الخارج «يهرع» إلى لبنان..أقلّ من تدويل وأكثر من «عناية فائقة»!

ايمانويل ماكرون يتفقد الاضرار

.. أقل بقليل من التدويل وأكثر بكثير من العناية الفائقة.

هكذا هو حال «التدخل» الدولي في لبنان الآن، وكأن العالم يهرع للحؤول دون الارتطام الكبير الذي من شأنه وضع «بلاد الأرز» في فوهة فوضى قد لا تنجو منها في لحظة صراع «الفرز والضم» في الإقليم المشتعل فوق طاولات المفاوضات وتحتها.

مبادرات، عقوبات، مؤتمرات، نداءات، مناورات، زيارات و… هواتف حمر، ظاهرُها اهتمام دولي منقطع النظير بلبنان المهدَّد بالتفكك والزوال تحت وطأة أزمات متوحشة تَكاتفت عليه، مالية، اقتصادية، مصرفية، نقدية، معيشية، اجتماعية و… وأخطرها أولاً وأخيراً الأزمة السياسية ذات الامتداد الإقليمي التي أمعنت في عزل لبنان.

مبادرة فرنسية، عصا أميركية، لقاء فاتيكاني، حاضنة مصرية، عقوبات أوروبية، «علاقات عامة» روسية، ونفوذ إيراني متعاظم عن بُعد وعن قُرب… غيض من فيض الأدوار الإقليمية – الدولية في لبنان المشلّع الأبواب أمام الخارج وعلى فصولٍ غامضة، الأكثر وضوحاً فيها هو السقوط المدوي لـ «الداخل» وسلطته ومؤسساته ورجالاته.

الانكفاء العربي ساعد في تَعاظُم نفوذ إيران في لبنان كما ساحات أخرى

لم يكن لبنان يوماً بمنأى عن أدوار الخارج، بحُلْوها ومُرّها.

فمنذ الاستقلال العام 1943، لم يتمكن من التخلص نهائياً من صراعات المحاور الإقليمية والدولية.

موقعه الجغرافي وتعدديته والحرية التي عاشها أبناؤه لعقود، جعلت منه ساحة تجاذب دولي وإقليمي.

في التاريخ الحديث، لم تكن الحرب المتعددة الألقاب، التي وقعت العام 1975، إلا انعكاساً لهذه التدخلات معطوفة على الخلافات السياسية الداخلية التي أفسحت المجال أمام ألاعيب الخارج.

بعض منها ساهم في إذكاء الحرب، وبعض منها تدخل مراراً وتكراراً لفرض حلول وتسويات جزئية، قبل أن يتبلور اتفاق الطائف بصيغته النهائية لوقف المدفع العام 1990.

 الخارج على خط «التوتر العالي» من الـ425 إلى الـ1701 مروراً بـ1559

بين 1990 و2005، كان النظام السوري يتحكم بمفاصل لبنان، بتغطية خارجية، إلى أن وقع اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما حصل بعده من تدهور وانقسام سياسي حاد.

الاغتيال وما رافقه من رفْع شعارات الحرية والسيادة والاستقلال، لم يمنع التدخلات الخارجية.

بالعكس تماماً فإن الأجواء الدولية التي رافقت صدور القرار 1559، أسست لبدء مرحلة أساسية من التجاذبات الدولية حيال لبنان، تبعها القرار الدولي 1701 نتيجة حرب يوليو الإسرائيلية العام 2006.

خلال الحرب الطويلة (1975 – 1990)، لم يكن لبنان على تماسٍ مع القرارات الدولية في الشق الداخلي المتعلق بوقف دورات العنف المتوالية.

خلافات الداخل غالباً ما تَفتح الأبواب أمام الاعيب الخارج

كان الأمر متروكاً لدول عربية سعت عبر مؤتمرات وتوصيات القمم العربية إلى الحفاظ على استقلال لبنان وإجراء تسويات فيه، وظل ذلك واقعاً حتى اتفاق الطائف.

في حين ساهمت الأمم المتحدة والدول الغربية في الشق المتعلق بإسرائيل عبر إصدار قرارات دولية بدءاً من القرار الذائع الصيت رقم 425 الذي امتنعت إسرائيل عن تطبيقه وصولاً إلى سلسلة قرارات متتالية لتنفيذه، قبل أن يتم الانسحاب الإسرائيلي العام 2000.

مع القرار 1559، الذي صدر في سبتمبر 2004 اتخذت الرعايةُ الدولية للبنان وجهاً آخر.

تزامن هذا القرار مع مرحلة التمديد للرئيس إميل لحود، وبدء الكباش الحقيقي بين سورية ومعارضيها.

وشدد القرار على ضرورة انسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، وهو عنى هنا الجيش السوري الذي لم ينفذ اتفاق الطائف والانسحاب من لبنان، إضافة إلى حل جميع الميليشيات وتسليم سلاحها.

