وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الثورة..إستنقاذ الدولة من أسر السلطة

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

 عندما ظهر مفهوم الدولة الحديثة، بصفتها كائناً معنوياً ذي سيادة،  كان الغرض من ذلك هو إقامة الفصل: بين السلطة بصفتها اقتداراً بشرياً ، وجملة صلاحيات يحوزها مجموعة أفراد، تمكنهم من إملاء أو فرض إرادتهم على باقي أفراد المجتمع من جهة، وبين الدولة بصفتها كائناً ثابتاً ودائماً، لا ينتهي بموت الأشخاص ولا يتحدد بالأفراد والشخصيات، بقدر ما يتحدد بمهامه ووظائفه وطبيعة نشاطه، التي تعتبر جميعها ضرورية لانتظام أي مجتمع، مهما كانت طبيعة النظام السياسي، ومهما كانت كفاءة الأشخاص وحسن نواياهم من جهة أخرى.

 هذا يعني ان السلطة تتمثل بأفراد، يملكون حقاً قانونيا بفرض قراراتهم، والتأثير على سلوك من لا يملكون هذا الحق. وهو حق لا يستحقه هؤلاء بقوة الولادة أو النسب أو الاصطفاء، بل يكون بفضيلة التمثيل التي  تمنحها أكثرية أو غالبية المجتمع، لأفراد محددين لأداء مهمة محددة. هي منحة ليست كالبيعة أو عقود التنازل، أي ليست حقاً أبدياً أو ملكية خاصة، بل هي بمثابة وديعة قابلة للانتزاع والاسترداد، ووضعها بيد أفراد آخرين.

يسقط حق السلطة الممنوح للأفراد عند انتهاء مدة التمثيل التي يفرضها مبدأ تداول السلطةوعدم كفاية من في السلطة

يسقط حق السلطة الممنوح للأفراد في حالتين: أولهما انتهاء مدة التمثيل التي يفرضها مبدأ تداول السلطة، الذي تجعل حيازة هذا الحق مؤقتاً وآنياً، بحيث تنتهي كامل مفاعيل هذا الحق بانتهاء المدة المحددة للتمثيل. ثانيهما عدم كفاية من في السلطة، إما بظهور عجز جسدي وذهني عن تحمل مسؤولية هذا الحق، وإما بظهور سوء استعمال لهذا الحق، بأن يوظف صلاحياته لتحقيق مصالح شخصية، أو يمارس تعسفاً غير معقلن لصلاحياته، أو يفشل في أداء مهمة ضمان الحريات وتحقيق الأمن والمساواة والرفاه للجميع. في هذه الحالة تكون السلطة فاقدة الشرعية تلقائياً، ويحق للمجتمع استرجاع وديعة التمثيل ساعة يشاء ، بأساليب لا تخرج عن التعبير السلمي والمطالبة الديمقراطية.

أما الدولة فهي كائن موجود هناك دائماً بنحو الضرورة العقلية، لا يمنحه أحد حقاً أو صلاحية، بل يملك سيادة ذاتية، أي يملك حقاً حصرياً باحتكار الإكراه المشروع.  هي سيادة لا تتجزأ ولا تنقطع، بل هي بسيطة ودائمة وثابتة، لا تنتهي بمرور الزمن ولا توجد مدة زمنية لانقضاء أمرها ووجودها.  هي كائن غير مشخصن، أي لا يتحدد بأفراد أو جهات أو شخصيات، فالدولة تبقى والأفراد يذهبون، ما يجعل الدولة  كائناً معنوياً كلياً، وتكون الإرادة المنبثقة عنه إرادة كلية وعامة، لا تختص منافعها أو مفاعيلها بفرد دون فرد.

الدولة كائن مؤسساتي يفصل بين الشخص الطبيعي للحكام والتصور المجرد للقوة العامة

 هذا يجعل الدولة كائناً مؤسساتياً، يفصل بين الشخص الطبيعي للحكام والتصور المجرد للقوة العامة، ويضمن استمرارية الدولة التي لن يضرها تعاقب الأشخاص القابلين لأن يجسدونها وقتياً، ويسمح في الوقت نفسه تعميم الأنظمة القانونية المكوِّنة لدولة القانون، لتحديد إمتيازات (عامة لا شخصية) كل أولئك الذين يمارسون السلطة بإسم الدولة، وتحديد التزاماتهم، بالإضافة إلى حقوق والتزامات الذين تتحكم السلطة بهم.

