ذات الحضارة والتراث القديم. الامر الذي سهل عليه التعامل مع هذا المستجد العربي في يومياته وعلى حساب منجزاته، من خلال استيعاب المتغير والاندماج به، وتوظيفه لاستعادة موقعه، وان بآليات مختلفة، بانتظار الفرصة لاعادة الامساك بالسلطة، بشكل مباشر او غير مباشر، وبالواسطة (البرامكة في عهد هارون الرشيد، وسلاطين البويهيين في منتصف القرن الرابع الهجري والسلطنات التي اقاموها على جغرافيا الهضبة الايرانية).

الاصرار على الانتصار وامتلاك الحقيقة والتفوق، والقدرة على المواجهة والتصدي لاطماع العدو، تبدو ثقافة متجذرة في كل الشعوب، وتأخذ بعدا اكثر درامية لدى الشعوب الشرقية، لتداخل الديني مع الزمني مع بنية الانظمة وحاجتها، لتسويغ تمسكها بالسلطة سواء كانت دينية او علمانية او قومية او غير ذلك.

لا يخرج النظام الديني الايراني عن هذه النزعة لا بل يوغل فيها

وفي هذا السياق، لا يخرج النظام الديني الايراني عن هذه النزعة، لا بل يوغل فيها، لحاجته الى خلق مسوغات لتصرفاته، او تنازلاته او تراجعه او حتى هزائمه، من منطلق ان الاعتراف بالهزيمة يوجب المحاسبة، واعادة النظر في المسببات التي ادت الى هذه الهزائم، لذلك نجد ان التسمية الابرز للحرب مع العراق هي “الدفاع المقدس” والدفاع يتضمن النصر والهزيمة معا، وهو ما ظهر واضحا في وصف نتائج الحرب التي شهدها لبنان عام 2006، بين حزب الله حليف ايران والقوات الاسرائيلية بانها “نصر الهي”، واستلحقت انتصارات حركة حماس في قطاع غزة المتعددة والمستمرة.

هذه الانظمة ايضا، لا يغيب عن بالها بانها تستغفل نفسها في ذات الوقت، بمحاولتها الاقتناع بما تسعى لتسويقه بين شعوبها

يمكن القول، بان الجوار الجغرافي معد، واذا لم يكن كذلك، فان السلطة فيه تعوم على ثقافة مشتركة، تحاول عبرها الانظمة استغفال الشعوب، واقناعها بقدرة هذه الانظمة على تحقيق الانتصارات، وان تغييرها او المطالبة بتعديل سياساتها، لن يكون في صالح هذه الشعوب ومصالحها. الا ان هذه الانظمة ايضا، لا يغيب عن بالها بانها تستغفل نفسها في ذات الوقت، بمحاولتها الاقتناع بما تسعى لتسويقه بين شعوبها، من انجازات وانتصارات عظيمة لم تكن لتتحقق لولا وجودها.

واذا ما كان هذا حال الجوار الجغرافي في العدوى، فانها تسري ايضا على اللغات المتجاورة ايضا، والتي تتقارب في بنيتها التركيبة او النحو. فعلى سبيل المثال، فان اللغة الفارسية في بنيتها النحوية، تتشابه مع اللغة العربية حد التطابق، الا ان ما يميزها هو بنية الجملة فيها وتركيب مفردتها، التي تجعل الفعل يأتي في اخر الجملة مفصولا عن الفاعل، المتصدر بكل التصاريف والاحرف والمحسنات البديعية والبيانية، ما تسمح للمتحدث بها ان يلعب على وتر المخاطب واحساسيه، وان يحدد المفهوم الذي يريد ايصاله، قبل ان يحسم موقفه باطلاق الفعل من عقال لسانه وشفتيه.

