رَسَمَ إيقاعَه الخاص في ملاقاة صراع البقاء..جنبلاط «يدوْزن» ويُعْلي حفْظ الوجود!

وليد جنبلاط

بدا رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط أخيراً عازماً على فرض إيقاعه الخاص في مقاربة «الحروب الباردة» التي تتحكم حالياً بلبنان. ففي ظل أزمات مالية وإقتصادية وإجتماعية هائلة وغير مسبوقة، معطوفةً على كباشٍ سياسي، محلي بأبعاد إقليمية – دولية، على مختلف الجبهات، سعى إلى تمييز مواقفه وعدم السير في إتجاه الإنحياز التام لفريق دون آخَر وكأنه يُعْلي أولوياتٍ دون سواها لإمرار ما يشبه «الطوفان» الكبير.

مواقف جنبلاط الجوهرية داخلياً وإستراتيجياً، معروفة في منحاها السياسي، ولا يحتاج إلى إعلانها في كل مرة يحتدم فيها الصراع، فهو يدرك متى ينبغي تدوير الزوايا والسعي لسحب التوتر عند المفترقات الخطرة، تماماً كما هو الحال مع المنزلقات الكثيرة التي يخضع لتأثيراتها. إذ ليس عابراً ما غرّد به عبر «تويتر» أخيراً قائلاً «إن حدث أي إعتداء عليّ أو على أحد أفراد عائلتي، فأنا أعرف مسبقاً مع من أتعامل، ومَن أتهم… رسالة مفتوحة».

جنبلاط، الذي يفقد مع التوتر العالي في البلاد أصدقاءه على طريق الكباش السياسي أو التفاهمات أو تدوير الزوايا، ما زال يتمسك بصداقة الشخصية الأكثر معرفة به، رئيس البرلمان نبيه بري. قلة من رعيل مرحلة الحرب والسلم، باقية معه «على الحلو والمُر»، في حين ولّت الأيام التي كان للدول ممثلون حصريون، فبريطانيا تمدّ جسور علاقاتها مع قوى موالية ومعارضة، وفرنسا تتواصل مع حلفاء وخصوم، والولايات المتحدة لديها ما يكفي من جيش الأصدقاء، وكذلك الدول العربية وموسكو والصين، وسط إقتناعٍ بأن دولاً خليجية صارت أقرب إلى النأي بنفسها عن لبنان لإعتقادها أنه بات على ضفة أخرى.

جنبلاط وبري رُكنا المسار السياسي في ثمانينات القرن الماضي وما تلاها، من «الجبهة الوطنية» و«الإتفاق الثلاثي» إلى الطائف… وما بعده. لم يقطعا جسور التواصل في عزّ إنتفاضة «ثورة الأرز» وما قبْلها من مواقف عالية السقف لزعيم الإشتراكي ضد سورية. وهما اليوم يتشاركان منذ التسوية الرئاسية (2016) في خصومتهما مع حُكْم الرئيس ميشال عون، لكن بوتيرتين مختلفتين.

 زعيم «الإشتراكي» هاجسه حماية المصالحة الدرزية – المسيحية في الجبل فينأى عن المنازلات الكبرى

بري وعون، وخلفه تياره (الوطني الحر)، هما كخطين متوازيين لا يلتقيان إلا للصورة التذكارية. أما جنبلاط فهو في حال خلاف دائم مع حُكْم عون، لكنه لا يقطع حبل التواصل، تحت مندرجات مختلفة بسبب وضع المسيحيين في الجبل، والمصالحة مع بكركي (البطريركية المارونية)، أو تأثيراتِ قانون الإنتخاب وموجباته، فضلاً عن هاجس الحاجة إلى التهدئة الأمنية وعدم توتير الجبل. ففي كل مرة تحتدم الخلافات بينه وبين عون وتياره يجد سبيلاً أو وسيطاً لإحتواء الوضع وزيارة القصر الرئاسي في بعبدا، وسكْب مياه باردة على نحو يتيح سحْب الخلافات من الواجهة. من هنا لم يدخل جنبلاط أخيراً بحملة إسقاط رئيس الجمهورية. وموقفه كان لافتاً، وهو سبق أن قال انه لم يعد يطالب باستقالة عون، لأنه لم يتبقّ للأخير الكثير ولا يريد أن يسبّب أي حساسيات، داعياً القوى المسيحية إلى تولي هذا الأمر.

