أيها الشامة البيضاء.. لا أقول وداعًا بل إلى اللقاء

عبد الكريم لطفي كزبر

كانت حرب 1967 مفصلاً مهمًا في حياة مدينة عريقة وادعة على البحر الأبيض، صيدا، متدينة على استحياء، وثائرة من غير عنف، ولكن جذوة الدين الذي دخل مع الفتح عام 16 للهجرة كانت جاهزة لتسترد وهجها، وبطبيعة الحال تحتاج إلى رجال، وصفهم تعالى بقوله: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}[الأحزاب/23]، لا يكفي أن يؤمنوا بالنظرية المثالية بل يؤمنوا بضرورة العمل.

كان الأستاذ المربي يومها عبد الكريم لطفي كزبر أحد هؤلاء الذين أيقظت الكارثة في نفوسهم الأمل ولم تدفعهم إلى اليأس، تحركت فيه الفطرة نحو الالتزام بأحكام الشريعة، وحرّكته رسالته التربوية لتبني طريقة في الإصلاح لم يحد عنها طوال حياته، فكان شعاره (التربية والتعليم هو الحل)، وليس أي تربية ولا أي تعليم، إنها التربية القائمة على أسس القيم الإسلامية الراسخة التي حققت نهضة أمتنا في الماضي والقادرة إلى إعادة نهضتها مرة أخرى.

اقرأ أيضاً: الممارسات العدوانية ضد المفتي الأمين(2): «حزب الله» يُحرض.. ويفبرك تهمة إثارة النعرات!

عرفته مذ ذاك الزمن، خطيبًا مفوهًا متطوعًا عقب كل صلاة جمعة، خاصة في جامع الزعتري، حيث يجتمع نخبة من رجالات صيدا ورجال الأعمال فيها، الذين إذا لفتت دعوتُه اهتمامهم يمكن أن يرى مشروعُه النور، مدرسة نموذجية تجمع بين التعليم الحديث والتربية السليمة والقيم الإسلامية. ولم يكل ولم يمل خلال سنوات طويلة وهو يخطب في الناس عقب كل جمعة، في كثر من مسجد، يبين لهم أهمية التربية والتعليم بالتوصيف المذكور.

كان أنيقًا في مظهره، رجلًا من رجال الثقافة بهندام غربي وليس (رجل دين) بجبة وعمامة، ومثقفًا بثقافة العصر، وشابًا يمثل المستقبل، واستجاب له بضعة أنفار لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة، وكان بينهم شيخ شاب متحمس من يارين، إحدى القرى الحدودية، هو الشيخ عقل عارف حمادي، وما زلت أذكر صوته الجهوري من على منبر جامع الزعتري، وهو يستثير عقل وعاطفة وجيوب السامعين عن أهمية بناء مدرسة، على التوصيف الذي يدعو إليه الأستاذ عبد الكريم كزبر، ما زلت أذكر تكراره في خطبته العصماء نلك، قول الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة/50].

وكانت استجابة المصلين طيبة، وبدأت المسيرة بالترخيص (للمركز الثقافي الإسلامي) الذي في جملة أهدافه إقامة مدرسة، وضم منذ إنشائه نخبة من شباب صيدا ومثقفيها أذكر منهم المرحوم الشيخ عثمان حبلي وكاتب العدل الأستاذ مصطفى كيلو والدكتور التربوي عبد الرحمن حجازي والأستاذ التربوي حسن العيساوي، وآخرون تخونني ذاكرتي في تعدادهم وأرجو أن يغفروا لي تقصيري.

وتبرع الحاج إبراهيم المارديني (رحمه الله) بمنزل له في منطقة البستان الكبير، وسجل الأستاذ عبد الكريم ابنه في المدرسة الناشئة، فكان قدوة في ذلك، صادقًا في هدفه، وهو الذي يعلم من تجربته أن المدارس الناشئة كأي عمل جديد تحتاج وقتًا لتكتسب ثقة الأهالي والطلاب، وليكتسب مدرسوها الخبرات التربوية المطلوبة.

لم تكن (مدرسة الإيمان) ابنة (المركز الثقافي الإسلامي) مؤسسة تجارية أو تجربة عابرة في حياة عبد الكريم كزبر، كانت منزله الأول لا الثاني، وعائلته الأولى لا الثانية، كانت اللقاءات في بيته وعلى حساب أوقات راحته وراحة عائلته، وكان يساهم كأي متبرع بالتزام شهري من جيبه، وبالإضافة إلى ذلك كان يدرب ويعلم ويتابع الشؤون الإدارية، أذكر أن الفرصة واتته للحصول على هاتف أرضي – وهو أمر عزيز في ذلك الوقت – فتبرع بالهاتف لمدرسة الإيمان وعندما عوتب من أهل بيته قال: “المدرسة أولى”.

