وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: في لبنان.. الجميع مهزومون

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

جديد المشهد السياسي في لبنان أنه لا جديد فيه، فالسياسيون يكررون اللعبة نفسها بلا كلل أو ملل.  في كل مرة يخرج البعض بانتصارات وإنجازات، والبعض الآخر بانكسارات وخيبات أمل، ثم تتكرر اللعبة بنفس اللاعبين وأحياناً بغيرهم، ليراكم المنتصر رصيد انتصاراته، ويأمل الخاسر تحسين فرص نجاحه في الجولة القادمة.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: «حزب الله» يُعيد إنتاج دويلته على «صورته ومثاله»!

هي لعبة لا غرض لها ولا غاية ورائها أو فوقها أو خارجها، بل مقصودة لذاتها، القيمة القصوى فيها هو اللعب للعب،  والمهم فيها أن تستمر وتتكرر إلى ما لا نهاية مهما كانت مآلاتها وأثارها، كوارثها ومآسيها.  قد يدخل إليها لاعبون جدد، وقد يخرج من حلبتها لاعبون استنفذوا طاقتهم على الاستمرار والبقاء.  فالأساس فيها ليس الوجوه أو كفاءة الشخصيات، أو متانة الأيديولوجيات أو صحة العناوين الأخلاقية أو التقوى الدينية، أو حتى جودة البرامج السياسية أو النجاح والإخفاق، أو الكفاءة أو الشرعية أو القبول والرضى المجتمعي، بقدر ما الأساس فيها هو مهارة اللاعبين وبراعتهم داخل حلبة التنافس، في تسجيل نقاط فوز أو ربح ضد الطرف الخصم.  

قواعد اللعبة أنه لا قواعد مسبقة لها ولا وجود لحَكم وتحكيم في هذه اللعبة يُلزم اللاعبين بمبادىء وضوابط ثابتة

قواعد اللعبة، أنه لا قواعد مسبقة لها، ولا وجود لحَكم وتحكيم في هذه اللعبة يُلزم اللاعبين بمبادىء وضوابط ثابتة.  أي لا توجد ضوابط قانونية أو توجيهات أخلاقية من خارجها، تحتكم إليها أو تتقيد بها، المهم هو من يربح ومن يخسر، من ينتصر ومن ينهزم.  فلا فضيلة أو خير يتسابق إليه اللاعبون، ولا قيمة وراء أو أبعد من الفوز. وما القانون والأخلاق والدستور والهوية والفضيلة وحتى الدين، سوى أدوات بتصرف المتصارعين وبخدمة المتنافسين، بل هي أسلحة وعناصر قوة، يتوسلها المتصارعون لكسر الخصم وتحقيق الغلبة والفوز.  فالقانون ليس سوى مظهر التوزيعات الجديدة التي يخلقها الانتصار الجديد، والأخلاق ليست سوى تراتبية القوى وهرميتها التي تفرزها نتائج الصراع.

 لا حاجة إلى جماهير في هذه اللعبة، فغرض اللعب ليس كسب رضى أي جمهور أو سخطه، تأييده أو رفضه.  فالجمهور فضلة دائماً، هم صوت وصخب وضوضاء ومفرقعات.  هم أرقام، ظلال باهتة، هامش مُهمل، رجعٌ للصدى، حضور غائب، وجود عدمي. هم جموع تخلقها اللعبة، لتخلق إثارتها وتشويقها وتحقق متعتها الذاتية.  هم حشود تُقسَّم وتوزع، تُكدَّس وتفرَّق، تُعبَّأ وتُفرَّغ، تُنقل وتُشحن، بحسب ما تقتضيه الشروط الفنية واللوجستية، لإطلاق اللعبة وتصعيد ضراوتها وتكثيف شراستها.

إنها لعبة لا إنسان فيها ولا بشر، لا شفقة فيها ولا رحمة، لا توقعات فيها ولا رهانات ولا آمال ولا أحلام، لا روح فيها ولا أحاسيس.  فيها فقط لاعبون لا يجيدون سوى اللعب الماكر والخبيث، يُحكمون التمترس ولبس الأقنعة، مهووسون باختراق خصمهم واقتحام حصونه وتحطيم قلاعه، ولا يترددون في سحله عارياً في ظهيرة النهار.  إنها لعبة تطحن  كل من بداخلها، تجوف باطنه، تخلق فيه هذيان العظمة، عطب الغفلة، زهو الحماقة، افتخار التفاهة، وأوهام مجد مبللة بنفحات قداسة كاذبة.  

لم تعد مشكلة لبنان في من يخسر أو يربح، فالجميع مهزومون وخاسرون رغم تضخم ذواتهم

لم تعد مشكلة لبنان في من يخسر أو يربح، من ينتصر أو ينهزم، فالجميع مهزومون وخاسرون وخائبون وفاشلون، رغم تضخم ذواتهم، وصخب ادعاءاتهم، وتضخم انتصاراتهم، وكثافة حشودهم، وولاء جماهيرهم، وصلابة قناعاتهم، ويقين معتقداتهم.  التحدي الأكبر الذي يواجه اللبنانيون، هو في الخروج من سقم اللعبة التي تأسر الجميع داخل دوارها، والسعي إلى تفكيك مفاعيلها وقطع أوصال، تحكمها الماكر بجميع وجوه الحياة العامة.  إنه تحدي استعادة معنى الحياة وإطلاق تدفقها الخلاق، والتحرر من عقدة السيطرة والتحكم، والتخلص من آفة اصطناع انتصارات وهمية، ووسواس الرغبة بالتفوق، ورهاب الشعور بالاستضعاف، وعصاب المؤامرة التي نجيد حياكتها ضد أنفسنا. 

السابق
العام الدراسي يترنّح.. «حال الخزينة لا يسمح بتعديل رواتب الاساتذة»!
التالي
الدولار ينحسر وعاصفة الأسعار تهب.. مرتين!