أفغانستان.. نهاية التطرف، أم بؤرة لتجميع الإرهاب؟

طالبان

في الوقت الذي كان العالم يعلن الانتصار بالقضاء على داعش ميدانياً في كلٍ من سوريا والعراق، وملاحقة خلاياه النائمة، وتساقط الأنظمة الدينية الواحدة تلو الأخرى في خطوة منها نحو تطهير الإنسانية من رجس الإرهاب والتطرف والفكر الراديكالي، والتخلص من الأنظمة الشمولية الاستبدادية.
وفي الوقت ذاته، تقوم العديد من الدول التي عرفت بسيطرة المؤسسات الدينية على جميع جوانب الحياة الاجتماعية، بالاتجاه نحو تحجيم هذه المؤسسات؛ واختصار دورها على الجوانب الروحية البعيدة عن معترك السياسة، والعمل على التغيير في نهج وتوجهات هذه المؤسسات بحيث تكون أكثر انفتاحاً، وبعيدةً عن الدوغمائية.
هذه الخطوات والقفزات كانت بمثابة ميلاد جديد لغالبية الشعوب التواقة إلى الحرية والديمقراطية؛ بالتوجه نحو الدمقرطة ومواكبة الحضارة وإحلال السلام والأمان.
تتفاجئ الإنسانية اليوم بمشهد مسرحي محبك، ومخطط له بشكل مدروس بتسليم أفغانستان على طبق من الذهب لحركة الطالبان دون أدنى مقاومة من الجيش والحكومة الأفغانية. هذه الحركة طالما تحولت إلى فوبيا للعالم لما تحمله من أفكار وخطورة على الأمن الإنساني والعالمي، وخاصة أنها ولدت من رحم التيارات والحركات الأكثر سلفية وتطرفاً.

اقرأ أيضاً: من بيروت إلى كابل

وإعلان طالبان أفغانستان إمارة إسلامية، ناشرةً الرعب والقلق والفوبيا لدى الناس بعودة الإرهاب والتطرف في بلدان قدمت الغالي والنفيس بدحره ولم يهنئ بعد باستنشاقه الحرية. بالمقابل كانت بمثابة ارتداد الروح والنشوة لجميع الحركات، والقوى والفصائل الإسلاموية الراديكالية المتطرفة في جميع بقاع العالم.
حيث لم تخفِ البعض منها فرحتها بالانتصار الوهمي الذي حققته طالبان بعقد حلقات الدبكة وتوزيع الأضاحي، والحلويات بذلك النصر الظافر بحسب زعمهم.
بالرغم من اختلاف مشهد سيطرة طالبان على المدن والبلدات بشكل كامل عند سيطرته على البلاد 1996م، إلا أن طالبان أطلقت جملة من الدعوات للحوار والتعاون والمصالحة مع الموظفين سواء أكانوا في الحكومة الأفغانية أو العاملون مع القوات الأجنبية ومنح المرأة حقوقها وفق الشريعة الإسلامية، وممارسة حياتها اليومية.
حيث صرح في هذا الخصوص السيد إنام الله سمنغاني، عضو لجنة طالبان الثقافية، في مقابلة مع التلفزيون الوطني الأفغاني: “الإمارة الإسلامية لا تريد أن تكون النساء ضحايا”.
وكما صرح الناطق باسم حركة طالبان، ذبيح الله مجاهد في أول مؤتمر صحفي له بعد سيطرته على العاصمة كابل، “أن الحركة ملتزمة بحقوق المرأة، وسيكون لها الحق في العمل بعدد من القطاعات”.

واستطرد قائلاً “لا نريد تكرار الحرب والقتال ولا نريد بناء عداوات لا في الداخل ولا في الخارج”، مضيفاً “نطمئن كل العالم والولايات المتحدة إن أفغانستان لن تكون منطلقاً لأي أعمال إرهابية”. وأن الحركة ستعمل على “إقامة نظام سياسي إسلامي شامل في أفغانستان”. والتعهد بعدم اضطهاد الصحفيين، والسماح للنساء بمواصلة عملهن في وسائل الإعلام. وكما أعلنت الحركة عفواً عاماً عن كل موظفي الدولة داعيةً إياهم إلى معاودة العمل، وحثت النساء على الانضمام إلى الحكومة، وعفواً عن السجناء السياسيين.
السؤال الذي يطرح نفسه؛ ما هي الأسباب التي دفعت بجو بايدن بهذه الخطوة والتخلي عن أفغانستان؟ وهل طالبان لم تعد تشكل خطراً على العالم وغيرت من سلوكياتها واستراتيجياتها؟ وإلى أي درجة يمكن التعويل على وعود طالبان؟ وهل طالبان قادرة على استعادة ثقة الشعب الأفغاني بعد عقدين من الإرهاب؟ كيف لأمريكا استعادة ثقة حلفائها بعدما خذلتهم بشكل هذا؟