جمعني والأستاذ الحاج عبد الكريم (جمعية جامع البحر) إذ استحدث الشيخ عمر الحلاق (رحمه الله) فيها لجنة للشباب، وألح عليّ أن أكون منهم، وكان للشيخ عثمان حبلي دورٌ رئيس في هذه اللجنة وللحاج عبد الكريم بصمة تربوية.

ووقع الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 ثم الانسحاب عام 1985 ولكن المحتل الخبيث لم يترك صيدا دون زرع فتنة مع شرقها، يومها قررنا أن نتصدى للفتنة وأن نرد عدوان أذناب العدو وعملائه عن المدينة، وسقط شهداء، ومقعدون، وجرحى، وأمامنا أمانة أيتام وأرامل وثكالى، وكنا قد خضنا المعركة دون الإعداد لتداعياتها الاجتماعية، فأنشأتُ مع بعض الشباب (الهيئة الإسلامية للرعاية) وجعلتها وقفًا بناء على نصيحة الحاج توفيق الحوري، وكان الحاج عبد الكريم أول المبادرين إلى الانتساب إليها والعاملين باجتهاد والمتابعين بمثابرة لنجاحها، ثم أضحت (الرعاية) اليوم ملء العين والبصر بجهود القائمين عليها وبمساندة أهل الخير من أبناء صيدا ومن أبناء الخليج العربي، عندما انتقلت إلى الكويت مستشارًا لوزارة الأوقاف ثم مدرسًا جامعيًا فيها.

الحاج عبد الكريم النشط في ميدان التربية والتعليم، والساهر على خدمة الناس في مؤسسات المجتمع المدني، الإنسان الخلوق الذي يخالف ولا يختلف، ويبين ولا يعاند، ويبني ولا يهدم، ويعيش هم مجتمعه ووطنه، لا يفه حقه مقال ولا بحث ولا كتاب، فقد قدم لصيدا ما نرى آثاره في كل زاوية من زواياها، وأنشأ عائلة يحق لها الافتخار به، وهو سليل الدوحة النبوية الشريف نسبًا وخُلُقًا.

أكرمني بأن قبلني فردًا من أفراد أسرته، فزوجني كريمته، أم عيالي، ومنذ عام 1977 وحتى آخر لحظة في حياته كان الأب والأخ والصديق، لا يبخل بمال ولا وقت ولا نصيحة ولا خدمة من أجل إنشاء أبنائي على ما أنشأ أبناءه عليه.

إن سألت عن كريم الأخلاق في عصر الفتن أشار إليك أهل صيدا إلى الحاج عبد الكريم كزبر، وإن سألت عن نظافة الكف واللسان فهو أحد الأمثلة البارزة، وإن سألت عن التسامح والمحبة والانفتاح فهو في المقدمة.

بقيت ذاكرته حاضرة كأنه يقرأ في كتاب مفتوح حتى لحظات حياته الأخيرة، كان آخر عهده في الدنيا أنه قام في غرفته بالمستشفى إلى صلاة الفجر، فكانت وفاته مع نطق الشهادتين، فكتب الله أن يختم له بالطاعة، وكان لا يفتر أن يقول – بالرغم من ألمه ووهنه وقد تجاوز الثانية والتسعين – عندما تسأل عن حاله: “الحمد لله”، كلمة تحمل من المعاني ما يكفي لتعرف من هو عبد الكريم كزبر، وقد أصر في رمضان الأخير هذا أن يصومه طاعة وقربى إلى الله لا يفوّت منه يومًا ولا عبادة.

اللهم إنك تعلم أنه أحبك وأحب رسولك، وتعلم أنه كان تاليًا لكتابك، خادمًا لأمتك، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا يقبل بسفاسف الحديث، ولا مجالس الثرثرة، يكره الغيبة كره السوي للمرض.

هنيئًا لكم أبناءه وأحفاده بالانتساب إليه، فأنتم تنتسبون به إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلك) وإلى مكارم الأخلاق.

قد يفقد أحدكم بفقده أبًا أو جدًا أو معلمًا مرشدًا، أما أنا فقد فقدت بفقده أولئك جميعًا في شخصه.

اللهم أحسن إقباله عليك، ونزوله بك، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وارفع مقامه مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.

*د. صلاح الدين سليم ارقه دان
*مؤسس الهيئة الإسلامية للرعاية
*رئيس الجمعية اللبنانية للعلوم والأبحاث

السابق
على خطى المحروقات.. قريبا رفع الدعم عن هذه الأدوية: هذا ما «يطبخ» في بعبدا!
التالي
بالفيديو: شاب يحاول الانتحار من شرفة منزله في طرابلس !