وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان.. إما ممانعة أو دولة

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

على الرغم من تعقيدات المشهد اللبناني وتناقضاته الداخلية التي أوصلت لبنان إلى حال الانسداد الكامل والتعطيل الشامل لحياته العامة، إلا أن تفاعلات الأزمة اللبنانية والتداخل المكثف بين الداخل والخارج، جعل المشهد الداخلي باصطفافاته الداخلية وقواعد اللعبة فيه، قاصراً عن تقديم أجوبة شافية لتفسير المشهد اللبناني أو اعتباره أساساً وبداية لحل الأزمة.

فلبنان بات جزءً من مشهد أوسع لصراع إرادات الدول وتعارض مصالحها وتناقض استراتيجياتها في المنطقة، بحيث تكاد تكون الأزمة الاقتصادية في لبنان مجرد تفصيل هامشي، ويصبح التأليف الحكومي في حالة إرجاء غير محدد الأمد، بانتظار انقشاع مستقبل المنطقة بأسرها، إما بحسم الارجحية لصالح أحد المحاور الدولية المتنافسة، أو انبثاق تسوية بينها تحدد قواعد التوزيع الداخلية ومنطق التراتبيات وموجهات السلوك السياسي العام.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: متى تبدأ الثورة في لبنان؟

لبنان واقع داخل حقل تنافس بل تصادم استراتيجي بين دول عدة، بعضها إقليمي والآخر دولي، ومع غياب الأرجحية لأحد هذه الأطراف وصعوبة تسوية قريبة بينها، فإن هذا كاف لدفع الأطراف المتصارعة إلى رفع سقفها، واستعراض قواتها، إما تعزيز المكتسبات القائمة أو خلق معطيات قوة جديد. ولهذا لم تعد المشكلة الجوهرية في لبنان هي مشكلة تأليف الحكومة أو إنجاز الاجماع السياسي أو لجم التدهور الاقتصادي، فهذه أمور لم تعد بديهية أو أساس النقاش الدائر وراء كواليس السياسة، بل بات المعطى الأولي هو تأمين حضور نافذ ومستقر للدول المتصارعة على الشأن اللبناني، لا يقتصر على التأثير على صناعة القرار اللبناني، بل يحدد تموضع لبنان الإقليمي ووجهته الاستراتيجية في المنطقة.

تأسست الحياة السياسية اللبنانية على مرجعيات خارجية، فلم يعد القرار السياسي تقيداً بدستور، بقدر ما توجهه رسائل وشيفرات وكلمات سر يجيد السياسيون المحليون تلقيها وتنفيذها ببراعة!

منذ تأسيس الطائف على وصاية سورية، تأسست الحياة السياسية اللبنانية على مرجعيات خارجية، فلم يعد القرار السياسي تقيداً بدستور أو ترجمة لرأي عام أو ميل مجتمعي، بقدر ما توجهه رسائل وشيفرات وكلمات سر يجيد السياسيون المحليون تلقيها وتنفيذها ببراعة. ما جعل استقرار لبنان ومداخل الحل فيه تسويات وصفقات تصنع وتنتج في العواصم النافذة، وبعد ذلك يتم تأمين تأويل دستوري لها، وتطعيمها بمحليات رثة وشعبويات احتفالية وديمقراطيات شكلية. هي وضعية لم تترسخ سلوكاً عاماً فحسب، بل تجذرت ذهنية وطريقة تفكير وفهم لحقيقة الدولة والوطن والسيادة.

استقر التجاذب الدولي حول لبنان على محورين:

محور إيراني، اعتمد اسلوب الاختراق من داخل المجتمع، أي تأمين قاعدة ولاء داخلية ذات عمق شعبي، لا يكتفي بمدها بمستلزمات فائض القوة العسكرية والتنظيمية، بل يعمد إلى تعميم أيديولوجية دينية، تقوم على أساس عقيدي شديد التركيز، تملك طاقة تعبوية وقوة تضامنية صلبة، وتُسيِّج الموالين بعوازل فاصلة وعميقة عن المكونات المحلية الأخرى، وعلى ذهنية الصراع المفتوح وعدم تقديم تنازلات. هي ذهنية ليس غرضها التنافس في تقديم نموذج الأداء السياسي الأمثل أو صورة الحكم الأفضل، بل غرضها الإمساك بمفاصل الواقع، عبر اللعب على تناقضاته وهشاشة بنيته المجتمعية وتضخيم الحساسيات الطائفية، وبناء تحالفات محلية والاستفادة من الثغرات الدستورية وضعف الدولة، كل ذلك لفرض معطيات أمر واقع تؤمن للمحور الإيراني القول النهائي والحاسم في كليات القرار السياسي ووجهته الاستراتيجية.

المحور الثاني، هو المحور الغربي، الذي تحالفت معه القوى العربية التقليدية والمحافظة، بعد انكفاء وانحسار المد اليساري داخل المجال العربي. هذا المحور صرف اهتمامه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي إلى الشأن الاقتصادي وبناء السياسات وفق ضرورات السوق. هو تحول تسبب بتغير جذري في الأولويات أدى إلى تدن واضح في الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، وتراخ في تأمين نفوذ سياسي داخلي، ولمسنا منه لامبالاة جلية تجاه أحداث لبنان الداخلية، وتسامحاً تجاه تعاظم قوة حزب الله وغض الطرف عن مسعاه في الإمساك بقرار الدولة، بل استعداداً للاعتراف به وعقد تسويات معه.

فراغات داخلية سهلت مهمة حزب الله في النمو والتوسع وإنشاء ولاءات متعددة

كل ذلك ترك فراغات داخلية، سهلت مهمة حزب الله في النمو والتوسع وإنشاء ولاءات متعددة، نجح معها في تأمين هيمنة أمنية شاملة، أكثرية نيابية لصالحه، رئاسة جمهورية موالية، وحكومة يملك إما قدرة التحكم بقرارها أو تعطيلها. هو نجاح حقق إنجازاً نوعياً للنظام الإيراني في الإمساك الكامل بإحدى أهم العواصم العربية، لكن أثمانه كانت باهظة، إذ بدأت تظهر مع العهد الإيراني الجديد، قطيعة كاملة بين لبنان ومحيطه، فقدان الثقة الدولية بكفاءة بنظامه السياسي، سقوط مدو لعملته، انهيار نظامه المصرفي، حصار وعقوبات متعددة الابعاد، وحجب المساعدات. ما فُهم أو قدِّم على أنه تصدير لثورة نصرة “المستضعفين”، بات واضحاً أنه سجنٌ كبير يخنق بداخله المبادرة الخلاقة والتعبير الحر، يعدم فرح الحياة، يقوض الدولة ويعطل مؤسساتها، يحاصر مظاهر التمدن والعمل الديمقراطي، ويلغي كل صور التنوع والتعدد.

لبنان الآن، ومعه المجتمع الدولي، أمام مفترق طرق: إما تحويله إلى بلد “ممانعة” فوق أرض سائبة، وإما اعتباره دولة-أمة ذات سيادة، تملك وحدها الحق الحصري في رسم سياسة وطبيعة علاقتها بالعالم.

السابق
والدة رامي مخلوف إلى موسكو.. تبعثر السلطة من حول الأسد
التالي
مكتب الحريري يُكذّب بعبدا ويفضح تشكيلة عون.. هكذا يريد العهد توزيع الحقائب!