كانت الحوارات التي أجرتْها باريس مع دمشق آنذاك مقدّمةً لتدخل فرنسي مباشر. لكن دمشق لم توافق على الانسحاب وتخفيف حدة قبضتها على الوضع الداخلي.

إقرأ أيضاً: ميقاتي يستنفر لإنقاذ لبنان..وعون لتعويم باسيل!

تدريجاً بدأت مفاوضاتٌ فرنسية مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش – الابن، لنقل الملف اللبناني إلى الإطار الدولي، وهو ما أسفر عن موافقة واشنطن وتالياً صدور القرار، الذي أُعدّ فرنسياً، بموافقة أميركية مُطْلَقة. القرار الأممي، هو أول حجر أساس في معركة تحوّلت العام 2005 مع اغتيال الحريري، الذي حمّلتْه دمشق مسؤولية مناقشة مسودة القرار الدولي مع الرئيس جاك شيراك، إلى معركة الاستقلال الثاني التي حظيت بإحاطة دولية.

تفاعَلَ القرار 1559 مع عملية الاغتيال والانقسام السياسي بين قوى «8 مارس» الحليفة لسورية وإيران وبين تحالف «14 مارس» الذي طالب بتنفيذ القرار الدولي لا سيما الشق المتعلق بالانسحاب السوري، وبدرجة أقلّ بحلّ الميليشيات وتسليم سلاحها وتحديداً «حزب الله».

فتحتْ حرب إسرائيل على لبنان العام 2006، المجال مجدداً لوضع لبنان تحت عيون المجتمع الدولي. فالقرار 1701 أكمل في نواحٍ عدة القرار 1559، في الشق المتعلق بسيادة لبنان واستقلاله وحل الميليشيات.

إذ دعا إلى تطبيق كامل لمقررات اتفاق الطائف ذات الصلة، والقرارين 1559 و1680 «التي تتضمن نزع أسلحة كل الجماعات المسلحة في لبنان، من أجل، ووفقاً لقرار مجلس الوزراء في 27 يوليو 2006، عدم وجود أسلحة أو سلطة في لبنان عدا تلك التابعة للدولة اللبنانیة، لا قوات أجنبیة في لبنان من دون موافقة الحكومة، لا بیع أو إمدادات من السلاح والمواد المتعلقة بها إلى لبنان إلا إذا أجازت حكومته».

فتحتْ حرب إسرائيل على لبنان العام 2006 المجال مجدداً لوضع لبنان تحت عيون المجتمع الدولي

وفي مراجعة قام بها الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي أنان قال: «إن نزع سلاح حزب الله في ما يتعلق بتحوله إلى حزب سياسي يُعَدّ عاملاً أساسياً في إنهاء الأعمال العدائية في المنطقة». ومنذ صدور القرارين الدولييْن، والانقسام السياسي الداخلي حولهما مستمر. فقوى «14 مارس» والشخصيات التي مثّلتْها دأبت على المطالبة بتنفيذ كامل للقرارين الدوليين بكل حيثياتهما، علماً أن ما يتعلق بنشر القوات الدولية في المناطق الحدودية مع سورية تحول في مرحلة أساسية عنوان صراع مع «حزب الله».

ثم جاء اتفاق الدوحة الذي حظي بتغطية دولية، ليكمل مسار الاهتمام الدولي، عبر اتفاقٍ لإنهاء حال الانقسام الداخلي نتيجة أحداث 7 مايو 2008 (العملية العسكرية لحزب الله ضد بيروت وبعض الجبل)، والاتفاق على انتخاب قائد الجيش آنذاك ميشال سليمان رئيساً.

بين 2006 و2019، تَدَرَّجَ الاهتمام الدولي بلبنان، عبر رعاية الاتفاقات الإقليمية للحفاظ على الاستقرار، لكن جزءاً من هذا الاهتمام تهاوى إثر الفراغ الرئاسي الذي أعقب ولاية الرئيس سليمان.

وفي 2016، جاءت التسويةُ الرئاسيةُ (أتت بزعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون رئيساً وأعادت زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة) التي حصلت بعوامل محلية، لتترك تأثيراتٍ على الإحاطة الدولية ولا سيما الأميركية منها تجاه بيروت، لأن واشنطن لم تكن كما السعودية راضية عن التسوية بمفاعيلها التي أيّدتْها باريس.

ومع انحسار الدور الغربي والعربي ارتفع منسوب التدخل الإيراني، ما أخلّ بالتوازن الذي كان قائماً في مرحلة السين – السين (الحوار السعودي – السوري)، ومن ثم العلاقة السعودية – الإيرانية.