إقرأ أيضاً: الموت يُلاحق اللبنانيين في المغتربات..خطف شاب وقتله في الأردن!

لم يشارك جنبلاط في الحملة السياسية المتقطعة والمتدرجة لإسقاط عون، ويتحكّم في موقفه الهاجسُ المسيحي الذي ما زال يسيطر عليه منذ حرب الجبل (بين الدروز والموارنة 1983). ورغم المصالحة التاريخية مع بكركي برعاية البطريرك الكاردينال مارنصرالله بطرس صفير، فإنه – أي جنبلاط – ما برح يذكر دائماً ان صفير رفض إسقاط الرئيس إميل لحود في الشارع في مرحلة 2005. وهو يعرف كذلك أن عمق مواقف بكركي حالياً عدم المساس بموقع رئيس الجمهورية أياً كانت أخطاؤه، وتالياً عدم إسقاط عون أو دفعه إلى الإستقالة. وما زال جنبلاط يُعْلي في كل ما يقوله، مصالحة الجبل وحفْظها والحفاظ عليها.

في المختارة حيث قصر جنبلاط التاريخي، كنيسة أثرية، بإسم سيدة الدر، بناها بشير جنبلاط العام 1820 تعزيزاً لعلاقة قديمة مع البطريركية المارونية. وفي كتاب صدر حديثاً للأب عيد بو راشد عنوانه «كنيسة المختارة بين الكرسي والدارة»، عن دار سائر المشرق، ذكر جنبلاط ان «الصراع القديم ولّى إلى غير رجعة»، لكنه أكد في المقابل ان «مسيرة المصالحة تحتاج إلى عناية دائمة لتوفير الإستقرار في كل لبنان وفي الجبل على وجه التحديد».

يريد الزعيم الدرزي تحييد الجبل عن أي فتيلِ خلافٍ مع المسيحيين. والطرفان – المسيحيون والدروز – يبدوان اليوم الأضعف في المعادلة الداخلية والإقليمية، وهو سبق أن وصفهما بـ «الهنود الحمر» المهدّدين بالإنقراض. فإمتداد جنبلاط الدرزي الإقليمي تَعَرَّض لنكساتٍ عدة منذ الحرب السورية. وهو إلى ذلك يبدو مقتنعاً ان حال الفريقين متجهة أكثر فأكثر نحو التدهور، وخصوصاً في ظل ضائقة إقتصادية، تَلَمَّسَ منذ إندلاعها خطورة تأثيراتها على المجتمع الدرزي في منطقةٍ جبلية لا مقومات حياتية لها ما عدا المساعدات في الوقت الراهن. وقد إستنفر أجهزته منذ بداية الأزمة لشدّ عَصَب المغتربين لتأمين المتطلبات الحياتية الضرورية إلى حد انه طالب أخيراً بتوزيع عادل للمساعدات التي تصل لبنان.

جنبلاط الحريص على تدوير الزوايا وإحتواء التوترات أولويته عبور الإرتطام الكبير بـ… أقل الخسائر

وفي الموازاة يريد جنبلاط من الخارج، وخصوصاً إذا جرت الإنتخابات النيابية (في مايو 2002) من دون تعديل قانون الإنتخاب، القيامَ بما هو ضروري من أجل ضمان حصة تكتله النيابي وعدم السير بإستفزازات أي فريق حالياً في الشوف وعاليه.

ولم يكن عابراً ما قام به زعيم «الإشتراكي» أثناء تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة من مبادرات لم تؤد إلى أي نتيجة، ما إستفز الحريري، وهو نفسه قال ان «أحداً لم يعد يطيقه» بعد دعوته إلى تسوية ما.

