لبنان في موسم «الفرار الكبير»..كأنه مطار كابول!

مطار بيروت

لم تَعُد مقوّمات الحياة متاحة في لبنان، ولو في حدودها الدنيا، فالأزمات التي لا عَدّ لها تُحاصِر اللبناني في يومياته، في نهاراتها ولياليها وتجعله أشبه ما يكون في زنزانة من الأشغال الشاقة أو أنه في طريقه إلى ما يشبه الإعدام مع تَلاشي فرص النجاة.

وأكثر ما يقبض على أنفاس اللبناني هو تضاؤل الأمل بأي انفراج وسط تَسارُع انزلاق البلاد إلى الارتطام الكبير… لا دواء، لا مستشفيات، لا بنزين لحركة الانتقال، لا مازوت لتسيير البنى التحتية، لا كهرباء، لا ماء، وأحياناً لا خبز وربما لا تعليم.

لبنان يحتل المركز 113 من أصل 144 بلداً بالنسبة لهجرة الكفاءات


هذه المأساة التاريخية التي تُطْبِق على لبنان، ترجمتْها معدلات البطالة والفقر والعوز والهجرة ومَظاهر الجوع والفوضى والهذيان… ولعل الأكثر إثارة هي أرتال المواطنين أمام مراكز الأمن العام طلباً لجوازات السفر وعلى مداخل وزارة الخارجية لتصديق أوراق للضرورة، إضافة إلى اختناقاتٍ يعانيه مطار رفيق الحريري الدولي بالمغادرين.

أرقام مُفْجِعَة عن الهجرة لمَن استطاع إليها سبيلاً، وأرقام أكثر كارثية عن الذين يحلمون بالفرار من بلادٍ كانت حتى الأمس القريب لؤلوة الشرق وسيّدة العواصم وزهرة المتوسط وما شابه من ألقاب صارت من الماضي ومآثره الجميلة.

فبيروت تكاد أن تتحول «مطار كابول» ولو أتيح للبنانيين تَسَلُّق الطائرات لما تَردّدوا بعدما صار الهروب حلماً يراود الشيب والشباب… الشيب، الذي أفنوا حياتهم في وطنٍ غَدَر بهم ويرغبون بالإفلات بما تبقى من أعمار، والشباب الذين تكاد أن تُغتال أحلامهم في مهدها.

مَن يمرّ فجراً أمام مقرّ الأمن العام المركزي في بيروت، يتفاجأ بزحمة غير مفهومة، فلا محطة وقود هنا تفرّغ صهاريج البنزين والمازوت ولا مخبز معروفاً يبيع الخبز بالسعر المدعوم ولا حتى مقر جمعية توزع إعاشات بالمجان على المحتاجين… فما سرّ زحمة الناس وغالبيتهم من الشبان والشابات؟

إنهم هنا ينتظرون للتقدم بطلب الحصول على جواز سفر جديد أو تجديد القديم. يقفون في طابورٍ تتكوّن ملامحه منذ ساعات الصباح الأولى في انتظار أن يصل دورهم، وقد يطول الانتظار لست أو سبع ساعات في اليوم قبل تقديم المستندات المطلوبة للحصول على الجواز الذي بات بطاقة الهروب من المعاناة اليومية نحو يوم وغد أفضل في أي مكان… إلا لبنان.

نحو 34 ألف شخص تقدّموا من السفارات بطلب هجرة في الأشهر الماضية

ولا تعود هذه الطوابير مستغرَبة مع الأرقام التي نشرها الأمن العام اللبناني حيث سجّل ارتفاعاً كبيراً في إصدارات جوازات السفر خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية ووصل العدد الى نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنةً مع نحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من 2020، أي بزيادة نسبتها 82 في المئة.

وكان معدّل الطلبات الأسبوعي، وفق الإحصاءات نفسها في الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية يتجاوز 7 آلاف طلب مقارنة مع 4 آلاف طلب في الفترة نفسها من 2020.

واللافت في هذه الإحصاءات، أن أكثر فئات الجوازات طلباً هي الفئات الأطول زمناً أي فئة 10 سنوات، و5 سنوات، مع تَراجُع ملحوظ للفئات الأقل مدى زمنياً، مثل فئة السنة الواحدة و 3 سنوات.

وهذا يعني أن غالبية مَن يطلبون جوازات من هذا النوع، إنما يفكّرون بهجرة طويلة الأمد.

هذه الأرقام المخيفة في إصدار الجوازات وطوابير الانتظار أمام مراكز الأمن العام يقرأها الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين بشكل مختلف ويقول لـ «الراي»: «إصدار الجوازات شيء والهجرة شيء آخَر، كما أن الرغبة في الهجرة شيء والقدرة عليها شيء مختلف. لا شك في أن الطلب على الجوازات قد ازداد

إقرأ ايضاً: «الكورونا» يَفتك مجدداً بأرواح الجنوبيين..والبقاع في قبضة عصابات الخطف!