المخاوف من طموحات النظام السياسية الاقليمية والنووية، تعطي الدول الكبرى الحق بممارسة ما تقوم به من حصار

هكذا تتعامل السلطة الايرانية مع المفاوضات النووية الجارية في العاصمة السويسرية فيينا هذه الايام. فبعيدا عن الحكم القيمي لما تتعرض له من عقوبات، لا تقف تأثيراتها على السلطة والنظام، بل تنال من الفرد والمجتمع بابشع الصور والاثار الاقتصادية والمعيشية، ام ان المخاوف من طموحات النظام السياسية الاقليمية والنووية، تعطي الدول الكبرى الحق بممارسة ما تقوم به من حصار. الا ان طهران صورت وتصور ما تخوضه من تحديات، ينطبق عليه وصف المعركة الشاملة التي تدافع فيها، ليس فقط عن المصالح الايرانية الوطنية والقومية، بل عن بيضة الاسلام، وما تمثله من قلعة اخيرة للحكم الاسلامي على الارض. وهي تذهب الى المفاوضات النووية والتفاوض مع المجموعة الدولية السداسية من هذا المنطلق وهذه القراءة، وانها محكومة بالانتصار ولن تقبل باقل منه.

ما من شك ان السلطة الايرانية عندما قررت العودة الى طاولة التفاوض، كانت تدرك جيدا عدم قدرتها في الوصول، الى كل السقوف والشعارات المرتفعة والعالية التي وضعتها كشروط لهذه المفاوضات، الا انها قدمت الى الرأيين العام الايراني والخارجي، تصورا بانها متمسكة بمطالبها ولن تقبل اي تنازل مسبق، ولن ترضى سوى بالحصول على كل ما تريده وتعتبره حقا طبيعيا لها. الا ان اصطدام الفريق المفاوض، ومن ورائه الجهات العليا صاحبة القرار في الموضوع التفاوضي بالموقف الدولي، وادراك حجم الاثار السلبية، وما يمكن ان تذهب اليه الامور في حال لم تصل هذه المفاوضات الى نتائج ايجابية، كانت الدافع والسبب في رفع مستوى المخاوف الايرانية، والذهاب الى تقديم خيار التنازل قبل الحصول على اي مؤشرات حل من الطرف المقابل.

بات النظام يدرك ان النافذة التي فتحتها المفاوضات قد تكون الاخيرة امامه للخروج من العقوبات

قبول ايران بفتح منشآة كرج “تسا”، امام الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاعادة تركيب كاميرات مراقبة، سبق ان تعرضت لاضرار جراء تعرض الموقع لاعتداء بطائرة اسرائيلية مسيرة، شكل اولى خطوات هذه التراجع او التنازل، بهدف قطع الطريق على مؤشرات نقل الملف الى مجلس الامن الدولي، الا ان اللافت في قرار التنازل هذا، محاولة المسؤولين الايرانيين وخاصة وزير الخارجية حسين امير عبداللهيان، وضع هذه الخطوة في اطار او صورة الانتصار الذي حققته ايران، في احباط جهود الاعداء لاظهارها مسؤولة عن فشل او افشال المفاوضات.

تسويق التنازل على انه خطوة في التوقيت المناسب، يأتي من خلفية ان النظام، بات يدرك ان النافذة التي فتحتها المفاوضات، قد تكون الاخيرة امامه للخروج من العقوبات، لذلك فان خيار الذهاب الى فيينا لم يكن خيار ترف سياسي، بل حاجة داخلية واقليمية، لانه من دون الخروج من العقوبات، فلن يكون قادرا على دفاع عن استقراره الداخلي، ومن الصعب ان يحقق انفتاحا على الخارج، خاصة الاقليمي من دون هذه المفاوضات، خاصة وان كل الدول التي تبدي ايجابية للانفتاح على ايران، لن تذهب الى ذلك في حال بقيت المسألة النووية عالقة من دون حلول .

السابق
«حزب الله» يسبح عكس «التيار»!
التالي
جديد تحقيقات المرفأ.. اللواء ابراهيم يشترط المثول امام القضاء