ورغم هذا الانحسار، بقي لبنان في الشق الاقتصادي محط رعاية دولية، أنتجت مؤتمرات اقتصادية لتأمين التمويل اللازم لمشاريع حيوية، انطلقت مع مؤتمرات باريس المتتالية ومن ثم سيدر، ومؤتمر روما وغيرها.

عام 2019 شكل بداية العودة الخارجية بخطوات ثابتة. فتحت الانتفاضة الشعبية في 17 أكتوبر عيون العالم على متغيرات حقيقية يعيشها اللبنانيون في مسارٍ انحداري انكشفتْ حقيقتُه مع انفضاح عملية التحويلات المصرفية إلى الخارج، ووضع المصارف يدها على ودائع اللبنانيين وغير اللبنانيين، والمسارات القضائية التي غطاها الإعلام الغربي بقوة.

فتحت المحطات الغربية والعربية شاشاتها لتغطية الحَدَث اللبناني، فساهمت في عودة الاهتمام، وهذه المرة تحول الاهتمام نحو الشعب اللبناني لا الدولة أو القوى السياسية، عبر البحث عن بدائل للسلطة القائمة ووضع أسس لحلول مالية ومصرفية واجتماعية تساعد اللبنانيين.

وظهر الخطاب الخارجي حاداً للمرة الأولى متحدثاً عن فساد الطبقة الحاكمة متلائماً مع خطاب الداخل.

وبعد انحسارٍ فرضتْه إجراءات «كورونا»، أدى الانفجار «الهيروشيمي» في مرفأ بيروت في 4 اغسطس 2020 إلى إشعال الاهتمام الخارجي بلبنان بطريقة أكثر حدة من قبل.

فبين المبادرة الفرنسية والضغط الدولي عبر الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، عاد اللبنانيون إلى خريطة العالم.

أول خطوة فعلية بعد ملامح فشل المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون من بيروت وقامت على تأليف حكومة مهمة وخطة إنقاذ اقتصادي والحوار مع صندوق النقد الدولي، كانت الحديث عن فرض عقوبات أوروبية على مسؤولين في لبنان مُتَّهَمين بعرقلة تشكيل الحكومة وبشبهات الفساد.

وأتى الكلام الأوروبي بعد عقوبات أميركية على الوزراء السابقين علي حسن خليل وجبران باسيل ويوسف فنيانوس.

إلا أن «العصا» الأوروبية قوبلت برفض بعض دول الاتحاد ومنها المجر التي تربط وزير خارجيتها علاقة مع باسيل.

لكن التدخل الفرنسي تجدّد وهذه المرة مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وكان اللقاء الأخير بين وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن، فاتحةً لكلام أكثر جرأة ولتحذير عالي النبرة بسبب عدم تشكيل حكومة، فباتت واشنطن على الموجة الحادة نفسها مع باريس التي تولّت الإعلان أخيراً عن اتجاه لفرض عقوبات أوروبية على مسؤولين لبنانيين قبل الذكرى السنوية الأولى لانفجار المرفأ.

العالم الغربي يُعْلي الصوت مُرْتاباً من الارتطام الكبير في لبنان

على أن التحرك المشترك ترجم إقليمياً من خلال تنسيق زيارتيْ السفيرتين الأميركية والفرنسية دوروثي شيا وآن غريو إلى الرياض متابَعةً للقاء الثلاثي في ايطاليا بين بلينكن ولودريان ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، وهو ما أعقبه قيام السفيرتيْن بجولة لقاءات محلية مشتركة للدفع في اتجاه تشكيل الحكومة قبل أن يعتذر الرئيس المكلف سعد الحريري، إضافة إلى السعي لتأمين مساعدات للبنانيين.

وتشكل ذكرى انفجار المرفأ مناسبة لإيقاظ الضمير العالمي مجدداً على حجم المأساة اللبنانية، إلا ان المساعي والتلويح والتقريع في الأشهر الماضية لم يسفر عن خطوات مؤثرة في تغيير مسار المسؤولين، لا بل إن ما حصل منذ سنتين وحتى الآن ينبئ أن المسؤولين لن يُحْدِثوا أي تغيير في سلوكهم.

والرهان أن التصميم الدولي في هذه المرحلة أصبح أكثر حضوراً من أي وقت، على وقع مفاوضات فيينا النووية، والتطورات من سورية إلى العراق ولبنان… ما يحدث الآن أقل من تدويل وأكثر من عناية فائقة، في انتظار ترجمة الخطوات الدولية عملانياً، كي يتضح فعلاً مستقبل لبنان.

السابق
العقوبات الأوروبية ستطال «مجموعة كبيرة» من السياسيين اللبنانيين
التالي
عُقد عون «تعصر» ليونة ميقاتي..والأنظار شاخصة الى بعبدا غداً!