علماء الدّين التنويريّون..سرُ النُدرة!

السيد محمد حسن الامين

العلامة السيد محمد حسن الأمين، رحل بعد معاناة مع فيروس كوفيد -19، في 10 نيسان (أبريل) الجاري، ووري في الثرى في بلدة “شقرا”، جنوب لبنان.

سبقهُ بسنوات، صديقه ورفيق دربه السيد هاني فحص، وقبلهما المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله، ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وتقدم الجميع عام 1996 العلامة الشيخ عبد الله العلايلي! أسماء مهمة، يجمع بينها الانتماء إلى لبنان، تلك الجمهورية التي كانت منارة للعلم والحرية وصناعة الأفكار والتجريب المستمر الذي لا ينتهي.

لبنان الذي منح هؤلاء جميعاً روحه، فتعددت اهتماماتهم، ولم تقتصر على الأدوار التقليدية لعالم الدين. هم استطاعوا أن يكونوا لبنانيين أولاً، بهواهم، وذائقتهم، وأناقتهم، وحبهم للحياة، وقربهم من الأفكار الجديدة، وعلاقاتهم المتنوعة بالمثقفين والأدباء والسياسيين، وحتى الفنانين والموسيقيين.

البيئة كان لها تأثير كبير في هؤلاء. لم يركنوا إلى الكانتونات المغلقة، أو يقبعوا حبيسي هوياتهم المحددة؛ بل شدّتهم تلك الغواية الكبرى التي ميزت لبنان لسنوات، غواية العقل الحر الذي يطلق الأسئلة من دون الخشية من ملامسة المقدس أو حتى محاججته وتجاوزه.

التنوّع اللبناني بين الطوائف والأعراق، وطبيعة الفرد المتمردة على التقاليد، والتداخل المجتمعي الكبير، والعائلة الواحدة التي تجد بين طياتها المتديّن والعلماني، المتحزّب والكاره للأحزاب، الليبرالي والمحافظ.. الزيجات المختلطة، والجيرات التي رغم الحرب الأهلية لم تتحوّل إلى عداوات دائمة، كل هذه عوامل مجتمعية ساعدت في أن يكون العلايلي وشمس الدين وفضل الله وفحص والأمين، على ما هم عليه: علماء دين تنويريون.

العلامة الامين وغيره من التنويريين خضعوا لغواية العقل الحر الذي يطلق الأسئلة من دون الخشية من ملامسة المقدس أو حتى محاججته وتجاوزه

“التنوير” هو الصفة الأساسية الجامعة بين هؤلاء الرهط من المفكرين. وهي صفة لا تعني تطابقهم في الآراء، أو تلازم مساراتهم. بل كان لكل شيخٍ طريقته الخاصة، وأسلوبه الذي يختلف فيه عن الآخر. وهذا التباين في دروب التفكير والعمل، نابع من الفروقات الفردية أولاً، والتجارب الفكرية والفقهية والسياسية ثانياً، وأيضاً مدى محاباة أو تأثر أو مصادمة كل واحد منهم للجمهور والطبقة السياسية الحاكمة.

رحيل السيد محمد حسن الأمين، يطرح سؤالاً عن سر ندرة علماء الدين التنويريين في الوقت الحالي؟ فعندما توفي الشيخ عبد الله العلايلي، ومن بعده الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله، والسيد هاني فحص، وأخيراً الأمين، جميع هؤلاء لم نجد هنالك أسماء استطاعت أن تسُد الفراغ الذي أحدثوه، أو طرح أفكار جريئة كالتي كانوا ينادون بها، أو بناء خطاب ديني حداثي قادر على التأثير والتجاوز!