وفي العمق، هاجس جنبلاط أعمق من مجرد إستقالة عون، أو تشكيل الحكومة، إذ انه متوّجس من حدّة الأزمة الإقتصادية والمعيشية التي باتت أشدّ وطأة، وأكبر من أي حل يمكن لأي حكومة القيام به. فحين دعا أخيراً إلى رفع الدعم وأيّد قرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، كان يصوّب على أمرين، الأول تهريب المحروقات إلى سورية والثاني تأكيد موافقة جميع القوى السياسية من دون إستثناء على قرار رفع الدعم، كما أكد سلامه نفسه، بخلاف ردّ فعل رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي حاول التنصل من القرار. فرئيس «التقدمي» لم يُخْفِ موقفه الداعي إلى ضرورة رفع الدعم ووقف التهريب الى سورية على إعتبار ان فارق الأسعار يجعله أمراً مربحاً لشبكات التهريب. ورغم أن رفْع الدعم قرار غير شعبي إلا ان جنبلاط كان الأكثر وضوحاً في المطالبة به، على عكس القوى السياسية التي تلطّت خلف مصرف لبنان، وهي مدركة ان لا مفر منه، رغم إنعكاساته السيئة على اللبنانيين.

الموقف نفسه إتخذه جنبلاط في ملف رفّع الحصانات في قضية إنفجار مرفأ بيروت. فعلاقته ببري لم تؤثّر في إنحيازه منذ اللحظة الأولى إلى تحقيق دولي وإلى إسقاط الحصانات، على عكس ما فعله الرئيس سعد الحريري، الذي حاول مسايرة بري، فشارك في التوقيع على العريضة النيابية التي تم التعاطي معها على أنها التفافٌ على رفع الحصانات، ولو انه دعا إلى التحقيق الدولي. وهنا تكمن ميزة جنبلاط في محطات حرجة سياسياً وأمنياً وجرأته على القيام بخطوات لافتة وربما من خارج التوقعات. فالأمر نفسه تكرر في حادثة شويا التي كان وراءها مناصرو جنبلاط في تطويق سيارة «حزب الله» التي أطلق عناصرها الصواريخ على إسرائيل، وفي حادثة خلدة وسقوط عناصر لـ «حزب الله» في حادثٍ هو الأخطر بين الحزب وعشائر عربية على خلفية عملية ثأر.

علاقته «التاريخية» بالرئيس بري لم تمنعه من المطالبة بـ«رفع الحصانات» وعدم شعبية رفْع الدعم لم يَحُلْ دون إصراره عليه

فجنبلاط، المدرك خطورة أي توتر أمني على الأرض مع «حزب الله»، وخصوصاً منذ 7 مايو 2008 (العملية العسكرية لـ «حزب الله» في بيروت والجبل)، يوجّه رسائله بشيفراتٍ مدروسة، لكنه في لحظة المواجهة يسحب أي ذريعة يُفهم منها الإستعدادُ لمواجهاتٍ غير محسوبة.

وجنبلاط يعرف أن لا الزمان ولا المكان مناسبيْن اليوم لخوض معارك داخلية يُستفرد فيها أي فريق، وخصوصاً انه يتطلع حوله فلا يجد قوى سياسية قادرة على التماسك والوقوف في وجه العواصف المقبلة، كما كانت الحال العام 2005. وهو الذي لا يستسيغ «القوات اللبنانية» مضطر إلى التعامل معها سياسياً، لا سيما في الجبل، لكن له مآخذ على أدائها، والعكس صحيح. و«المستقبل» بات في وضع لا يُحسد عليه، ما يجعل علاقته بالحريري تتخذ أحياناً شكل توتُّر فاقع، لتعود من ثم إلى خطوات بطيئة في التطبيع بالتي هي أحسن.

هاجس جنبلاط الدائم، البقاء. وقد يكون لهذا السبب، يمدد شبكات إتصاله مع الجميع، إلى حدّ موافقته على كل ترتيبات إصلاح البين مع النائب طلال إرسلان، في وقت ما زال توريث نجله تيمور يتدرّج في معرفة الأرض والجبل والمنطقة. وخشيته الأساسية ألا يكون الجبل قادراً على الصمود وسط التشابكات والتوترات المحيطة به والكثافة السكانية التي تطوّقه وقد تجعله معزولاً.

السابق
لبنان المُسْتَبْعَد عن قمة بغداد..دولة خارج الخدمة!
التالي
إتهامات لعون بمحاولة الإطاحة بـ«الطائف» ومصادرة صلاحيات رئيس الحكومة