لا سيما في الشهرين الأخيرين ويمكن تبرير هذه الزيادة بعوامل عدة أولها:

إن اللبنانيين المغتربين الذين عادوا صيفاً بادر كثيرون منهم إلى تجديد جوازاتهم لأن تكلفة التجديد في لبنان أرخص من تجديدها عبر السفارات في الخارج.

ثانياً ثمة خوف حقيقي عند اللبنانيين من أن يسوء الوضع أكثر في لبنان ويصل إلى الارتطام الكبير الذي يحكى عنه ولذا يسارع المواطنون للحصول على جواز السفر ليؤمنوا بطاقة الفرار في حال حدث الأسوأ.

ثالثاً ثمة رغبة كبيرة عند الكثيرين بالسفر والمغادرة رغم أن الواقع لا يساعد على ذلك والقدرات غير متوافرة بين الأموال المحجوزة في المصارف وصعوبة الحصول على فيزا بالنسبة للعديد من البلدان، لكن يبقى جواز السفر بطاقة للحلم المؤجل.

أما رابعاً فيمكن تفسير التهافت على الاستحصال على جوازات بخشية المواطنين اللبنانيين من ارتفاع كلفتها بشكل كبير ولا سيما أنها تُعتبر من الكماليات».

ولكن أياً تكن التفسيرات، فإن الأرقام تشي برغبة 77 في المئة من الشباب اللبناني بالهجرة. وحتى مَن لا يثق كثيراً بالأرقام يمكنه أن يرى ما يحدث من حوله بأمّ العين.

فالمشوار إلى مطار بيروت الدولي صار يومياً بالنسبة لمجموعات الشباب الذي يودّعون كل يوم واحداً من رفاقهم يغادر، إما للدراسة في الخارج هرباً من قسوة الواقع اليومي الذي يعيشه ولحجْز مستقبل أفضل لنفسه، أو للعمل في أي بلد يفتح أمامه المجال بعدما سُدّت أبواب الرزق أمامه في بلده أو باتت الرواتب التي تنتظره لا تعادل تكلفة اشتراك في «مولّد الحيّ» الذي يوفّر الكهرباء بديلاً من الدولة.

شباب محبط

مروان، شاب عشريني مصاب بحالة من الإحباط والكآبة وهو يودّع يومياً واحداً من أصدقائه، فيما هو عاجز عن الرحيل لعدم توافر العملة الصعبة معه والتي تؤهله لمتابعة دراسته في الخارج، ولأن أبواب العمل في دول الخليج مقفلة أمامه والفيزا متعثّرة لأسباب مختلفة، رغم أنه خرّيج جامعي يتمتع بكل المواصفات المطلوبة للنجاح.

أما الياس المسافر إلى باريس لمتابعة تحصيله العلمي بعدما يئس من حالة البلد المعيشية، فالدمعة لا تفارق عينيْ والدته التي تخشى ألا يعود إلى بلده يوماً.

فيما لم يكن والدا «سهيلة» يتخيلان يوماً أن تنسلخ ابنتهما الشابة عنهما لتتابع دراستها وحيدةً في بلد أجنبي هي التي لم تتخط الثامنة عشرة من عمرها ولم تبتعد يوماً عن عائلتها ذلك أن الظروف في لبنان لا تؤمن لها الاستقرار النفسي والمعيشي لتتابع سعيها العلمي بتركيزٍ وأمان.

يقول الدكتور جهاد الحكيّم، وهو أستاذ جامعي ومشرف على البرامج التدريبية في أكثر من جامعة لبنانية، أنه يلاحظ من خلال طلابه الذين يشكلون عيّنة تمثل الشباب أن غالبيتهم الساحقة ترغب بالرحيل وتسعى إليه.

وحين يَطرح السؤال على تلامذته وهم في السنة الجامعية الأخيرة أو في سنة الماستر الأولى عما يفكرون به للمرحلة المقبلة، فالإجابة تكاد تكون واحدة وهي السفر عند نحو 90 في المئة منهم، في حين كان الأمر معكوساً سابقاً حيث لم يكن أكثر من 10 في المئة يفكرون بالسفر والهجرة ثم صار الرقم يتصاعد مع اشتداد الأزمات في لبنان.

«طوابير الفجر»أمام الأمن العام للحصول على جوازات سفر… والإصداراتتضاعفت تقريباً

وخلال العام الماضي، يقول الأستاذ الجامعي، بلغت تقريباً نسبة الذي يرغبون بالمغادرة 75 في المئة «أما اليوم فقد تخطت النسبة أرقاماً قياسية بعد موجة اليأس التي تجتاح الشباب في ما يختص بوضع بلدهم ومستقبلهم فيه».

موجة الهجرة الثالثة هل تكون الأسوأ؟

مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، أعلن أن لبنان دخل فعلياً موجةً جديدةً من الهجرة الجَماعية هي الثالثة من حيث الحجم بعد هجرة 330000 شخص خلال الحرب العالمية الأولى و990000 شخص بسبب الحرب الأهلية اللبنانية.