إقرأ أيضاً: غياب السيد محمد حسن الأمين..بعض آخر مشتركاتنا يموت

هل هنالك إشكالية حقيقية في طريقة تكوين “عالم الدين” اليوم، أم أن أدواره اختلفت، واهتماماته تبدلت، وعلاقاته بالمثقفين والساسة والدولة والمجتمع تعقدت أو انتفت؟ أم أن دور الدين في حد ذاته تبدل، وعلاقاته بـ”المجال العام” شابتها محددات استجدت لم تكن موجودة سابقاً؟

ربما هو أيضاً زمن أفولِ الشخصيات الدينية المثقفة الكبرى، التي لا يمثلُ لها الفقه أو التقاليد حاجزاً نحو التطور والانعتاق من العقل السكوني.

العلايلي، شمس الدين، فضل الله، فحص، الأمين.. جميعهم اشتغلوا على تكوين ذواتهم علمياً وفي حقول شتى: الفقه، اللغة، الأدب، أصول الفقه، الثقافة العامة، السياسة، الفنون.. كما أنهم تواصلوا مع منتجات الثقافة الحديثة، وتفاعلوا معها بأشكال مختلفة. ربما أخذت هذه الأشكال منحى نقدانياً في البدايات، إلا أنهم ما لبثوا أن تفاعلوا تفاعلاً منفتحاً مع منتجات الفكر الغربي والفلسفة الحديثة، واختطوا منهجاً يجعلهم يؤمنون بحق الآخرين في الاختلاف وحرية التعبير والتفكير، وأن الكرامة هي للإنسان بغض النظر عن دينه وجنسه وعرقه.

أبعد من ذلك، كتب عبد الله العلايلي نقداً لاذعاً للفكر الديني السائد، ومارس حياة شخصية غير تقليدية. ومحمد مهدي شمس الدين، نظرَ الى ولاية الأمة على نفسها، ودور المرأة في الشأن العام. أما محمد حسين فضل الله فقد آمن بـ”طهارة الإنسان” ودفع نحو خيار “دولة الإنسان”، فيما الراحلان هاني فحص ومحمد حسن الأمين آمنا بـ”مدنية الدولة”، ووقفا علانية ضد احتكار المذهب ضمن تفسير محدد بعينه!

كان الاستقلال هو ديدن هؤلاء العلماء، وصداقاتهم مع المثقفين منحتهم فرصة للحوار الحر من دون قيود. وعدم انضمامهم الى “الأحزاب” صيّرهم فوقها، نقاداً لها، وأقرب إلى روح “الدولة” منهم إلى روح “الطائفة”.

رحيل السيد الأمين يطرح سؤالاً عن سر ندرة علماء الدين التنويريين في الوقت الحالي

برغم أن هناك معاهد شرعية وحوزات ومدارس علمية وفقهية عدة في لبنان، سواء تلك التابعة لـ”دار الفتوى”، أم “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”، أم “حزب الله” أم “حركة أمل”.. وسواهم، إلا أن جميع هذه المؤسسات لم تستطع أن تخرّج جيلاً جديداً من علماء الدين، قادراً على أن يصنع “لاهوت تحرير” حقيقياً، لا يكون فيه جزء من العقل الجمعي، ولا خاضعاً لكهنوت المؤسسة.

بالتأكيد، العلماء الراحلون المشار إليهم أعلاه، ليسوا نماذج مكتملة، أو تجاربهم لم تشبها الأخطاء، أو أن أفكارهم متحررة بالتمام والكمال من كل شيء؛ إلا أنهم كانوا أصحاب خبرات تماثلُ نظرائهم في بقية الأديان والثقافات. إلا أن ما يميزهم عن علماء الدين الحاليين، هو قدرتهم على إطلاق العنان لعقولهم، وعدم الخضوع للمؤسستين الدينية والجماهيرية، وأيضاً بقاؤهم على مسافة من المؤسسة السياسية، مكّنتهم من أن تكون لهم آراؤهم المستقلة، وحفظت لهم احترامهم لدى القيادات ليس في لبنان وحده، بل حتى في العالم العربي.

السابق
وفاة نجمة «هاري بوتر» هيلين مكروري بسبب السرطان
التالي
المؤسسات الشيعية تفقد بانيها و«أمينها» محمد شعيتو: أقصاه الفساد ونصره القضاء