«7 أيار» قضائي..العدالة بين «الإرهاب والإرتياب»؟!

ياسين شبلي
إثر جريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ساد جدل في الأوساط السياسية اللبنانية, بين مُطالب بالتحقيق الدولي لعدم ثقته بتحقيقات أجهزة الأمن والقضاء اللبناني في ظل النظام الأمني اللبناني - السوري القائم يومها، والمتهم بإرتكاب الجريمة أو أقله بتغطية وتسهيل إرتكابها، وآخر يطالب بالإكتفاء بالتحقيقات اللبنانية حفاظا على "السيادة" الوطنية.

هذه التحقيقات التي لم تصل يوما لنتيجة معلنة، في أي من الملفات التي أنيطت بها، للتحقيق في عشرات الإغتيالات السياسية التي شهدها لبنان، منذ إندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 وحتى اليوم، وبينها إغتيال رئيسين للجمهورية ورئيس للوزراء ، وعشرات الشخصيات السياسية والإعلامية من وزراء ونواب ورجال دين، وصحفيين وكتاب ومثقفين عدا عمليات الخطف والإختفاء القسري.

 نسوق هذا الكلام للتذكر والتذكير، بمناسبة التطورات التي حصلت مؤخرا، ولا زالت تداعياتها مستمرة بدءاً من رسالة التهديد  ب”القبع ” من قبل مسؤول وحدة الإرتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا، الذي أرسلها مع الصحفية لارا الهاشم، إلى المحقق العدلي بجريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، وهو التهديد الذي لم ينفِه صفا بصفته الشخصية ولا نفاه حزب الله الذي يشغل فيه صفا هذا المنصب الحساس، إلى طلب وزير الأشغال الأسبق يوسف فنيانوس بنقل الدعوى من القاضي البيطار بموجب “الإرتياب المشروع”، وبعدها طلب وزير الداخلية الأسبق كذلك نهاد المشنوق برد القاضي وكف يده عن الملف بموجب عدم الإختصاص، في تحركات تثبت “الإرتباط والتنسيق” بين الخطوات الثلاث، والمدعومة على ما يبدو من غالبية أطراف السلطة السياسية في البلد، ما يدعو إلى “الإرتياب المشروع” بنوايا هذه الطبقة السياسية، ودورها في تفجير المرفأ سواء بالإهمال والتقصير أو بما هو أكثر من ذلك.  

القاسم المشترك بين الحدثين الكبيرين، جريمة إغتيال الحريري وجريمة تفجير مرفأ بيروت، هو طريقة تعامل حزب الله مع التحقيقات في الجريمتين، الأمر الذي بات يطرح التساؤلات والشكوك في جريمة المرفأ، كما كانت في الجريمة الأولى عن مصلحة حزب الله، في التعامل مع هذا الحدث على طريقة “كاد المريب أن يقول خذوني” خصوصا وأنه لا يوجد بين المدعى عليهم، من يرتبط به مباشرة حزبيا على الأقل. 

السؤال هو نفسه الذي يسأله اللبناني منذ حوالي نصف قرن من الزمان من دون إجابة محددة إلى أين المصير ؟! 

ففي الأولى رفض حزب الله منذ البداية إتهام سوريا والنظام الأمني اللبناني – السوري بالجريمة، وبطبيعة الحال كان رأس الحربة في رفض التحقيق الدولي بداية، ومن بعدها المحكمة الدولية، كما هو الحال منذ اليوم الأول لجريمة المرفأ، وكان الإعتقاد يومها بأنه إنما يدافع عن حليفه الإستراتيجي  خاصة وأنه وضع فرضية أن تكون إسرائيل هي الفاعل، منذ اللحظة الأولى للجريمة.

وهذا ما لم يفعله في الجريمة الثانية في سلوك غريب لم نعتده منه سابقا، كان هذا قبل أن تتجه الإتهامات إليه لاحقا، وتظهر التحقيقات مشاركة عناصر منه في جريمة الإغتيال، وهو ما أكدته المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. إن سلوك حزب الله اليوم تجاه التحقيق بجريمة المرفأ، يكاد يكون نسخة طبق الأصل، عن سلوكه تجاه التحقيق الدولي والمحكمة الدولية في جريمة إغتيال رفيق الحريري، وهو الأمر الذي طبع الحياة السياسية يومها، وكان السبب في كل ما جرى من أحداث دراماتيكية من إغتيالات وحروب وتفاهمات سياسية، ساهمت كلها في الوصول إلى ما نحن عليه اليوم. للتذكير بدأت الحكاية بمهرجان شكرا سوريا، الذي أدى لمهرجان مقابل تحت عنوان الوفاء لرفيق الحريري والولاء للبنان، و شكلا فيما بعد نواة فريقي 8 و 14 آذار.

إقرأ ايضاً: «بلطجة» جديدة..إعتداء على المحامي جهاد عبد الباقي!

وبدأ الصراع الذي إتسم تارة بالترغيب، عبر الإتفاق الرباعي، وتارة بالترهيب عبر الإغتيالات والإنفجارات المتنقلة، ثم جاء تفاهم مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحر، بعد إنفصاله عن قوى 14 آذار ليصب الزيت على النار.