إقرأ أيضاً: «البضائع» الإيرانية «الإفتراضية» تُغضب الجنوبيين..وكارتيل الغالونات يتمدد!

هذا يجعل من الدولة الحديثة سلطة قانونية – عقلانية بالمعنى الذي يفهمه ماكس فيبر. فالحكام والوكلاء الإداريون على حد سواء، يجب عليهم احترام الدستور والقوانين النافذة، وسلطتهم لا تمارس إلا وفق الأشكال الإجرائية المحددة، وفي ميادين اختصاص محصورة. ما يجعل التعسف المزاجي وعدم اليقين بالنسبة للقانون القابل للتطبيق، مستبعدان بالكامل على كل مستويات البناء التسلسلي للدولة. إذ بقدر ما تمارس الدولة الحديثة سلطة الأمر هي أيضاً خاضعة له.  وهذا هو مفهوم الدولة القانونية التي تخضع لاحترام الحريات الأساسية، وتكره على عدم انتهاك القواعد الإجرائية أو الاساسية.  فقوة الدولة ليست شيئا آخر غير فعالية نظامها القانوني، بحيث يكون كل من السلطة السياسية والإدارية، أجساماً مكونة من أفراد خاضعين إلى علاقات منظمة قانونياً، تنظم حقوقهم وواجباتهم تجاه الأفراد الآخرين.

أهمية التمييز بين الدولة والسلطة، هو أن الدولة تبقى مهما كانت الاعتبارات والظروف، لأنها في حقيقتها ضرورة عقلية لبقاء المجتمع نفسه، بل هي المجتمع نفسه في وضعية انتظامه لنفسه، وسقوط الدولة ونهايتها تعني سقوط ونهاية وتفكك المجتمع نفسه، ما يجعل الحياة خارج الدولة بحسب هيغل بداوة، أي حياة متفلتة غير منضبطة وقابلة أن تتخذ حال حرب الكل ضد الكل.  أما السلطة فهي صلاحيات ممنوحة لأفراد محدودين، يمكن للمجتمع إسقاطها واستردادها ساعة يشاء. ما يعني أن صفة الفشل لا تلصق بالدولة لان الدولة لا تفشل، بل يفشل الذين أوكل إليهم إدارة شؤون الدولة وتسيير مؤسساتها.

التمييز بين الدولة والسلطة أمر جوهري في أية عملية تغيير في لبنان

التمييز بين الدولة والسلطة أمر جوهري في أية عملية تغيير في لبنان. إذ إن الخطوة الحاسمة في وقتنا الراهن، هو انتزاع الدولة من براثن أهل السلطة، بعد أن باتت الدولة مصادرة ومغيبة، وواقعة في أسر قوى تنتزع من الدولة أكثر مهامها، بخاصة سيادتها، وتقدم نفسها بديلا عن الدولة، بحيث بات بقاءها واستمرارها مرهون بتعميم حال اللادولة، أو بتعبير أدق حال البداوة.

 ليست الدولة شيئاً يضاف إلى المجتمع من خارجه، ولا المجتمع شيئاً ينتج سلطته بعد تشكله.  فكلاهما يتحدد بالآخر، ولا يدرك أحدهما إلا باستحضار كامل أجهزة الآخر وإجراءاته وبناه ومؤسساته.  فالمجتمع يتشكل بعد وضع إلزامات وحدود وموانع وأطر اصطناعية، تنتج بداخلها شبكة سلطة آمرة وناهية، كما أن السلطة هي صورة المجتمع نفسه متجلياً في شبكة علاقاته ونظمه وتراتبياته وقواعد توزيع القوة فيه.

هذا يعني أن إرادة التغيير الفعلية، تبدأ عندما يترسخ الوعي المجتمعي، بأن الدولة ليست سوى المجتمع نفسه، وأن استنقاذ الدولة من السلطة هو استنقاذ المجتمع لنفسه، وفعل خلاص لبقائه.

السابق
أسرار الصحف ليوم الخميس في 8 تموز 2021
التالي
عندما يلبس دياب «القميص الأسود»… الحكومي!