أسئلة كثير تطرح نفسها، والإجابة عن البعض منها يحتاج إلى المزيد من الوقت والترقب للتطورات. بالمجمل يمكننا إرجاع أسباب الانسحاب الأمريكي إلى مجموعة أسباب منها:
• تطبيقاً لوعود جو بايدن الانتخابية عندما قدم نفسه خبيراً في السياسية الخارجية، وكان شعار حملته الانتخابية ” الولايات المتحدة عادت” يمكن لنا أن نستنتج بالعودة هذه هي الاستمرار في الاستراتيجية الأمريكية، ولكن بأدوات ووسائل وتكتيكات جديدة تحقيقاً مكاسب أكبر بتكلفة أقل، لأنه من المستبعد أن تتخلى أمريكا عن مصالحها، وترك الساحة لأعدائها وبشكل خاص روسيا والصين وإيران. وإصراره على عدم ندمه على اتخاذ القرار، وأنه ينفذ اتفاقاً جرى بين سلفه ترامب والحركة، وأن أمريكا مهمتها مكافحة الإرهاب، وليس بناء الدول الديمقراطية، وإلقاء الفشل باللوم على الحكومة الأفغانية، والجيش الأفغاني في خطوة كتبرئة أمريكا من أية كارثة محتملة أن تحصل.
• ربما لأن طبيعة توجه حركة الطالبان كحركة إقليمية ليس لها أي نشاطات خارج منطقة تواجدها. وتركز الحركة في مناطق وجغرافيا معينة، مثل باكستان وأفغانستان. فهي ذات توجه قبلي منذ نشأتها. على عكس تنظيم القاعدة وداعش ذو التوجه الأممي العابر للحدود. ربما هذا ما دفع بالرئيس الأمريكي إلى التصريح بأن طالبان لا يشكل خطراً بينما الخطورة تكمن في القاعدة وداعش في سوريا وشرق أفريقيا.
• استخلاص أمريكا الدروس والتجارب من الحروب السابقة؛ والاستفادة من العدو على مبدأ عدو الأمس صديق اليوم عبر عقد تحالفات مع طالبان لضرب كل من الصين وروسيا وإيران.
• هناك احتمال ربما يكون ضعيف، الا وهو تحقيق مصالحة مع مختلف الأطراف الأفغانية، والعمل على دمج قوات طالبان ضمن الجيش الوطني الأفغاني، واندماجهم مع المجتمع في خطوة نحو التقليل من التشدد الديني. ولكنه مستبعد وخاصة أن عقيدتهم العسكرية مستوحاة من مبادئ سلفية.
• رغم انهيار داعش في العراق وسوريا بفضل قوات سوريا الديمقراطية والقوات العراقية بمساندة ودعم من التحالف الدولي، إلا أنه لا يزال صامداً في “ولاية خراسان” في أفغانستان، التي تأسست من قبل مجموعة من المسلحين والمنشقين عن حركة طالبان باكستان (يُعرفون أيضاً باسم طالبان البنجاب) وطالبان أفغانستان في عام 2015. وجدير بالذكر بأن ولاية خراسان بحسب أدبياتهم تشمل كلٍ من كل من أفغانستان وأجزاء من باكستان وإيران وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان، ولا يزال يُعرف باسم “داعش” في أفغانستان. وذلك عبر تقديم الدعم لطالبان بمحاربة التنظيم والقضاء عليه.
• من المحتمل جعل أفغانستان وجهة لاستقطاب وتجميع الإرهابيين، ومن ثم القيام بحملة عسكرية شاملة تؤمن القضاء عليهم.
• ربما يعود ذلك إلى تفرغ أمريكان لمحاربة القاعدة وداعش؛ كونهما يشكلان أكثر خطورة على أمريكا على حد زعم جو بايدن في كل من سوريا وشرق أفريقيا.
• ربما تكوم وسيلة لتوريط بعض الدول الإقليمية في المستنقع الأفغاني، وخاصة تلك التي تهدد مصالحها في المنطقة، وبشكل خاص الدولة التركية بقيادة أردوغان.
• لربما يعود السبب رحلة بداية التغيير تبدأ من أفغانستان لما تملكه من رمزية أول بلد تدخلت فيها أمريكا لمحاربة الإرهاب؛ منها تكون البداية عبر تطبيق استراتيجياتها بوسائل وتكتيكات جديدة عبر الاعتماد على قواها المحلية من دون تواجد عسكري فيها.
بالمقابل هناك العديد من الأسباب التي دفعت بحركة طالبان بتغيير نهجها وسلوكياتها منها:
• الخسائر التي منيت بها خلال عقدين من الزمن، بسبب عدم التكافؤ في موازين القوة.
• رغبة منها لكسب الحاضنة الاجتماعية الأفغانية التي طالما كانت تفتقد إليها.
• لكسر العزلة الإقليمية والدولية المفروضة عليها.
• تجنباً للمصير الذي لحق بكل من القاعدة وداعش، والحركات الإخوانية حول العالم.
• عدم الجدوى من الإفراط في استخدام القوة والعنف في ظل الانفتاح التكنولوجي والعلمي، وسرعة انتشار الخبر.
• عدم قبول المجتمع الأفغاني بالعودة إلى الوراء بعد تحقيقه خطوات على درب الحرية، وبشكل خاص النساء.
• أخذ فرصة لمراجعة الحركة حساباتها، واستجماع قواها.