وبعدها جاءت حرب 2006 التي أتُخذَت ستارا للإنقلاب على حكومة السنيورة يومها، بينما الحقيقة كانت هي الإعتراض على المحكمة الدولية، التي وُقعت الإتفاقية  بشأنها بين الأمم المتحدة ولبنان على مرحلتين، في 23 كانون الثاني 2007 وفي 6 شباط من العام نفسه،  لتحال للمصادقة عليها إلى مجلس النواب، الذي أقفل بسببها بطريقة تعسفية وغير دستورية ولا قانونية ولا شرعية، فكان لا بد من اللجوء لمجلس الأمن الدولي الذي أصدر القرار 1757، الذي أنشئت بموجبه المحكمة الخاصة بلبنان في 30 أيار 2007، لتستمر محاولات الإغتيال التي طالت من ضمن من طالتهم من الأمنيين والسياسيين والصحفيين، الرائد وسام عيد وهو مهندس معلوماتية في فرع المعلومات التابع لقوى الأمن الداخلي.

والمسؤول عن التحقيقات الفنية في الجرائم التي حدثت منذ تشرين اول 2004، تاريخ أول عملية أغتيال إستهدفت النائب السابق مروان حمادة الذي نجا منها بأعجوبة. أغتيل وسام عيد في بداية عام 2008، وهو العام الذي شهد قضية شبكة الإتصالات الخاصة بحزب الله، التي أدى إلصراع حولها إلى أحداث 7 أيار، التي قلبت موازين القوى في البلد.

وكانت بداية إنهيار آخر مظاهر الدولة لصالح حزب الله، وإن كان الأمر قد غُلِّف بإتفاق الدوحة، قبل أن تفجر مجلة دير شبيغل قنبلتها في 24 أيار 2009 عندما أشارت إلى دور لحزب الله في عملية إغتيال رفيق الحريري، هذا الدور الذي كشفته تحقيقات الرائد وسام عيد عبر شبكة الإتصالات الهاتفية، والتي إستندت إليها المحكمة في صدور الحكم على سليم عياش في 18 آب من العام 2020. 

اليوم يبدو من التطورات الأخيرة بأن الأمور في جريمة المرفأ، بدأت تأخذ نفس المنحى، وبشكل يوحي بأنها قد تؤدي إلى نفس النتيجة، خاصة وأنه بات لها ضحايا جدد، يشتبه بأن غيابهم له علاقة بهذه الجريمة، كالعقيد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي،  الذي قتل في  ظروف غامضة بعد أربعة أشهر من التفجير، ليلحق به بعد ثلاثة أسابيع المصور الفوتوغرافي جو بجاني أمام منزله في الكحالة، ولا زالت ظروف مقتله غامضة.

تهديد وفيق صفا لبيطار اسقط آخر مظاهر التكاذب والمحاباة وآخر خط دفاع عن وجود الدولة وهو القضاء الحر،

ويأتي اليوم تهديد الحاج وفيق صفا للقاضي طارق البيطار، بصورة مباشرة وعلنية وعن طريق رسول، ليسقط ورقة التين عن آخر مظاهر التكاذب والمحاباة، وليسقط آخر خط دفاع كان يمكن أن يكون عن وجود الدولة وهو القضاء الحر، وليكون بمثابة “7 أيار قضائي”، متمماً ل 7 أيار السياسي عام 2008، خاصة وأنه لم نسمع أي تعليق من أي سلطة في الدولة بدءا برئيس الجمهورية، المؤتمن على الدستور والبلد الذي أقسم على حمايته، مرورا بالحكومة ووزير العدل وصولا لمجلس القضاء الأعلى، وكأن ما جرى حصل في بلد آخر لا سلطة لهم عليه، ما يجعل الحقيقة والعدالة بين فكي إرهاب وإرتياب تضيع معهما دماء وحقوق الضحايا والبلد، هباء منثورا على مذبح مصالح ومشاريع، لا نعلم منها أو عنها شيئا ولا ناقة لنا فيها ولا جمل.

وما يجري هذا في الوقت الذي تحاول فيه بعض الأطراف السياسية على المقلب الآخر، ولغايات سياسية وإنتخابية طبعا، أن تأخذ الأمور بإتجاه المنحى الطائفي بالإيحاء، وكأن الأمر يُختصر بمدعى عليهم من  المسلمين بغالبيتهم، تدعمهم مرجعيات سياسية ودينية إسلامية يرفضون المثول أمام القضاء، في جريمة مست بشكل أساسي المكون المسيحي في البلد، خاصة بعد تمترس بعض المدعى عليهم وراء دار الفتوى  بدعوى أيضا أن الإدعاء عليهم هو إستهداف سياسي وطائفي، من قبل بعض المحيطين برئيس البلاد تصفية لحسابات قديمة.

تحويل مثول المطلوبين في جريمة المرفأ امام المحقق العدلي الى قضية طائفية ومذهبية فيه خبث سياسي وغاياته انتخابية

هذه الطروحات في الواقع لا تقل خبثا وخطورة، عما يمارسه حزب الله  بحق القضاء، وسط هذه المعمعة وفيما يغني كل طرف سياسي على ليلاه، وتعاني الناس الأمرّين، في سبيل تأمين لقمة عيشها وعلبة دواءها وأقساط مدارس وجامعات أبناءها ، بينما تقام الإحتفالات والتبريكات بإنتصارات مزيفة إلهائية  تأتي بصهريج مازوت من هنا، وببطاقة تموينية من هناك، في بلد بات يدار كأنه بلدية  ودولة تدار بعقلية دويلة، ليبقى السؤال هو نفسه الذي يسأله اللبناني منذ حوالي نصف قرن من الزمان، من دون أن يجد له إجابة محددة  وواضحة، وهو .. إلى أين المصير ؟! 

السابق
«بلطجة» جديدة..إعتداء على المحامي جهاد عبد الباقي!
التالي
محطات الجنوب خارج «جنة البنزين»..إستمرار الطوابير وتقاذف التهم!