حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الفيدرالية.. من «لبنان الكبير» الى «حزب الله»!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

تطرح عودة طروحات الفيدرالية في أوساط لبنانية، تنامي اليأس والإحباط والضياع، بشكل عام في لبنان في بعض البيئات اللبنانية، وميلا متزايدا لدى أوساط عديدة، لمغادرة الرهان على استمرار الصيغة اللبنانية السياسية، التي قام عليها لبنان، منذ إعلان لبنان الكبير، على يد الجنرال غورو سنة 1920، وتستعيد دعوة الفيدرالية نشاطها انطلاقا من تعاظم نفوذ حزب الله، وإمساكِه بمفاصل القرار السياسي اللبناني، وتحكمِه بقرار السلم والحرب، وبتقريره، متجاوزا لمؤسسات الدولة واجهزتها السيادية، لمعظم المسائل المتعلقة بالسياسة الدفاعية والعلاقات الديبلوماسية الخارجية، وصولا الى استباحة مداخيل الدولة من الرسوم والضرائب والجمارك، على المعابر الحدودية، والتحكم بحركة التصدير والاستيراد من لبنان واليه، وصولا لإتاحه وتسهيل أعمال الجريمة المنظمة، بتهريب الأموال والمخدرات والسلاح والسلع المدعومة من مصرف لبنان.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: «لبنان الأخضر» يتحول الى ثُقبٍ أسود!

ويتصور أصحاب الدعوة الجدد للفيدرالية، ويصورون خلافا للواقع، على أنَّ الفيدرالية يمكن أنْ تشكلَ حلا لمعضلات لبنان الحالية، وتصحيحا لخطأ تاريخي إقترفه المسيحيون، بتبنيهم قيام لبنان الكبير، بدل لبنان الصغير، الذي تكون حول نظام المتصرفية والقائم مقاميتين، في منتصف القرن التاسع عشر الماضي.

الفيدرالية المرفوع لواءها اليوم، هي توأم مشروع الوطن القومي المسيحي، الذي عمل له المغدور بشير الجميل وقضى بسببه

ولذلك فهذه الدعوة وان كانت تأخذ مبرر تجديدها، من الكارثة السياسية والاقتصادية، والمصير المجهول الذي يواجه لبنان وشعبه، الا انها كفكرة وتوجه سياسي، كانت قائمة ومعتمدة قبل نشوء حزب الله وقبل اتفاق الطائف، وحتى قبل قيام وترسيخ ما يسمى اليوم ب “الشيعية السياسية”، وقد أُطلقت أديباتُها وخطابُها، من قبل الجبهة اللبنانية في خلوة سيدة البير التي عقدت سنة ١٩٧٦، وتولى الدعوة لتبنيها وبناء حيثياتها الفكرية والنظرية كل من امين ناجي، وفؤاد افرام البستاني، والاب مونس و المحامي انطوان نجم، فيما رسم خريطة الكيان المسيحي فيها السيد موسى البرنس، والفيدرالية المرفوع لواءها اليوم، هي توأم مشروع الوطن القومي المسيحي، الذي عمل له المغدور بشير الجميل وقضى بسببه.

و بعيدا عن منطق التخوين والاتهامات وقراءة النوايا، أو التصدي لفكرة الفيدرالية المطروحة، عبر ربطها بمؤامرات او خطط خبيثة أو مخططات مشبوهة، فلا بد من نقاشها كفكرة ومشروع من زوايا متعددة ومستويات مختلفة:

  • · أولها المستوى المعرفي، وذلك بمعالجة مبرراتها واسانيدها النظرية والفكرية.
  • · ثانيها امكانية تحقيقها، وهل تشكل حلا لكارثة لبنان الراهنة واستعادة لدوره وازدهاره؟.
  • · ثالثها فائدتها العملية للبنان عموما ولمسيحييه خصوصا، وحساب الربح والخسارة على جماعات لبنان وطوائفه.
  • · رابعها مواءمتها الزمنية في مجال العلاقات الاقتصادية والسياسية الراهنة وافاق تطوراتها الاقتصادية .
  • · وخامسها صلاحيتها كحل يؤمن استتباب الأمن والازدهار والرفاه لشعب لبنان وأجياله القادمة.

على المستوى المعرفي ينطلق طرح الفيدراليين اللبنانيين من أن لبنان بلد تعددي، وهم يختصرون التعددية بالانتماء الديني، فيلحظون اربع هويات لبنانية على أساس ديني، في الجانب المسيحي، وعلى اساس مذهبي في الجانب الاسلامي : هي المسيحية، السنية، الشيعية والدرزية، والتعددية المطروحة هنا، تعددية مبتورة وتعسفية؛ هي مبتورة لأنها تريد الاعتراف بالاختلاف بين الطوائف وتنكر التعددية داخل كل طائفة، كما تنكر حرية الفرد لصالح وحدة الجماعة الطائفية، وهي تطالب بحرية الاختلاف بين الجماعات، وتتبنى ممارسة الاستبداد ومنع الاختلاف داخل كل طائفة، هي تعسفية لأنها تفترض ان كل افراد الطائفة خياراتهم واحدة متجانسة، وأن هذه الخيارات هي مختلفة ومنقطعة عن خيارات افراد آخرين في طوائف أخرى، ولهذا فهي باسم “تعددية مزعومة”، تقيم معازل بشرية يسود فيها استبداد يمنع الاختلاف والتعدد.