بالرغم من المرونة التي أبدتها الحركة، والقبول بالشروط وبالمعايير الديمقراطية الغربية قولاً إلى الآن – وبشكل خاص فيما يتعلق بحقوق المرأة- لا يمكن بأي شكل من الأشكال التعويل على هذه الحركة، وحتى الدول التي أبدت استعدادها للحوار معها إعطاء الشرعية للحكومة التي ستشكلها. ولكن يبدو هناك شكوك وعدم ثقة بهذه الحركة؛ والدليل قيام معظم الدول بإجلاء رعاياها، وتجميد أمريكا الأصول المالية الأجنبية للحكومة الأفغانية في خطوة لمنع طالبان الاستفادة منها، وريثما يتم التأكد من التزامها بالاتفاقية.
خلاصة القول؛ مهما أظهر طالبان من المرونة والتغيير في النهج والسلوك، إلا أنه لن يحرز أي تقدم في مسار الأزمة الأفغانية؛ طالما يتخذ من الإسلام السياسي نظاماً لإدارة البلاد، وكونه أثبت فشله على مدار عقود من الزمن، كما تناقضه مع طبيعة المجتمعات وتنوعاتها والتطورات الحضارية. ولن يحظى بقبول اجتماعي من الشعب الأفغاني الذي عانى من الإرهاب والتطرف، وربما تتوسع في قادم الأيام دائرة الاحتجاجات ضد الحركة، وبشكل خاص النساء، اللواتي يعول عليهن تغيير المجتمعات، أسوة بالثورة التي حققتها النساء في مناطق شمالي وشرقي سوريا، وحققت انتصاراً وسحقاً لأعتى تنظيم إرهابي “داعش” عرفته البشرية.

ولا ننسى الانتصار الوهمي لحركة طالبان كان بمثابة ضخ الروح ودفعاً معنوياً للجماعات الراديكالية للقيام بالعديد من الأعمال التخريبية؛ ولا يمكن فصل ما قام به عناصر تنظيم داعش الإرهابية في سجون شمال شرقي سوريا بمعزل عمّا حققته حركة طالبان، بالرغم من العداوة والاختلاف الايديولوجي بينهما، ولكن بالنهاية يتغذيان من نفس المنابع السلفية بالعودة إلى السلف الصالح.
لذا يتطلب من جميع الحكومات والقوى الديمقراطية والشعوب مواجهة الإرهاب؛ وتجفيف منابعه عبر دمقرطة المجتمعات، ونشر ثقافة التآخي والحفاظ على النسيج والسلم المجتمعي.

وما جرى في أفغانستان من تطورات دراماتيكية متسارعة دفعت العديد من القوى إلى استغلالها عبر نشر الرعب والخوف بين شعوب المناطق التي تتواجد فيها أمريكا. بأن أمريكا ستنسحب من المنطقة كما فعلت في أفغانستان، في خطوة منها لتفريغ المنطقة من سكانها وتسهيل السيطرة عليها وبشكل خاص الدولة التركية، وما تمارسه من حرب خاصة على شعوب شمالي وشرقي سوريا.
وأخيراً باعتقادي أن الخذلان الأمريكي للشعب الأفغاني سيدفعه إلى المزيد من الاعتماد على قواه الذاتية؛ ومحاربة الإرهاب، وسينعكس سلباً حتى على الداخل الأمريكي من خلق حالة من الاستنكار الشعبي وزعزعة الثقة بين الشعب والحكومة، وتراجع تأثير قوتها الناعمة المتمثلة بقيمها الديمقراطية والإنسانية؛ التي كانت من خلالها تساهم في إحداث التغييرات داخل المجتمعات.

السابق
بري يدعو لاعلان حالة طوارئ صحية: لوضع حد لكارتيلات ​الدواء!
التالي
بالصورة: النائب فرنجية يتغيّب عن الجلسة النيابية ليذهب الى الشاطىء.. قدِم اليه وعائلته عبر قارب!