وبحسب «المرصد»، فقد بدأت ملامح هذه الهجرة تظهر في أواخر العام 2019 لتبلغ ذروتها بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، ثم في الشهرين الأخيرين مع بلوغ أزمة البنزين والمازوت والكهرباء أوجها، ويرجح أن يكون الرقم نحو 300000 مهاجر.

ويَعتبر «المرصد» أن موجة الهجرة الجَماعية هذه تشبه إلى حد بعيد ما حدث في فنزويلا بعد أزمتها المالية الكبرى، حيث قُدّر عدد المهاجرين بنحو 4 ملايين نسمة وما حَصَلَ في زيمبابوي حيث أدت الأزمة الخانقة إلى فرار نحو 3 ملايين نسمة إلى جنوب أفريقيا ودول أخرى. ويتوقع أن يكون لبنان الثالث على اللائحة مع نسبة المُهاجِرين منه.

هذه الأرقام يعتبرها البعض غير واقعية وتحمل نوعاً من المبالغة. ويقول محمد شمس الدين لـ «الراي»، إن عدد الذين اختاروا الهجرة النهائية منذ أوائل السنة حتى يونيو، هو 1270 شخصاً «ولكن هذا الرقم قد يحتمل الخطأ لأنه لا يشمل الأشخاص اللبنانيين الذين يحملون جنسية بلد آخَر وهم كثر وقد يكونون بين المهاجِرين كما لا يُعَدّ ضمنه الطلاب الذين يقصدون الخارج للدراسة وهم كثر أيضاً وقد لا يعودون إلى بلدهم يوماً».

ويؤكد أن الأرقام ليست مفاجئة «نتيجة عدم توافر المقومات المالية للهجرة في أيدي الناس، ولكن الرغبة موجودة فإذا أتيح للبنانيين استرداد أموالهم من المصارف وقُدّمت لهم تسهيلاتٌ للحصول على تأشيرة، فنِسب المغادرين لا شك سترتفع.

وحالياً تعاني غالبية السفارات الأجنبية في لبنان من ضغوط كبيرة، حتى أن بعضها يرجئ مواعيده لأشهر عدة مقبلة ليتسنى له التعامل مع طلبات التأشيرات المتزايدة وقد أعلن مرصد الجامعة الأميركية للأزمة أن عدد الذين تقدموا من السفارات بطلب هجرة في الأشهر الماضية بلغ نحو 34000 شخص».

كفاءات تغادر وتترك البلد يتيماً

لكن وسط هذه التناقضات، تَبرز حقائق لا يمكن نكرانها وهي تَزايُد عدد الكفاءات العليا التي تهاجر، من أطباء وممرضين مختصين، إلى أساتذة الجامعات والمهندسين والمحامين، وهو ما يعتبره كثيرون استنزافاً حاداً لكفاءات لبنان وتفريغاً له من أدمغته ومن الطاقات التي يرتكز عليها أي نهوض للوطن الذي تحوّل «حُطاماً».

ووفق التقرير الذي أصدره مركز الأزمة في الجامعة الأميركية، فإن لبنان يحتل المركز 113 من أصل 144 بلداً بالنسبة لهجرة الكفاءات منه، وذلك مع هجرة 1200 ممرض تقريباً، وأن 15 إلى 20 في المئة من الأساتذة الجامعيين قد تركوا البلد، وفق ما يقول رئيس جامعة البلمند الدكتور الياس الوراق، و60 في المئة منهم، هم من المتميزين فيما يبلغ عدد مَن تركوا وظائفهم من أساتذة وموظفين في الجامعة الأميركية في بيروت نحو 1200 شخص أي ما نسبته 12 في المئة بينهم 200 دكتور غادروا أو أخذوا إجازات مفتوحة.

وتأتي طوابيرُ الانتظارِ التي يشهدها مبنى وزارة الخارجية من كل الراغبين بتصديق شهاداتهم الجامعية للتمكّن من الدراسة والعمل في الخارج لتقطع الشك باليقين حيال «الهجْمة على الهجرة».

فالانتظار هنا يوازي الانتظار على دوائر الجوازات، وهذا إن دل على شيء فعلى نوعية الأشخاص الذين يرغبون بالهجرة والذين يُعتبرون جميعاً من حَمَلَة الشهادات الجامعية.

لم تكن الصيحات المتعالية بإزاء خطر زوال لبنان وتَفَكُّكه إلا صدى لهذا «الهروب الكبير» لأبنائه، وخصوصاً الشابات والشبان من الكفاءات العلمية وذوي الاختصاص، وكأن في الأمر محاولة لجعْله مجرّد أرض محروقة وسائبة يسهل قضْمها وهضْمها وابتلاعها من مشاريع لا تشبه لبنان… الذي كان.

السابق
التشكيل عالق في نفق «الإقتصاد»..و«تمرد تعليمي» على عقم السلطة!
التالي
تشكيل الفريق الحكومي لمفاوضة «صندوق النقد» يحاصر وساطة اللواء إبراهيم