التعددية هذه تتيح افتراس الجماعة لحقوق الفرد الانسانية، من جهة اولى، ولحقوق الدولة السيادية من جهة اخرى

التعددية هذه تتيح افتراس الجماعة لحقوق الفرد الانسانية، من جهة اولى، ولحقوق الدولة السيادية من جهة اخرى، ثم تختصر الجماعة بحزبها الطائفي وتختصر الحزب بزعيم يحكم ليورث.

قد يقول قائل، ان الطور الذي وصل اليه نظام المحاصصة الطائفي الحالي، يحمل في ممارساته، سمات دامغة من خطايا التعددية المبتورة والتعسفية!… قد يكون هذا الاستنتاج صحيحا لكن اعتماد الفيدرالية المقترحة، يقونن المحاصصة ويُمَأْسِسُهَا ويُشَرِّعُها، كحقيقة دائمة راسخة، لا سبيل لتخفيفها او استئصالها والتخلص منها.

والتاريخ والحاضر اللبنانيين حافلين بقيام زعماء الطوائف كافة، وميليشيات أحزابها الطائفية كلها، بنبذ كل رأي حر، مختلف عن رأي قيادة الطائفة، وخوض معارك تخوين وعزل، وصولا الى قمع وانتهاك الحقوق الانسانية الاساسية، أو التهجير من السكن العائلي وحتى القتل، لكل خارج عن سلطة زعيم طائفته ورافض للانضواء في قطيع الزعامة فيها.

الدعوة الى الفيدرالية اللبنانية تفترض ان الهوية كجزء من ماهية الفرد هي صفة جينية كاملة منجزة ثابتة عبر العصور ومستمرة ابد الدهور وهو ما يكذبه التاريخ والواقع

والدعوة الى الفيدرالية اللبنانية تفترض ثانيا خلافا لصيرورة التطور، ان الهوية كجزء من ماهية الفرد أو الجماعة، هي صفة جينية، كاملة منجزة ثابتة عبر العصور ومستمرة ابد الدهور، وهو ما يكذبه التاريخ والواقع، ليس بالنسبة للهوية فقط بل في مسألة البصمة الجينية الوراثية أيضا! فلا وجود لهوية منجزة تامة، تستمر أبدية دهرية، بل أنَّ كُلَّ هوية هي قيد البناء والتراكم، دينامية تَبَلوُرِها تتصل بالزمان والمكان، وبالاجتماع السياسي لشعوبنا، وامكانية تحققها وترسيخها مشروط، بالمجال العام وعلاقة مجتمعاتنا بأنظمة الحكم في بلادنا، وشرعية السلطات وحسن حوكمتها.

ورغم ان الدين يشكل جزءا من هوية الفرد ووجدانه، إلاّ أنَّ الانسان ليس كائنا دينيا بحتا وصافيا، وهويته ليست أحادية الابعاد، واختصارُ هويّته بالانتماء الديني، ابتسار لأبعاد أخرى في كينونته، وارتكاب تعسفي مضاف الى تعسف سابق، والهوية في عالم اليوم، هي هوية مركبة بأبعاد مختلفة ومتعددة فعلا ؛ ففي كل انسان تعدد غني ومتنوع، وفي كل لبناني هويات متساكنة، تبدأ من عائلته الصغيرة الى الانتماء لمسقط راسه ومنطقته، او عائلته الموسعة، وصولا الى مذهبه ثم ديانته، ومن بعد ذلك الى انتمائه لوطنه والدفاع عن دولته، الى عروبته ولغته الام، وهو موسوم بخياراته وسلوكياته الغذائية وانماط عيشه، وبتكوِّن ذائقته الثقافية والفنية وانحيازاته الرياضية، وبتبلور اهتماماته بقضايا انسانية كبرى، وهو إضافة لكل ما تقدم، مستهلك منفتح العقل والقلب على كل جديد، في عصر أصبحت كوكب الأرض فيه كناية عن قرية صغيرة، وهو ركيزة وهدف، للإبداع والبحث والاختراع، فضاؤه التنافس والتزام معايير الجودة والابتكار، هو كائن لا يُختَصُرُ وجوده الدين، بل تتكون أبعاد شخصيته بتكوينه العلمي وبمستوى استهلاكه وموقعه الاقتصادي والمهني، وتتحدد خياراته وأنشطته على ضوء هذه الأبعاد كافة،

والنظام السياسي وآليات الحياة الديموقراطية، وأنظمة الانتخاب والمنظومة القانونية وأساليب تسيير المرافق والخدمات العامة، واستقرار المجتمعات الانسانية وازدهارها، مشروط بأن تكون السياسات العامة، تجسيدا لهذه الأبعاد جميعها، وانعكاساً لتنوعها واختلافاتها.

