من بيروت إلى كابل

طالبان المشرق العربي على بعد خطوات قليلة من دولنا ومجتمعاتنا، ذاك أن لكل دولة فاشلة وفاسدة ومستبدة طالبانها، ودولنا تجمع هذه الأمجاد من أطرافها، وهي إذ تستبد وتعيث فساداً، تغذي طالبانها الخاصة، وتؤسس لانقضاض يشبه ذاك الذي أقدمت عليه طالبان أفغانستان قبل أيام.

والحال أن المشهد الأفغاني جرى استقباله في مشرقنا البائس على نحو لا يقل بؤساً عن ذلك الذي يستبد بنا. فجأة تحولت طالبان إلى حركة تحرر من الاحتلال. الانسحاب الأميركي مثل لشرائح مشرقية واسعة ومتنوعة انتصاراً على الاحتلال، وتصويباً لواقع “امبريالي”، وإعادة حقٍ لأصحابه. وتغذى هذا الوعي البائس من مرارات متفاوتة. إسلاميون سوريون رأوا فيه انتصاراً و”عودة لراية الإسلام ولإمارة قد تكون انطلاقاً نحو الخلافة”، وممانعون شيعة لبنانيون رأوا فيه هزيمة لأميركا وإسرائيل، وعراقيون من طرفي الانقسام المذهبي احتفلوا بالحدث كل لأسبابه، علماً أن دافع كل طرفٍ للاحتفال هو بحد ذاته جزءاً من الحرب الأهلية الدائرة في ذلك البلد. 

اقرا ايضا: من يملأ الفراغ الأميركي…

لكن بلاداً في هذا المشرق أقل اضطراباً أصابتها حمى حب طالبان، فإسلاميو الأردن انتشوا وتنفسوا بعض الصعداء، والأرجح أن الحدث خاطب حماس في غزة. 

لكن كل هذا يبقى في مجال الانفعال بحدث ليس قريباً منا، والأهم بالنسبة إلينا ما يمثله المشهد الأفغاني من درس مرتبط بأحوال هذا الإقليم، ذاك أننا مخيرون في دولنا بين مجرم ومجرم، وبين مستبد وفاسد، وبين بعثي وطالباني، والفروق بين هذه الخيارات تغذي انقسامات أهلية ومذهبية تجعل من الاختيار فعلاً عدمياً لا يمكن الإقدام عليه من قبل غير المنغمسين بانحيازات لا مكان فيها للأخلاق ولقيم العدالة والتقدم. فأن تغادر سوريا خير لك من أن تختار بين بشار الأسد وأبو محمد الجولاني، والخيارات في العراق هي بين “داعش” والحشد الشعبي، أما في لبنان فنحن لسنا مخيرين حتى الآن، ولم يَلُح بديلاً عن أمين عام حزب الله حسن نصرالله.

أميركا قررت الانسحاب من أفغانستان، وبدأت تمهد لانسحاب موازِ من العراق. بالنسبة إلينا هذا انسحاب من الزمن الذي حددت واشنطن وجهته لنا منذ نحو 20 عاماً. زمن انخرطنا فيه جميعنا. خصوم أميركا قبل حلفائها كانوا جزءاً من هذا الزمن. أي زمن ما بعد 11 سبتمبر 2001، الخصوم انخرطوا في حرب عليه والحلفاء انغمسوا بما رتبه من حقائق. لكن هل يمكن العودة إلى ما قبل الـ2001؟ هل يمكن العودة إلى خريطة النفوذ في ذلك الزمن؟ العراق من دون صدام حسين، وسوريا بلد مدمر ومنكوب، ولبنان من دون رفيق الحريري ومن دون مهمته ووظيفته!

ثمة استحالات لا يمكن أن تتيح هذه العودة. وإذا كان المشهد الأفغاني، على رغم ما تمثله عودة طالبان من مآسِ، قد أتاح العودة وفق معادلة لم ترسم بعد صيغة واضحة، فإن معادلها المشرقي مستحيلاً. انسحاب أميركا من العراق لن يعني سوى تقسيماً لذلك البلد، وهو تقسيم ستسبقه حرب أهلية هائلة، وشعور بشار الأسد أنه طليق اليدين مع حليفيه الروسي والإيراني سيضاعف المآسي في ذلك البلد، وفي لبنان لن يكون من خيار أمام الخصوم المذهبيين والأهليين سوى التمثل بسلاح الخصم المذهبي.

القرار الأميركي بالانسحاب ينطوي على هذا القدر من عدم الاكتراث لما خلفته سنوات الحرب، لا بل أنه قد يصيب مصالح الأمة الأميركية بأضرار سبق أن اختبرها الغرب عندما راوده قبل سنوات قليلة وهم تركنا لمصائرنا، فنجم عن ذلك ولادة “داعش” وطوفانه في العالم. فالغرب بعلاقته بمجتمعاته غير مكتفٍ بنفسه. القيم والأسواق والثروات والعلاقات التبادلية، كلها تملي تورطاً بأمراض بعضنا بعضاً، مثلما أملت ازدهاراً وتشاركاً في القيم وفي الطموحات. 

لم يعد ممكناً أن تقول أميركا إنها غير معنية بما يصيبنا، فهو سيصيبها، لا بل هو أصابها أكثر من مرة، وما عزز من هذا الاحتمال هو قرار القدوم إلى الشرق، واحتلال أفغانستان والعراق. و”تصويب الخطأ”، على نحو ما أوحى به خطاب جو بايدن، لا يكمن في أن تخلف أميركا خلفها مزيداً من الحروب، بل في مراجعة التجربة في أفغانستان وفي العراق، انما أيضاً في سوريا وفي لبنان.

وإذا كان لدى أفغانستان احتمال واحد يعقب الانسحاب هو طالبان، وهو احتمال محسوب بمأساويته، فإن الاحتمالات الطالبانية المشرقية مفتوحة على مآسٍ وعلى تزخيم هائل للحروب والانقسامات، و”حركات التحرر الوطني” في اقليمنا تتحفز للانقضاض على بعضها بعضاً، وثقافة الحروب في بلادنا لا تحتمل رئيساً يغادر البلاد “حقناً للدماء” على نحو ما فعل الرئيس الأفغاني أشرف غني.

السابق
«ليست هبة».. ايران توضح: «تجار شيعة» لبنانيين اشتروا شحنة الوقود!
التالي
لقاء بعيد عن الاعلام.. عون استدعى ميقاتي الى بعبدا