واذا كان قد جرى صراعات تاريخية سابقة على أساس ديني، في ظروف محددة ومراحل تاريخية سابقة، فإن هذا الأمر كان ممكنا في حينه وظروفه، وهو ليست قاعدة، تطبَّق في كل ظرف و زمان ومكان!.

إنَّ صراع الهويات الدينية، قد جرى في عصور الانتقال من التشكيلات الاقطاعية والقبلية، ومهدت لقيام واستقرار الامبراطوريات القديمة، ( الرومانية، العثمانية، الجرمانية، القيصرية الروسية)، كان ذلك قبل استكمال الثورة الصناعية لمسارات تقدمها واستقرارها، وعندما تم انتقال الدول الرأسمالية الصناعية، الى طور التنافس والصراع على الأسواق، و الاستحواذ على مصادر الطاقة والمواد الخام، ولدت حروب أخرى، على قاعدة الهوية القومية ( الدولة الوطنية الكولونيالية) ونتج عن ذلك قيام عقائد شمولية، طبعت صراعات وحروب القرن الماضي.

هل “صراع الحضارات” هي حرب فعلاً، ام انها منظومة ايديولوجية تتصارع فيها، عقائد وكراهيات، وعمادها فتاوي وكتب وفضائيات، فيما يغيب عن ساحاتها، أي توازن يطال المعسكرات المتقابلة؟

مع نهاية الحرب الباردة وسقوط المنظومة السوفياتية، ظهرت نظرية حرب الحضارات، والتي اعتبرت العالم الصناعي حضارة وهوية واحدة ( اي ثلاثة ارباع الكوكب)، في مواجهة عالم اسلامي، يحمل ثقافة قطيعة وانفصال مع بقية العالم، وكانت هذه النظرية، تشكل حاجة اميركية لاعلان الحرب على الارهاب بعد أحداث ١١ ايلول 2001، وتبريرا لاحتلال العراق، وانكارا استباقيا لتطورات الوقائع الجارية واحداثه اللاحقة.

فقد تصاعدت آليات العولمة وبناها، وتهاوت الحدود الجمركية والعوائق التجارية، كما سقطت العقائد الايديولوجية، وتهاوت أكثرية الانظمة الشمولية، وتأكدت حرية انتقال السلع والرساميل والافراد وفرص العمل والخدمات، وتعولمت الصناعات ومراكز الانتاج لتشمل الكوكب ودول الارض، وأصبح البحث العلمي والابتكار، واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية والنانو تقنية، هي مصادر القيمة الربحية المضافة، والقطاعات الاستثمارية الاكثر جدوى ماليا، وهي قطاعات تعتمد على فردانية الفرد وابتكاره وابداعه، ولذلك فان حرية هذا الفرد وحقوقه الأساسية، أصبحت شرطا كونيا ليس فقط لنظام قيم العولمة فحسب، بل لشروط كفاءة العولمة ذاتها ومستوى انتاجيتها و ربحيتها، كما شكلت هذه الميادين مجالات الصراع الحقيقية، في كل عواصم العالم ومراكز أبحاثه وجامعاته، ومراكز صناعة القرار فيها.

فهل “صراع الحضارات” هي حرب فعلاً، ام انها منظومة ايديولوجية تتصارع فيها، نظريات ورموز وعقائد وعواطف وكراهيات، وعمادها فتاوي وكتب وفضائيات، فيما يغيب عن ساحاتها، أي توازن يطال المعسكرات المتقابلة، ويندر أي تناسب معقول للقوى المتقاتلة، ويغيب اي تعادل بتقنيات صراعاتها، فيما يتبدى الاختلال الفادح، عند مقارنة الاقتصادات الداعمة للأطراف المنخرطة في الحرب المزعومة تلك.

اسانيد الفيدرالية ليست جديدة، بل عرض جديد لملابس قديمة، ومرتكزاتها الفكرية تبريرية واهنة

الصراع قانون من قوانين البشرية وسننها التاريخية، لكن شعوب العالم ونخبهم، وحسب درجات تقدمها وحضارتها، تركت منذ عقود صراع الهويات الذي يبدأ لكي يدمّر، ويستمر دون حلول او نتائج، ويتأبد من جيل الى جيل، ولا تتحصل من خوضه أية نتيجة، لان طعم أي نصر فيه، مر بطعم الخسارة.

يتبين مما تقدم ان اسانيد الفيدرالية ليست جديدة، بل عرض جديد لملابس قديمة، وان مرتكزاتها الفكرية تبريرية واهنة، فماذا عن صلاحياتها كحل لازمة راهنة، وما هي امكانية تحقيقها في ظروف لبنان وأزمته، و ماهو مدى مواءمتها لضرورات الاقتصاد والسياسات الدولية؟، وهي مواضيع نناقشها في مقالات قادمة.

السابق
جرائم فساد وتبييض أموال أبطالها مستشارون في وزارة الطاقة!؟
التالي
مصادر قضائية لـ«جنوبية»: لا ملف للعميل غضبوني.. ولماذا لا يُعدل النواب الغيارى على المقاومة القوانين؟